كلنا يبكي فمن سرق المصحف!
خواطر حول كتاب (قلم التعليم وبلم المتعلمين) للدكتور صديق امبدة
(الكتاب الجيد ليس هو الذي يعطيك الأجوبة الجاهزة، بل هو الكتاب الذي يحفزك للمزيد من الأسئلة).
لو قدر لأي قارئ لهذا الكتاب أن يختار له عنواناً لما وجد أصوب وأدق وأشمل من هذا العنوان؛ هذا العنوان المنحوت من مثلنا السوداني البليغ (القلم مابزيل بلم)!
أورد عون الشريف في قاموس اللهجة العامية في السودان: (بلم (س) يقولون القلم ما بزيل بلم وفي (ف) بلّم الرجل قبحه، وأبلمت شفته (ف) وَرِمَتْ فهو أبلم ومن هذه أخذت كلمتنا لأن من ورمت شفته فلا يستطيع الكلام، وأشاروا بها (س) إلى العي. يقال (س) سألت فلان فتَبَلَّمْ: أي تحير ولم يحر جواباً). وجاء في معجم الأمثال السودانية المقارنة للدكتور سمير محمد عبيد نقد ص 403-404 الجزء الرابع- 8887. القلم ما بيزيل بلم، يقولون أيضاً (الكُبُرْ ما يزيل بلم)، الأبلم: الضعيف العقل والرأي، السيئ التصرف، والتعليم لا يزيل بلادة العقل، ولا يمحو سوء التصرف، ومن بلغ الغاية في علمٍ ما قد يكون قاصراً في غيره، يضرب عادة عندما يقع المتعلم في خطأ لا يليق بمثله. والمثل ليس على إطلاقه، وإنما هو استثناء، والحق أن التعليم يزيل كثيراً من فجاجة الرأي وضعف التفكير، والفرق بين تفكير المتعلم وغيره واضح جداً لكل أحد، إلا أن التعليم لا يزيل كل أخطاء التفكير والتصرف، وعلى المتعلم أن يكمل نقص نفسه بيقظته وتروِّيه، وحسن تصرفه وضبطه لنفسه وتجنبه لأهوائه وشهواته حتى لا يسيء التصرف، ويقابله أيضاً المثل( القاري ما كُلُّه متعلم) أي ليس كل من قرأ وكتب، وارتفعت أميته يكون جيد العقل والتفكير في الأمور والتصرفات..)
الواقع أننا نضرب هذا المثل لمعنى يستوعب كل هذا ويزيد بكثير! نقصد به كل من تلقى علماً فأزرى بالعلم ولم يتخلق بما تعلم، كل من سخر علمه لمنفعته الشخصية المحضة ولم ينفع به مجتمعه وأهله، كل من جعله علمه انتهازياً أنانياً، فلم يزده علمه إلا شرهاً وسقوطاً أخلاقياً، وكل من لم يستطع العلم أن يغطي سوآت دناءته وسيء خلقه ولؤم طباعه.
القصد من الاسترسال والتوقف في هذا العنوان وهذا المثل هو أن هذا الكتاب يبين لنا كل هذه الصنوف وبشكل يكاد يدين أكثرنا نحن المتعلمين، بحيث لا يكاد ينجو منا أحد، كما ستجدون ذلك بين طيات الكتاب!
سيجد القارئُ نفْسَهُ مثل ذلك المظلوم الذي ذهب إلى كاتب العرضحالات وشرح له مظلمته، فلما انتهى الكاتب من إعداد عريضة الشكوى قرأها له، فإذا بالشاكي يجهش ببكاء مر، فاستغرب الكاتب وسأله لم هذا البكاء، فأجابه الشاكي: لم أكن أعلم أني مظلوم إلى هذه الدرجة!)
حين ظهر الكتاب الأسود ذات يومٍ، وقد أظهر بالإحصاءات والوقائع الدامغة سيطرة جهات بعينها على مقدرات الدولة ووظائفها العليا (والذي أعادنا مرة أخرى إلى المثل الشعبي البليغ "الفي إيدو القلم ما بيكتب نفسو شقي")، تم دمغ كتابها بكل صفات العنصرية والتهم والشتائم القاسية، مع أن الكتاب لم يَعْدُ أن قدم إحصاءات وبينات من خلال السجلات الرسمية. منذ ذلك الحين أصبحت الإحصاءات والمعلومات التي ينبغي أن تكون متاحة لأي مواطن صارت من قبيل الممنوعات حتى للباحثين والإكاديميين، والحصول عليها ينبغي أن تمر عبر كل ما يحبط الباحث والساعي للمعرفة، ذلك أن الكثير من الدغمسة والكثير من الكذب والكثير من المعلومات، مما يجب إخفاؤها، لأن القصد أن لا يعلم المواطن شيئاً، لأن المعرفة تهدد مصالح بعضهم وتستجوب وتسأل وتحاكم، وكل ذلك يخيف الذين أثروا بغير وجه حق وتسنموا المناصب بغير جدارة، وسخروا الملكية العامة إلى ملكية خاصة، الاطّلاع على المعلومات يفضحهم ويجعلهم يشهدون على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين!.
