كان السبب المباشر في اشتعال ثورة أكتوبر 1964، أن الشرطة تجرأت، فأطلقت النار داخل حرم جامعة الخرطوم، فقتلت الطالب، الشهيد، أحمد القرشي طه. ولأن العسكريين الممسكين بدفة الحكم، حينها، كانوا رجالًا عقلاء، وفضلاء، فقد تجاوبوا مع الغضب الشعبي، وانحنوا للضغوط المتزايدة، الذي وصلت حد الاضراب السياسي، فقد آثروا التنازل عن السلطة لحكومةٍ انتقاليةٍ، تجنبًا للاضطرابات، والفوضى، وإراقة الدماء. ولقد سبق أن قلت في ورقتي، "ثورة أكتوبر من الأيقونة إلى التشريح"، التي نشرها مركز الدراسات السودانية، في كتابه، "خمسون عامًا على ثورة أكتوبر السودانية: 1964-2014 نهوض السودان الباكر"، إن ثورة أكتوبر، رغم بلوغها مرتبة الأيقونة، ورغم الهالة المبهرة التي أحاطت بها في المخيال السوداني السياسي، بسبب "البروباقاندا" الحزبية، خاصةً اليسارية، إلا أنها مثَّلت، لدى التحليل الدقيق، ردّةً، ظاهرةً، في مجمل مسار بناء الدولة السودانية.
قلت، أيضًا، إن من الإشكالات التي أحاطت بتلك الثورة، ولم تجر مناقشتها، بقدرٍ كافٍ، إشكال سيطرة اليسار على مساراتها، في ظل المفاهيم اللينينية السائدة في حقبة الحرب الباردة، وحالة صعود اليسار العربي، وسيطرته الطاغية، آنذاك. يُضاف إلى ذلك، حالة العداء المتطرفة للطائفية، وسط ما يسمى "القوى الحديثة"، دون أن يكون لتلك القوى التأثير الذي كانت تملكه الطائفية على الجماهير، ودون أن تكون تلك القوى، بديلاً حقيقيًا للطائفية.
أيضًا، قلت في تلك الورقة، إن الشيوعيين دفعوا بثورة أكتوبر في وجهة راديكالية صارخة. إذ سيطرت ما سميت "جبهة الهيئات"، عبر الشهور الأولى من الفترة الانتقالية، التي أعقبت ثورة أكتوبر، على مجريات الأمور. فطرحت أجندةً راديكالية، جعلت القوى التقليدية الطائفية تشعر أن هناك اتجاهًا لإقصائها، وتهميشها، بل وتصفيتها. وبدا جليًا، للقوى الحزبية التقليدية، أن الثورة قد أخذت منحىً يساريًا صارخًا.
ما لم ينتبه إليه، إلى اليوم، المنحبسون في قوقعة تمجيد ثورة أكتوبر، أن الشيوعيين الذين سيطروا على مجرياتها، لم يكونوا يريدون إعادة الديمقراطية التعددية الحزبية. وإنما كانوا يريدون القفز على الواقع، بترسيخ نمطٍ من الديمقراطية، شبيه بنمط الديمقراطية الموجَّهة، المرسوم في الأدبيات الماركسية اللينينية. فالشعارات التي سادت في أجواء أكتوبر كانت: "لا حزبية بعد اليوم"، و"لا زعامة للقدامى". وبالفعل حاولت جبهة الهيئات سن تشريعات من شأنها أن تمنح العمال والمزارعين والنساء ما نسبته 50% من المقاعد في الجمعية التأسيسية. ويستند هذا، بطبيعة الحال، على الشرعية الثورية، للثورة، وليس على أوزان القوى الحزبية الحقيقية في الواقع. فأغلبية المزارعين، والعمال، والنساء، آنذاك، إما "أنصار"، أو "ختمية".
هذا التعجل هو الذي جعل القوى الحزبية تشعر بالخطر الداهم، فتنقض على الثورة، وتجبر السيد سر الختم الخليفة، رئيس الحكومة الانتقالية، على الاستقالة، قبل أن يكمل مدة العام التي منحت له. (انظر: تيم نيبلوك، "صراع السلطة والثروة في السودان، منذ الاستقلال وحتى الانتفاضة"، ص، 217. وانظر، أيضا: محمد سعيد القدال، "معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني"، ص 135 – 138).
