البحث عن محمد نجيب محمد علي: (وماذا ورثنا من الشعر غير الشجن! وغير البكاء على عاديات الزمن)

 


 

 

 


هذا قول جليل، قاله الكثيرون من الشعراء الذين كفروا بالشعر وما يشعرون، وإن بدا فيه قنوط عظيم. ولكنهم ما تخلوا عن الشعر وإن أورثهم ما أورثهم من فاقة وعوز، و(ولكنه هَمُّ مع الليل قاتلُ) كما قال المجذوب!


صديقي الذي أتحدث عنه هنا يرى أنه مطارد مطلوب، وأن كل ما حوله له بالمرصاد، وكلنا نعلم من حاله ما نعلم، تعلَّم حتى أكمل جامعته، وفيها درس الفلسفة، ويا لدراسة الفلسفة والشعراء، وقبل أن تسألوا افلاطون عن ذلك، أسألوا ابن عمه الشاعر التجاني سعيد محمود فعنده الخبر اليقين من أمر الشعر والفلسفة. هذان القطبان المتجاذبان المتشاكسان المتآمران في تخريب العقول والعواطف وفي إقامتهما على ميزان من القسط ، كثيرا ما لا يستقيمان، مزقا شاعرنا وأبكياه ! وسولت له الفلسفة مما درس أن الشعر باطل حنبريت، فهجره إلى حيث وجد أن الفلسفة لا تطعمه خبزاً وأن الشعر يسرق منه ماله الذي لا يملكه، فلا نفعته مهنة المعلم ولا أطعمت أولاده سياقة الركشا، أو الرقشاء، فتوارى واختفى وعبس وبسر، وأدبر يسعى، فلم ينقذه إلا الشعر وإن قاتله فقتله (قُتِلَتْ، قُتِلْتَ، فهاتِها لمْ تقُتْلِ)!


توارى صديقي الخائف ، وألقى "تعاويذه على شرفات المدينة"، فلم يغن ذلك عنه مما يلاقي شيئاً. ثم ألقى في وجه الشعر قصائد" ضد الإحباط"، عسى ولعل، فإذا به يقنع من غنيمته بالإياب مردداً( فما ظفرت بوصلٍ ولا انا عنه سال)! وما زال في ريبه يتردد وهو الشاعر، ويستبد به الخوف، وهواجسه له بالمرصاد
الغول والعنقاء واقفان
تحت شجرة الكلام
يخطفان كل نجمة تضيء
في مسارب الظلام
وعلى تلك الحال، وفي زمن الخوف هذا، كان لابد لشاعر موسوس، مثل محمد نجيب أن يختبئ ويتوارى، ولكن خلف ماذا. وهو الخبير بدروب الإختباء، يرينا ماذا فعل، يرينا خطته (الراقصة)!.. (ربما رقصة زوربا الإغريقي، ربما رقص مع الكتيابي، رقصة الهياج).. فهو يقول( كنا نمارس رقصتنا في هياج النداء،) و... ثم:
ثم نمضي إلى جبل غير ذاك الجبل
إلى جبل لا تحاصر فيه القصيدة
أو يدعي الحاكمون بأمر العواطف
أن الذي طارد العشق بين الشوارع
كان البطل
وأن المغني إذا فاض فيه الغزلْ،
يُعْتَقَلْ!


هذا الإدراك (بأنا مدركون)، يجعل هذا الهارب المختبئ يتجول في أرجاء المدينة خائفاً يترقب. لكن مم يهرب هذا الشاعر، وهو الذي عرك التجارب وعركته؟!


أما القلق فهو ..(كأن الريح تحته)، لا يستقر على حال من القلق. هذا الديوان كله حديقة من القلق، هذا الذي يلوث أيدينا هو "دم العاصفة"، دوامة القلق، وإن بدا زاهي الألوان، كثير الشوك أليم الوخز ، والشاعر فيه ينادي لعيال الصمت حتى لا يناموا، وللطفل الذي يخشى الظلام ( خذ منامك في يديك، ثم أغمض جفن أسرارك، حتى لا تطاردك الظلال). هذا الهارب المختبئ، يجيد التنكر، ويختبر ذلك حين يسأل البنت التي تنظر في وجهه ملياً من أنا؟ كانت تطارد وجهها، حتى تراني لن تراني!


حسناً لنتبع هذا الهارب إذ يدلنا إلى أين نبحث عنه:
نحن كنا قاب قوسين من الموت وأدنى
نحن كنا داخل الجُبِّ المُغَطَّى
لن نجد الشاعر في هذا الجُبْ! هذا شاعر يستمرئ الهروب والإختباء، ولكن مم يهرب؟
أخبئ عن فمي صوتي
وعن صوتي لساني
ثم أخرج من زماني
هروب آخر!