نحن الذين عشنا عصر التعليم المجاني، ووفرت لنا الدولة من مال المواطن الكادح (المزارع والتاجر والصانع والعامل) تعليماً مجانياً لأعلا المستويات، طالما توفرت لدينا القدرات والموهبة والاستعداد. كان المقابل أن نسهم بما تعلمناه في ترقية مجتمعاتنا وبذات الروح التي بها تعلمنا، فإذا بنا، يا لأنانيتنا! نتنكر لكل ذلك، وأول ما نسهم به هو تكريس تلك الفرص، التي كان يتساوى فيها الجميع بقسط وفير من العدالة والمساواة، نسخرها لذواتنا وأهلينا ونحرم منها من هو أكثر استحقاقا وأجدر. من يصدق أن أسماء كبيرة من المهنيين وأصهارهم ومن رجال الأعمال وكبار البيروقراطيين والعسكر، والطائفية السياسية وغيرهم من الصفوة، (وأكثرهم رضعوا من ثدي التعليم المجاني، ثم إن غالبيتهم، ممن لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بمجانية التعليم التي نالوها، ووسعت لهم الآفاق وانتشلتهم من براثن العوز والفاقة! من يصدق أن هؤلاء هم الذين، من أول امتحان أخلاقي، تنكروا لكل ذلك وسخروا علمهم ومعرفتهم ونفوذهم في تجيير مجانية التعليم، لا لخدمة القدرات التعليمية التي تذخر بها البلد في تنافس شريف للجميع، بل لخدمتهم هم وباحتيال ومراوغة لتكون لهم ولدائرتهم الضيقة، حتى وإن كانوا أقل جدارة وأضعف موهبة من غيرهم من غمار الناس، الذين أقعدهم الفقر وقلة ذات اليد عن توفير التعليم المعتبر لأبنائها، فحرم الوطن من نوابغ كانوا ليكونون في هذا الوطن شيئاً مذكوراً.
يورد الكتاب إحصاءات وجداول ومقارنات صادمة، ويفضح جرأة أصحاب القرار واللؤم الذي انطووا عليه والتحايل وسوء الطوية، بقدر مؤلم، وأحياناً بفجاجةٍ وقِحَةٍ في غمط الحق، يؤكد فيه المثل بأن (القلم ما بزيل بلم)!
هل نكتفي بالدهشة الصادمة حين نقرأ على سبيل المثال: ص. 30 من الكتاب (إن تكلفة الدراسة على النفقة الخاصة بالخارج، والتي تتكفل الحكومة بتحويلها، تبلغ نحو 95 مليون دولار في العام(1989). وفي بعض التقديرات تعادل على أقل تقدير، تسعة أضعاف ميزانية التعليم العالي بالسودان.)!
القارئ لهذا الكتاب، ملحق (1991) ص. 169 شهادة لندن: اللوبي(Lobby) أقوى وأكبر، سيجد نموذجا لهذا الانحراف الأخلاقي عند المتعلمين، ويرى المعركة التي نشبت بخصوصها مما يمكن أن ينهض دليلاً دامغاً للصراع بين المصالح الذاتية والمبادئ، وبين الانتهازية والاستقامة، وبين القلم والبلم! وبخاصة حين استعراض الأسماء اللامعة التي فجعنا فيهم! هل كانوا يعلمون، فتلك مصيبة، وأما إذا لم يكن يعلمون، فيا للهول ما أغنى عنهم علمهم ولا تعليمهم من شيء لو كانوا يعلمون!
القراءة البصيرة التي يوردها د/ صديق في كتابه والإحصاءات والمقارنات يجعلنا جميعاً في موضع السؤال، ما دورنا نحن حيال هذه الكارثة؟ ما مسئولية أي فردٍ منا فيما جرى ويجري؟
القارئ لمؤشرات الغبن التنموي، وهي الورقة التي نشرها مركز الدراسات والبحوث الإنمائية بجامعة الخرطوم عام 1988 يفاجأ بأنه وفق الإحصاءات فإن 84% من سكان دارفور لاتتوفر لهم فرص الاستزادة بالتعليم الابتدائي، وبحلول عام 2000، ستكون أعمار هؤلاء حوالي ثلاثين عاماً). هل نسأل هنا الآن عن بذور التمرد أم كيف حدث ولم حدث وكيف ينتهي؟ إذكِّر فقط أن هذه الدراسة قدمت عام 1988!
عام 2015، قام المؤلف بتحديث الورقة والنظر فيما حدث من تطورات خلال ربع قرن من هذه الدراسة. ما الذي تغير، والتحسن الذي طرأ؟
الحقائق صادمة وفي فمي ماء، وبخاصة وأنا من دارفورْ موضوع الدراسة!
دعني أقول أن الكتاب وثيقة إدانة لكل جيل المتعلمين منا، من سخر علمه في انتهازية واضحة، ومن تخلى عن مبادئه، ومن خان أمانة العلم و آثر ذاته الضيقة، ومن خان الوطن وحرم النوابغ من أبنائه فرصاً مستحقة لهم، ومن عَلِمَ كل ذلك وتواطأ بالصمت واستعصم بالخوف أو اللامبالاة، ومن لم يُزِلْ القلمُ بَلَمَهُ!
