أصدر السيد رئيس القضاء، في الإسبوع الماضي، قراراً بتأسيس محكمة جنايات تختص بمكافحة الفساد، ومخالفات المال العام، ونظر الدعاوى الخاصة بقضايا الفساد، وإستغلال النفوذ، والتعدي على المال العام، وتخريب الإقتصاد الوطني. وذلك بالنظر في القضايا التي تحال إليها من النيابات المتخصصة، والقضايا التي يحيلها لها السيد رئيس القضاء. وقد أثار القرار أسئلة في أجهزة الإعلام، حول ما إذا كان تكوين تلك المحكمة يعكس إرادة سياسية لدى الحكومة في محاربة الفساد. وواقع الأمر هو أن التساؤل قد قاد إليه بعض الخلط في دور الأجهزة المختلفة للسلطة. ففي حين أن القضاء هو أحد السلطات الثلاث والتي تتشكل منها الدولة، إلا أنه ليس أحد الأجهزة التابعة للحكومة، والتي تنفذ سياساتها.
العلاقة بين السلطات الثلاث يحددها نظام الضوابط والتوازنات checks and balances الذي أقامه الدستور للحد من سلطاتهم عن طريق مراجعة السلطات لبعضها البعض. من خلال الفصل بين السلطات الثلاث، أنشأ الدستور نظاماً يمنع أي سلطة واحدة منهم من أن تتمتع بقوة تمكنها من الإنفراد بالسلطة، والإفلات من المحاسبة. النظام الدستوري يجعل من كل سلطة من السلطات الثلاث كابح على السلطتين الأخيرتين. على سبيل المثال، لرئيس الجمهورية حق الاعتراض على القوانين التي تصدرها الهيئة التشريعية القومية. ويلزم للهيئة التشريعية القومية لتجاوز هذا الاعتراض، أن تجيز المشروع بأغلبية الثلثين في المجلسين. مثال آخر هو أن المحكمة الدستورية يجوز لها إعلان عدم دستورية قانون ما صادر من السلطة التشريعية، كما ويجوز لها أيضا إلغاء قرار جمهوري، أو مرسوم جمهوري صادر من رئيس الجمهورية، إذا رأت فيه ما يخالف الدستور.
المحاكم المتخصصة والمحاكم الخاصىة وفقاً لذلك فإن السيد رئيس القضاء، أعد العدة لممارسة السلطة القضائية لدورها، فيما يتعلق بتطبيق القوانين التي تتصل بالفساد. وهذا الإعداد يتمثل في تكوين محكمة متخصصة في تطبيق القوانين العقابية المتعلقة بالفساد. والمحاكم المتخصصة، على عكس المحاكم الخاصة، الغير مرغوب فيها، لكونها منشأة لمحاكمة بعينها بسلطات وإجراءات إستثنائية، فإن المحاكم المتخصصة منشأة ضمن السلطة القضائية، ومن أعضائها وتطبق القوانين الإجرائية، والموضوعية العادية، ولكنها متخصصة في محاكمة مواضيع أو تطبيق قوانين معينة. وهذا التخصص مطلوب، حتى يمنح القضاة فرصة للإستزادة من المعلومات الفقهية المتصلة بما يحاكمون من الدعاوى. وتخصيص محاكم لنوع معين من الجرائم لا يرمي لأكثر من تطبيق قوانين معينة، على يد قضاة أكثر دراية بها من غيرهم، ممن هم على نفس درجتهم، ولكن ذلك لا يعني تطبيقها لسياسة معينة تميزها عن باقي المحاكم، وإنما تطبق القوانين السارية على المعروض عليها من نزاعات.
تكامل السلطات الثلاث في محاربة الفساد الفساد ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة، تؤثر سلبا على الحكم الراشد، و تقوض المؤسسات الديمقراطية، لأن الفساد يجعل الهدف من وراء القرار تحقيق الكسب المالي الخاص بأصحاب القرار، بدلا من تحقيق المصلحة العامة. الفساد من شأنه أن يعيق التنمية الاقتصادية، حين يزيد تكلفة المشاريع الحكومية بما يفرضه من عمولات لأصحاب القرار، وبما يؤدي إليه من أن تفوز بالتعاقدات الحكومية جهات ليست هي الأكثر تأهيلا لتنفيذها، كما ويخلق تعقيدات بيروقراطية، بغرض تسهيل طلب والحصول على الرشاوى، وكل ذلك يزيد التكاليف، مما يضر بالتطور الإقتصادي. كما ويسهم الفساد في تخريب العملية الديمقراطية عن طريق تشويه العمليات الانتخابية، مما يفسد الأساس الذي تقوم عليه المؤسسات الديمقراطية. بشكل عام يؤثر الفساد سلباً على سيادة حكم القانون. القضاء يتوجب عليه أن يقوم بدوره في مناهضة الفساد، أولا برده عن أن يؤثر على قراراته، وثانيا عن طريق تطبيق القوانين التي تمنعه وتعاقب على إتيانه، دون أن يكون جزء من أي سياسة عامة بغض النظر عن مراميها وأهدافها.