هذا الشاعر (الخائف، المتلصص)، الذي لا يكاد يثق بأحد، يدخل في جيوب السر جهراً، يفتش عن دم يصبح حبراً، وعن لغة تزلزله ويكسو قلبه العريان شعراً.! لايخدعنكم الشاعر، لن تعرفوه!
محمد نجيب إذا خشي الافتضاح إدَّعى الجنون،( ومن ذا الذي يغشى وادي عبقر ولا يُجَنْ؟) ويمهد لدعواه بأنه يكاد أن يجن، ثم سيجن ثم مجنوناً كاملاً، فهو يقول ، وهو في مهاربه العديدة:
أحنُّ،
أكاد أجن
أطارد طيف الشوارد
بين الشوارع والأزمنة
ثم في مهرب آخر،
عذراً
فأنا
مجنون في زمن العقلاء
وحين لايجد مهرباً ويضيق عليه الحصار، وما من مفر، يستوي أمامنا مجنوناً كاملاً يصرخ:
أيها الناس
أسمعوني
لم أعد أعرف عقلي من جنوني


محمد نجيب ، الطيب الهادئ الرقيق، حتى إذا اعتلى المنبر صهل، وأرعد وزمجر، وعبس وبسر، احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، وإذا هو مع القصيدة في نزال غير متكافئ، يقطره الشعر ويعتصره، فلايبقى منه شيء! إذا لم تتأملوا هيأته وهو يلقي القصيد فلن تعرفوه.! ربما، بل من المؤكد أن الشعر يقتله ويحييه، ودائما قصة الشاعر والمرأة مكمن الحيرة، وهنا ومع محمد نجيب، فتش عن المرأة!
سَمِّهِ، إن شئت الفتى المِزْواج! فقد اقترن بِهِنَّ مثنى وثلاث، بل ورباع، كما علمنا من أمره معهن ونحن نقول "إن الذي لم تروه واحدة فلن يرتوي أبداً"، وهاهو يعترف:
قد تعَذَّبْتُ كثيراً بالنساء
وتألَّمْتُ كثيراً بالنساء
وتَشَرَّدْتُ أخيراً بالنساء


لكنا لا نقر ولا نسلم بما خلص إليه، ولا كسابقه الذي أدَّعَى أنه بِحُبِّ الغانيات عليم، فصار يزعم أنهن إذا شاب شعر المرء أو قل ماله فليس له في ودهن نصيب، ربما ذاك نصيبه هو، فكل إناء بما فيه ينضح! وهنا صاحبنا النجيب يعلق عليها كل إخفاقاته ويصفها بكل ما هو وحشي وكأنها مصاصة الدماء "دراكولا" ومع أن الأسطورة تقول أن دراكولا رجل، إلا أن نجيب، وبإصرار عجيب يقول:
لم يكن يوماً دراكولا فتى
كذباً
دراكولا هو امرأة بها بعض الحياء
أسألوني
فأنا جربت آلاف المشانق
ليس أربعة فقط
كل أنثى وأنا كنت لها والله عاشق
...
ثم يختم صاحبي مرافعته البائسة، بهذا الاستسلام (الذي نحن نعرف أنه لا يصمد إلا ريثما تشرق أنثى جديدة):
أي بحر لم يراودني
وقد ضَلَّتْ على البحر الزوارقْ
أيها العشق وداعاً
أنْتَ طالِقْ!


وبعد هذا الطلاق الرجعي للعشق، غاب صاحبنا في مهاربه العديدة، وما نظن إلا حيث نظنه أن يكون، ما بين المرأة والشعر، هنا نبحث عن محمد نجيب، ففي دروب العشق أثر خطواته في الطريق إلى عبقر، وهناك فمن طقوس الإدلاج في هذا الوادي أن ..
لا ترفع صوتك يا هذا
أجهل صوتك لكني أعرف
أني مجنون بالأحرف
مأخوذ بالحمى والأشياء الهمجية
بالسكنى والعطش وقافلة الشعراء الأبدية


في البحث عن محمد نجيب محمد علي من خلال هذا الديوان يستوقفنا أمران، أولهما أننا في سبتمبر، وهي مصادفة لا تمر مرور الكرام. كنا في مدارسنا في زماننا الغابر، إذا خرجنا في مظاهرة، وتصدى لنا الشرطة بالبمبان كنا نرد بالحجارة ونهتف: "نحنا الطلبة سلاحنا الطوب"! ذلكم أقصا ما نفعله من عداء تجاه الشرطة، وهكذا كانت تفعل أطفال غزة، وكانت الشرطة أقصا ما تواجهنا بها الغاز المسيل للدموع وبقدر، وربما السياط أحياناً، لكننا عشنا في زمن رأينا الحجارة في أيدي الأطفال والطلاب تقابل بالرصاص الحي، ولا يحدث ذلك إلا في السودان وإسرائيل - مع البون الشاسع في المقارنة - وهكذا، استعاد الحجر كل محمولاته البيولوجية والتاريخية و الرمزية: الحجارة التي تنبجس عيونا من الماء، وجلمود صخر امرئ القيس وأمنية أوس بن حجر(ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم، إلى وإلى وإلى وإلى محمد نجيب محمد علي:
البلاد التي مسها الضُرُّ
دهراً
تطاير منها الشَرَرْ
كل حَجَرٍ حَجَرْ
إلا الحجارة في أرض يافا
لها مثل كل الشَّجَرْ
ثمرْ
الأمر الثاني: أن شاعرنا، حين يخرج من مخبئه، (ولو للحظات)، يبشرنا بالأمل، ويؤكد لنا أن:
في زمان الجسارة
يخرج الصمت عن صمته
وتثور الحجارة
وتجيء البشارة