أما ثورة أبريل 1985، فقد كانت أقل زخمًا من ثورة أكتوبر. ولا غرابة، أن تحولت، في لمح البصر، إلى مجرد انقلابٍ عسكريٍّ، سيطر الإسلاميون على أجندته، واحتلوا فيه مركز صناعة القرار. أجهض الإسلاميون أهم الشعارات التي رفعتها الثورة، وهو شعار إلغاء قوانين سبتمبر 1983، التي سنَّها نميري ليجعل من نفسه حاكمًا مدى الحياة. وهو ما بايعه عليه الاسلاميون، في قرية أبو قرون. ويمكن القول، من الناحية العملية، الواقعية، إن ثورة أبريل، هي التي أتت، في نهاية سلسلة تداعياتها، بالإسلاميين إلى دست الحكم، ليبقوا فيه لثلاثين عامًا، محطمين بذلك، كل الأرقام السابقة، في بقاء الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، في الحكم، في السودان.
لم يجن الشيوعيون شيئًا من ثورة أكتوبر، التي حاولوا اختطافها. ولم يجنوا شيئا من مشاركتهم نميري الحكم، في عاميه الأولين، سوى الانقسام إلى تيارين متخاصمين، بددا طاقة الحزب الشيوعي، وذهبا به في طريق الاضمحلال. كما الانقسام قلد الشيوعيين، أو قل قطاعًا منهم، إلى محاولة الانقلاب على نظام نميري، في يوليو 1971. فكان ذلك الانقلاب، الضربةَ القاضيةَ، التي لم ير الحزب الشيوعي بعدها، عافيةً، إلى اليوم.
أما الإسلاميون، فقد كانوا الكاسبين، على الدوام، في رهانات السياسة السودانية، ابتداءً من ظهورهم الأكبر، عقب ثورة أكتوبر 1964، وإلى يومنا هذا. ازداد عدد مقاعد الاسلاميين، في البرلمان، من سبعة مقاعد، في انتخابات 1965، إلى 51 مقعدًا، في انتخابات 1986. غير أن كسبهم هذا الذي أفسدوه بانقلابهم على النظام الديمقراطي، في عام 1989، وبإعلانهم سياسة "التمكين"، جاء على حساب كل شيء آخر. فقد قسم البلاد، إلى بلدين، وأضر، أيما ضرر، بأمنها، واستقرارها، ونموها. بل، وأقعدها اقتصاديًا، وخرَّبها اجتماعيًا، وجعلها مرتعًا بلا حراسة، لنهب الموارد. وعموما، يمكن القول، في جملة الأمر، إن كسب الإسلاميين كان على حساب كلِّ مُنجَزٍ، تقدُّميٍّ، سبق أن أنجزته البلاد؛ ماديًا، كان، أم معنويا.
تمثل كل هذه التجارب التي قام بها الشيوعيون، والاسلاميون، والقوى الحزبية التقليدية، في نظري، نهاية البرادايم العقيم، الذي وُلد من رحم مؤتمر الخريجين، في ثلاثينات القرن العشرين. وهو البرادايم الذي تشير جميع المؤشرات، إلى ضرورة الخروج منه، وبأسرع فرصة. ولا تعني نهاية البرادايم القديم هذا، بطبيعة الحال، نهاية هذه القوى، ذاتها. فهذا لن يحدث، في المدى القريب، لأن هذه القوى هي إفراز للواقع القائم، الذي لم يتغير بعد. ولذلك، فإن الذي ينبغي أن يحدث، في هذه المرحلة، هو أن تغيِّر هذه القوى طرائق تفكيرها، وأساليبها، وتكتيكاتها السياسية، التي أدمنتها لعقودٍ طويلة، ما جعلها تصبح، هي ذاتها، جزءًا من الأزمة المستحكمة القائمة. فنحن الآن بحاجة إلى صيغةٍ، جديدةٍ، للخروج من دائرة الصراع العقيم، غير المنتج، التي طال أمدها. ولا أرى، فيما هو متاحٌ من خيارات عملية، في اللحظة الراهنة، فرصةً أفضل من فرصة، تجميع القوى السياسية، المعارضة، لمنازلة المؤتمر الوطني، انتخابيا.