فإذا كانت السلطة القضائية قد أعدت عدتها لأداء دورها، بأن خصصت لها محكمة تقوم بالفصل في جرائم الفساد بشكل ناجز ومقتدر، فإنها لن تتمكن من أداء واجبها على الوجه الأكمل، إلا إذا ادت السلطتان التشريعية والتنفيذية دوريهما، بأن أعدت الأولى القوانين القادرة على معالجة كل مظاهر الفساد، بتجريم تلك المظاهر أولاً، وإختيار العقوبة المناسبة لها ثانياً. كما ويستلزم ذلك أن تقوم السلطة التنفيذبة بدورها في إكتشاف السلوك الإجرامي المتصل بالفساد، ويقوم النائب العام المستقل بإعتباره يمثل المجتمع ككل في مكافحة الجريمة، وملاحقة المجرمين، بدوره الإتهامي في جمع البينات، وتوجيه الإتهام لمن يسفر التحري والتحقيق في السلوك الإجرامي، على تورطه في إرتكاب الجريمة المعينة. وإذا كانت الحكومة والسلطة التشريعية تتحركان من دوافع سياسية تهدف لإرضاء الرأي العام، يظل القضاء والنائب العام بإعتبارهما أجهزة عدلية خارج هذه الدوافع السياسية، ويقوم كل منهما بدوره في تطبيق القانون الصادر وفقا للدستور.
الإرادة السياسية لمكافحة الفساد تهدف مكافحة الفساد لوقف تأثيره على القرار الحكومي، ويقتضي ذلك وضع التشريعات اللازمة من جهة، ووقف الممارسة العملية لذلك التأثير. وهذا الأمر يتطلب إرادة سياسية لإتخاذ القرارعلى الصعيدين التشريعي والتنفيذي، لأن السياسيين هم الذين يتخذون القرار على الصعيدين، ولأنهم هم المستهدفون من الفساد في المقام الأول. نتيجة لذلك فإن الإرادة السياسية لمكافحة الفساد تظهر فيما تقوم به السلطتان التشريعية، والتنفيذية، في حين تظل السلطة القضائية مهتمة فقط بالمحافظة على سيادة حكم القانون.
يلعب تكوين الأجهزة الرقابية، المستقلة عن السلطة التنفيذية، التي تعمل على مكافحة الفساد، دوراً هاما في فصل سلطة الرقابة على القرار، من سلطة إصداره، مما يُسهل الوقاية من الفساد. فقبل قيام الدولة بمحاكمة الجرائم المتصلة بالفساد، على الدولة وفقاً لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أن تتخذ الإجراءات الوقائية لمنع الفساد قبل وقوعه. وقد خصصت الإتفاقية الفصل الثاني منها للتدابير الوقائية لمنع الفساد، فتطلبت أن تكفل كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، وجود هيئة أو هيئات، حسب الحاجة، تتولى منع الفساد، وتقوم كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، بمنح تلك الهيئة أو الهيئات ما يلزم من الاستقلالية، لتمكين تلك الهيئة أو الهيئات من الاضطلاع بوظائفها بصورة فعالة وبمنأى عن أي تأثير لا مسوغ لـه. وينبغي توفير ما يلزم من موارد مادية وموظفين متخصصين، وكذلك ما قد يحتاج إليه هؤلاء الموظفون من تدريب للاضطلاع بوظائفهم. وقد فشلت السلطة التنفيذية حتى هذه اللحظة في تعيين المفوضية القومية للشفافية والإستقامة ومكافحة الفساد على الرغم من مرور عامين على صدور القانون الذي شرع طريقة تكوينها وسلطاتها.