ويبشرنا بحقيقة سهلة ميسورة، بأن العدو جبان، وأن ما نراه ليس إلا مظهراً من مظاهر خوفه ولكننا لا نعلم فيخبرنا بالسر اليسير الخطير:
العيون الخبيثة كانت تفتش ما بيننا
هل نُقاتل؟
قلتُ ابسمي
فهمو يهربون إذا ما أضيء المكان
وحل الأمان
وشع السنا
فابتسمنا معاً
يا لهول الذي مانراه
الذئاب التي قبل حين
أتتنا
لتنهش من لحمنا
تهرب الآن
مذعورة من هنا !!
إن الشاعر الغائب المستتر، لم يغب حقيقة ولكنه:
عصبوا عيني في وجه النهار
غير اني
كنت يا أنت
أرى خلف الستار


هذا الرائي الذي صقله وجَمَّلَهُ العشق وأضناه الهوى، والذي نبحث عنه ونجد أثره في كل مليح وفي كل موقف إنساني وبكل ضعف البشر، غنى أعذب أغانيه في قصيدته " تداعيات في غرفة الإنعاش" فإن تذكر المطلعون قصيدة أمل دنقل (الغرفة رقم 8)،وهو يصف حالته على فراش المرض/الموت، فقصيدة محمد نجيب ينضح عشقاً وإنسانية وكل ما يتطلع إليه الشعر من عذوبة وتفرد
كان نبض القلب يعلو
كانت الشمس تناديني
وكان الأصدقاء
يوصدون الحزن عني
يغرقون الجرح في ثلج التمني
ويمدون إلى القلب أباريق الدعاء
كنت باليقظة أغفو
كان ضوء الشعر يسري
في شرايين الإبر
وخزة تبقي على قلبي أثر
وخزة ترفع ضغطي
وخزة تجعل عيني مفاتيح نجوم
مقعدي يعلو على سرر النجوم
فانتظرني أيها الموج الجبل
انتظرني
ريثما أحمل قيثاري
وأمضي في عجل
... ...
أضنانا البحث عن الشاعر، حتى إذا استيأسنا من أن نجده ، فإذا هو مسجى في غرفة الإنعاش، يا للهول، وهرعنا إلى هناك وهاهو، في مهرب آخر ... يا للعجب، إنها ودائماً..
إنها البنت الفرس
جَسَّت النبض
ولاصت كفها في بطن كفي
ثم قالت:
خُذْ نَفَسْ
يا صحابي يا عصام
طاب لي في غرفة الإنعاش
يا صحبي المقام
فاتركوني كي أنام.


دعونا نترك الشاعر يرتاح قليلاً، فقد وجدناه، بعد بحث ممتع، ريثما يعود إلى منآته ومتعزله، أو يعاود الهروب من جديد.
الشكر لهيئة الخرطوم للنشرعلى طباعة ونشر هذا العمل، والشكر للجهد المقدر في حل هذه الضائقة التي يعانيها المبدعون ونتمنى أن تتصدى هيئات أخرى لهذا العبء الوطني المهم، ولا سيما القطاع الخاص والمؤسسات الخيرية، تحتاج الهيئة إلى الدعم والتشجيع وإلى تجويد عملها، والذي يتطلب المزيد من المال. كما ثمة أخطاء طباعية وفنية يمكن تجاوزها بتراكم الخبرة وبالمزيد من الاهتمام والعناية.
والشكر أيضاً لمنتدى السرد الذي شرفني أن أقدم صديقي الشاعر محمد نجيب الذي أكن له محبة ووداً يليقان به وبأهل الشعر، في هذه السياحة المبتسرة المتعجلة، وإلا فكل قصائد المجموعة محطات للغة والخيال ومتكأً للتأمل والتفكير والمتعة، وما الشعر إذا لم يمتع؟
ثم، ومرة أخرى:
وماذا ورثنا من الشعر غير الشجن!
وغير البكاء على عاديات الزمن

عالم عباس

الخرطوم/ الأربعاء/ 12/9/2018

alim.nor@gmail.com

 

آراء