جاء في إحدى مجموعات التواصل الاجتماعي، في تعليق للدكتور محمود ميسرة السراج ( إذا تابعت المؤتمر الصحفي الذي اعلنت من خلاله نتيجة امتحانات الشهادة السودانية ستكتشف أن معظم أوائل الشهادة و بنسبة ساحقة ماحقة قد تركزوا في ولاية واحدة فقط، بل ستكتشف أن مدرسة وحيدة في سنتر الخرطوم، الخرطوم المدينة، وليس أم درمان، وليس بحري، يقبل لها الطلبة المتفوقون الذين يقطنون في دائرة قطرها أقل من اثنين كيلومتر حول هذه المدرسة، كان لها نصيب الأسد في المائة اسم الأوائل الذين تم الإعلان عنهم.. فقبل كل طالب يتم الإعلان من مدرسة أخرى يتم الإعلان عن طالب في هذه المدرسة وبعد كل طالب من مدرسة أخرى يأتي طلبة هذه المدرسة .. هذا شيء غريب جداً لا تفسير له إلا بواحد من اثنين: إما أن كل العقول العبقرية اختارت بطريقة غامضة أن تسكن حول تلك المدرسة في سنتر الخرطوم حتى يتسنى لأبنائها أن يحظوا بالقبول فيها بعد الانتهاء من امتحانات مرحلة الأساس، بحكم القرب الجغرافي، الذي على أساسه يتم توزيع الطلبة على المدارس، أو أن معلمي هذه المدرسة تحديداً هم من السحرة والجن المصرم (المؤمن).. أما إذا لم يكن أياً من التفسيرين، آنفي الذكر واقعياً فإن أسئلة مشروعة ينبغي أن تطرح وأن تقدم لها إجابات وتفسيرات منطقية.. لماذا حدث ويحدث هذا وكيف؟ شكوك عظيمة تدور حول العملية التعليمية بمجملها في زمن الإنقاذ هذا .. فمنذ بدأ التمكين وانتقل بالتوازي بعد السيطرة على الخدمة المدنية إلى تركيز ثروة البلاد بمجملها لدى أسماء بعينها وتركيز الثروة البشرية – إن جاز التعبير- في مدارس بعينها تحت عنوان إبليسي شديد الغموض اسمه المدارس النموذجية .. يا سادتي بالطريقة التي تم ويتم تطبيقها في هذا البلد المنكوب انتهت وبضربة واحدة من شيء اسمه المنافسة الشريفة، مرة وإلى الأبد.. )
و كما أورد الأستاذ الدكتور عبدالله علي إبراهيم، (فإن أسطع مافي الكتاب في نظرته الطبقية الفطرية تقريباً فتعريضه المزلزل لعقيدة مجانية التعليم كما جرى تطبيقها في جامعة الخرطوم، فبينما يلهج الكثيرون ب"سواسيتها" رأى صديق أنها خدمت الصفوة البرجوازية( هذا مصطلحي) بأكثر من الفئات الأخرى، بعد نظر اقتصادي ممحص لرسائل جامعية وسجلات جامعة الخرطوم ....هذا كتاب سيقضي على الترهات التي اكتنفت خطاب التعليم عندنا لثلاثة عقود على الأقل. ومتى قرأناه بقوة انفتحت بصيرتنا على أجندة خطرة حول مستقبل التعليم في المجتمع.)
المشهد التعليمي الذي أراه الآن كما يلي: ثمة طبليات وزرائب وباعة متجولين وبسطات تعليمية، ثمة كناتين ودكاكين للتعليم وتوجد أيضاً متاجر وسوبر ماركت وهايبر ماركت للتعليم! الآن يبدأ التلميذ الطالب في قريته، وبلدته فيتلقى تعليمه الاساس والثانوي والجامعة، ولم يبارح مدينته، يتخرج فيها طبيباً ومهندساً وقانونياً وهلم جرا.. ولعله ، حتى تخرجه لم يبارح منطقته ولا يدري عن أي شيء خارج دائرته المغلقة، فأنى له أن بعرف وطنه الذي كان يوماً ما حدادي مدادي ونطوفه من القولد حتى يامبيو ومن محمد قول حتى الجفيل، ومن ريرة حتى بابنوسة!
وأما عن تسليع التعليم فكما هنالك جامعات درجة أولى فهناك جامعات لا تعرف كيف تسميها، وكلها بالفلوس! هل تعلم أن في شارع الستين فقط على سبيل المثال، وعلى مسافة أقل من خمسة كيلومترات، توجد خمس جامعات أو كليات جامعية، في هذا الشارع، وكلها كليات أو معاهد أو جامعات خاصة! إذا كان هذا في شارع واحد فكم عددها في ولاية الخرطوم!
أيها السادة: كلنا نبكي فمن سرق المصحف!
عالم عباس
15سبتمبر2018
alim.nor@gmail.com