من الجهة الأخرى فإن الدور الهام الذي تلعبه الحكومة في إقتراح التشريعات يكشف عن ضعف الإرادة السياسية لديها في مكافحة الفساد. فما زالت المنظومة القانونية بعيدة عن القيام بدورها في محاربة الفساد، بتشريع الأحكام القانونية اللازمة لمقابلة تسرب السلوكيات الفاسدة لأجهزة الدولة، فما زلنا نفتقد القوانين العقابية التي تُعرّف الأفعال المكونة للمارسات الفاسدة بشكل قاطع، وتحدد لها عقوبات، حتى يمكن إحالة مرتكبيها للمحاكمة أمام المحكمة التي أنشأها رئيس القضاء. بالإضافة لإغفالها لتشريع عدد من الجرائم ذات أهمية قصوى بالنسبة لمكافحة الفساد مثل المتاجرة بالنفوذ وهي من الجرائم الخطيرة، تقع حين يتم إستغلال نفوذ شخص، لمنح شخص آخر، ميزة لا يستحقها، سواء أكان ذلك بالتوظيف في الوظيفة العامة، او في الدخول في معاملة مع الجهاز الحكومي، أو المال العام.
ولا نبرئ السلطة التشريعية أيضا من ضعف الإرادة السياسية في مكافحة الفساد، فهذا يبدو جليا في فشلها في أداء دورها الرقابي فيما يتعلق بمراقبة السلطة التنفيذية في أداء واجبها بالإلتزام بقواعد النزاهة، فيما يتعلق بإدارتها للأجهزة الحكومية. فرغم أن السلطة التشريعية شرعت قانون الشراء والتعاقد لعام 2010، وتلته السلطة التنفيذية بإصدار لائحة الشراء والتعاقدات، إلا ان السلطة التنفيذية في الممارسة العملية لم تلتزم بأي منهما، وقد ظل تقرير المراجع العام السنوي في السنين التي تلت صدور القانون، يشير بإستمرار إلى المخالفات التي تقع فيها الوحدات المختلفة، بقيامها بإجراءات التعاقد، قبل الحصول على موافقة الشراء، دون أن تقوم الهيئة التشريعية القومية بواجبها الرقابي، بإستجواب الوزير المعني ومساءلته عن ما يتم داخل وزارته من إغفال لقانون وثيق الصلة بممارسات الفساد.
الثراء غير المشروع يبدو ضعف الإرادة السياسية في مكافحة الفساد بشكل مأساوي في العقاب على الثراء غير المشروع، وهي الجريمة التي تستهدف المجتمع السياسي، وإجراء إبراء الذمة، وهو إجراء يستهدف نفس الفئة. تتطلب إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد معاقبة الثراء غير المشروع، وتعرفه بأنه زيادة في ممتلكات الموظف العمومي زيادة كبيرة، لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة بالنسبة إلى دخله المشروع. وهو تعريف يبدو انه مخالف لإفتراض البراءة، إلا أنه ليس كذلك، بالنظر لأن إفتراض البراءة يمكن دحضه بالبينة المباشرة، كما ويمكن دحضه بالبينات الظرفية على حد سواء. وبالتالي فإن القانون لا يتطلب أن يثبت الإنسان براءته، بل أن يقوم بدحض البينة الظرفية ضده المتمثلة في زيادة محسوسة في ممتلكاته لا تبررها مصادر دخله المعلومة. والقانون في هذه الحالة يحول عبء الإثبات ليقع على المتهم، لأن المسألة تقع في علمه هو، فيجوز له أن يدرأ التهمة عن طريق إثبات المصدر المشروع لما ظهر عليه من ثراء كميراث أصابه مثلا نتيجة لوفاة قريب له.
إستخدم قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، نفس عناصر التعريف الذي إستخدمته الإتفاقية الدولية، لتعريف الثراء المشبوه، وذلك حين نص في المادة (7) على أنه “يُقصد بالثراء المشبوه كل مال يطرأ على أي شخص و لا يستطيع بيان أي وجه مشروع لاكتسابه” وإستخدام نفس تعريف المادة من إتفاقية الأمم المتحدة والتي تجرم الفعل بإعتباره ثراء حراماً، لتخفيض الدرجة من التجريم إلى مجرد إشتباه يمنع العقاب عليه، ويحول المادة المذكورة، إلى مجرد لغو لا قيمة له. فما هي نتيجة فشل الشخص في إثبات مصدر مشروع لثروته ؟ الإجابة لاشي، إذ أنه لايوجد عقاب على ذلك في القانون، صحيح أن المادة 14 من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه تنص على أنه “يجوز للمحكمة أن تحجز على المال موضوع الثراء الحرام و المشبوه و يجب عليها أن تأمر بمصادرته لمصلحة الحكومة عند الإدانة أو ثبوت الثراء المشبوه بحسب الحال”. إلا أن ذلك الحكم هو أيضاً لغو لا قيمة له. نظرة فاحصة للأمر توضح أنه لا يمكن العقاب على ثراء مشبوه. فالشبهة لا تجيز العقوبة، لأن العقوبة لا توقع إلا بالإدانة، والإدانة لا توقع على شبهات. ولنبدأ بالحجز، الحجز هو إجراء تحفظي ينتهي بإنتهاء المحاكمة، وبالتالي فإنه إذا لم يكن هنالك دعوى لايوجد حجز. وإذا كانت هنالك دعوى لا تؤثر نتيجتها على المال، لا يجوز توقيع الحجز، لأن الغرض ينتفي من توقيعه. إذاً فلكي يجوز للمحكمة أن توقع الحجز إبتداءً، فإنه يجب أن يكون لها سلطة مصادرته عند إصدارها حكم في الدعوى. والسؤال هنا متى يجوز للمحكمة أن توقع المصادرة على المال المشبوه؟ في حين أن المادة توجب مصادرة المال موضوع الثراء الحرام عند الإدانة، فهي تجيز للمحكمة مصادرة الثراء المشبوه لمجرد ثبوت الثراء المشبوه، ولا تشترط الإدانة لذلك. وهذا الحكم يبدو معه أن سلطة المحكمة في مصادرة الثراء المشبوه أكبر من سلطتها في مصادرة الثراء الحرام، ولكن المحكمة في واقع الأمر لا سلطة لها على الإطلاق فيما يتعلق بالثراء المشبوه. وذلك لأنه لا يتصور مصادرة بدون إدانة .
طبيعة الإجراءات الخاصة بمصادرة الثراء المشبوه نحن نتدث هنا عن دعوى جنائية، و الإجراءات الجنائية على عكس الدعاوي المدنية التي تُقدم مباشرة للمحكمة المختصة التي تنظرها، لا تنظرها المحكمة الجنائية إلا حين تحيلها لها النيابة. فإذا كان التحقيق متعلق بثراء مشبوه، وفشل المتهم في إثبات مصدر الثراء موضوع التحقيق، فأي تهمة يمكن أن توجهها له النيابة؟ المقصود من التهمة حسب المادة (5) من قانون الإجراءات الجنائية هو الإدعاء بإرتكاب جريمة، والجريمة هي الفعل المعاقب عليه. وهذا يعني دستورياً وحسب أصول القانون الجنائي، هو أن توجه إتهاما لشخص بإرتكاب فعل معاقب عليه بموجب مادة معينة في القانون. فعلى أي مادة توجه النيابة التهمة ، إذا لم تكن هنالك مادة أصلاً تعاقب على الثراء المشبوه؟ الثراء المشبوه لا يشكل جريمة بل هو حالة إشتباه فقط تنجلي بمحاكمة المسؤول وفقاً لما يقدم من بينات، فإما يُبرء مما نسب إليه، أو يدان، ولكن لا سبيل للمحاكمة إلا إذا كانت هنالك جريمة يمكن إثباتها. إذا كان المطلوب هو إثبات إشتباه فالأمر هو تحقيق وليست محاكمة.
إقرار الذمة يفرض القانون على شاغلي المناصب الدستورية والمناصب القيادية في أجهزة الدولة والقوات النظامية أن يقدموا إقرارا بالذمة خلال شهر واحد من تاريخ تولي المنصب وإقرار سنوي بالذمة يقدم خلال شهر واحد من انقضاء سنة كاملة على تقديم الإقرار السابق، وإقرار نهائي بالذمة يقدم خلال ثلاثة أشهر من تاريخ انتهاء الخدمة. تتولى فحص إقرارات الذمة لجنة خاصة تحيلها إليها "إدارة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه"
يلاحظ أن أن القانون يعتبر جميع إقرارات الذمة، والشكاوى ، بشأن مخالفة أحكام القانون ، أسراراً، ولا يجوز لأى شخص ممن يتلقونها، أو يتداولونها،أو يفحصونها، أو يحققون بشأنها، أو يحفظونها، أن يفشى أى بيان، ورد بها (2) يعاقب كل شخص يخالف أحكام البند (1) ، بموجب أحكام المادة 55 ، من القانون الجنائى لسنة 1991. ومن هنا ترى أن القانون يتعامل مع إقرار الذمة بإعتباره من الأمور السرية للدولة، وهو فهم مغلوط لما تتطلبه الشفافية ومبدأ الخضوع للمساءلة من أحكام.
المفروض هو أن تكون تلك البيانات مكشوفة ومعلومة للكافة، كما ويجب أن يكون ذلك بغض النظر عن العقوبات الجنائية التي يتعرض لها شاغل المنصب الدستوري الذي يقع تحت طائلة القانون بسبب إرتكابه لجريمة الثراء الحرام، لآن الأهم من ذلك هو المسؤولية السياسية التي يلزم تأسيسها عندما يعلم الجمهور بما قام به المسؤول.
الشفافية بالنسبة للشئون المالية للحكام تهدف الشفافية لمحاربة الفساد السياسي عن طريق إتاحة المعلومات، وذلك بإلزام الدولة بالكشف عن العلومات التي تتعلق بمشاريعها الإقتصادية، والعقود التي تدخل فيها، وجعل قواعد إختيار المتعاقد معلومة ومكشوفة للجميع. كذلك فإن كل الشئون المالية للقائمين على الدولة يجب أن تكون معلومة، فتعرف جميع مصادر دخلهم وثرواتهم الخاصة. ويجب على شاغلي المناصب العليا الكشف عن أي هدايا أو مزايا تكون قد منحت لهم. والقانون في أمريكا مثلاُ يجعل أي هدية تهدى لرئيس الجمهورية ملك للحكومة إذا كانت قيمتها تفوق 200 دولار أمريكي، بإعتبار أنها أهديت للمنصب، وليس لشخص الرئيس، و لكنه يحفظ للرئيس الخيار في شرائها عند إنتهاء مدته.
ومن الأمثلة التي تستحق النظر إليها عن قرب ما تم بالنسبة لبيتر ماندلسون، وهو حليف قوى لتونى بلير لعب الدور الأساسي في حصوله على زعامة حزب العمال عقب وفاة سميث، ولعب دوراً هاماً فى صياغة فكر حزب العمال الجديد. عقب إستقالة رون ديفيز وزير شئون ويلز على أثر حادث يوحي بتورطه في علاقة جنسية مشبوهة، ذكر متحدث في برنامج في الإذاعة البريطانية يناقش الموضوع "إن المسألة تتعلق بسلوكه وليس بميوله الجنسية فالجميع يعلمون أن ماندلسون له ميول جنسية مثلية وهذا لم يؤثر فى نفوذه السياسى" و عقب ذلك منعت هيئة الإذاعة البريطانية بتأثير من ماندلسون الإشارة لميوله الجنسية فى برامجها، وقد تم إنتقاد ذلك بشدة فى الصحافة لأن البعض رأى فيه إستغلال لنفوذه كوزير لحجب المعلومات، ولكن المسألة قللت من شعبية مانديلسون دون أن تذهب لأبعد من ذلك، حيث رأى الكثيرون أن المسألة لا تتعلق بشئون الحكم، أو بمعلومة هو ملزم بالإفضاء بها، لأن حياته الخاصة ليست من الشئون العامة. ولكنه إضطر للإستقالة حين كشفت الصحافة عن حصوله على قرض بدون فوائد يبلغ 373 ألف جنية إسترليني من جيوفرى روبنسون. و جيوفرى هذا من أثرياء حزب العمال ولكنه كان يخضع لتحقيق في مسائل متعلقة بتصرفاته التجارية بواسطة الوزارة التي كان يتولاها ماندلسون. ورغم أن الثابت أن ماندلسون أبعد نفسه تمامأ عن التحقيق، فلم يشارك فيه، ولم يتصل بأي من أعضاء اللجنة، إلا أنه لم يبلغ مجلس الوزراء بحصوله على قرض بدون فائدة، وهذه ميزة يجب كشفها للمجلس. و عند إتضاح ذلك، و رغم الصداقة الوثيقة بينهما، فإن تونى بلير لم يستطع أن يحمي ماندلسون، والذي إضطر للإستقالة، لأن المعلومة التى حاول إخفاءها هذه المرة يتوجب عليه قانوناً الإفضاء بها.
وقد عاد ماندلسون بعد ذلك للوزارة في منصب وزير شئون إيرلندا الشمالية بعد إستراحة قدرها عشرة أشهر. ولكن بلير إضطر لطرده مرة أخرى حين نشرت الصحافة أنه تحدث مع وزير الداخلية لصالح طلب قدمه أحد الأثرياء الهنود للحصول على الجنسية البريطانية، وقد كونت لجنة تحقيق مستقلة قررت أن ماندلسون لم يرتكب أي خطأ في هذه المسألة، ولكنه كان قد طرد بالفعل، وكانت التايمز قد نشرت خبر طرده تحت عنوان رئيسى نصه "جواز سفر إلى النسيان" حسنا هذا ما يعني عندي الإرادة السياسية لمحاربة الفساد.