مسلسل الأزمات الأخيرة لتجاهلها إعمال النظر العلمي، والموضوعي، في التحولات الديموغرافية، والاجتماعية، والجيوسياسية، الكبيرة، التي جرت عبر العقود الخمسة الأخيرة، بقيت مجموعة الأحزاب، التي تُشكِّل حاليًا ما يُسمى "قوى الاجماع الوطني"، وأيضًا، التي تسمى "نداء السودان"، تنادي بإسقاط النظام الحالي، عن طريق العمل المسلح، وعن طريق تحريك الشارع. وقد سبق لقوى الإجماع الوطني أن أطلقت، قبل أعوام، ما أسمته، "حملة المئة يوم" لإسقاط النظام. لكن، تلك الأيام المئة مرّت، دون أن يحدث شيء. بل، ومر، بعدها، ما يزيد عن الألف وخمسمائة يوم، ولم يحدث شيءٌ، أيضا.
قلت، قبل بضعة شهور، في مقالةٍ سابقةٍ، نشرتها إبان الأزمات الخانقة الأخيرة، أن تلك الأزمات مثَّلت أقصى حالات الضغط المعيشي والنفسي، التي عرفها المواطن السوداني، منذ الاستقلال. بل مثَّلت، في مجملها، أقصى حالات الإهانة و"المرمطة" التي يمكن أن تتعرض لها كرامة المواطنين. ودعونا نسترجع، في أذهاننا، ما ظللنا نشاهده، مما يصوره الأفراد بهواتفهم النقالة، حول أزمة السيولة، التي جعلت المواطنين يعسكرون، منذ الصباح الباكر، في مداخل البنوك، ويركضون إلى داخل صالاتها، حين تفتح أبوابها، متدافعين، وكأنهم قطيعٌ من الأغنام.
لقد هيَّأت هذه الأحوال الاستثنائية، من القهر والإذلال، وضنك العيش، أفضل الفرص للقوى المعارضة لتحريك الشارع. غير المعارضة لم تستطع استثمار ذلك. ووضح، بالدليل القاطع، أنها لا تملك وراءها اصطفافًا جماهيريًا يُذكر. فالمعارضة الآن، ليست أكثر من ظاهرةٍ صوتية. كما أن الشارع، من جانبه، امتص تلك الضغوط المعيشية، الاستثنائية، وتأقلم معها، وسارت الأمور، كما هو واضح، بعاديِّةٍ لافتة. ولست أدري ما هو مقدار التأزم، الذي لا تزال المعارضة تنتظره، لكي تجمع الشارع وراءها؟ إن الذي لا يشعر بضرورة دراسة كل هذه التغيرات الهيكلية، في الخريطة السياسية السودانية، اقتصاديًا، وسياسيًا، وديموغرافيًا، وحزبيًا، على نحوٍ جديد، ولا يدفعه ذلك، إلى التفكير بصورةٍ مختلفة، عمَّا أَلِف، لشخصٌ يبس عقله وتكلّس. ومن الأفضل له أن يبتعد عن العمل السياسي، ويبحث عن شيءٍ آخرٍ يفعله.
الفعل بدلاً عن الخطاب اللغوي والانتظار ليس للمعارضة، في الواقع، الآن، فعلٌ يذكر، سوى إصدار بعض الذبذبات الصوتية، أو نشر بعض المكاتيب الباهتة. فأكثرية الجمهور في قبضة المؤتمر الوطني. فهو الذي زرع لجانه الشعبية، في كل حيٍّ من أحياء مدن البلاد، بل وفي كل قرية. وهو الذي بقي على اتصال يوميٍّ وثيقٍ بشؤون الناس اليومية. وهو الذي يملك أدق المعلومات عنهم، وعن أحوالهم، وإن لم يقدم لهم شيئا. هذا فضلاً عن امتلاكه الشبكة الإدارية، والأمنية، المتغلغلة في كل أصقاع البلاد، التي تعرف كيف تسوق الجمهور إلى صناديق الاقتراع. يضاف إلى ذلك، امتلاكه الآلة الإعلامية، والخطاب الديني المُخدِّر في المساجد، وجمعيات التلاوة، وكل ما يجعل عامة الناس واقعين في قبضته. فما تقوم به المعارضة، بإزاء ما يقوم به المؤتمر الوطني، مجرد انتظار غير منتج. فالقوى الطائفية، فقدت أرضيتها الدينية للإسلاميين الحركيين. ولذلك، فإن ما تمارسه المعارضة، الآن، وخاصةً قوى الإجماع الوطني، ليس سوى انتظارٍ قاتلٍ، لن يلبث أن يجعلها، في وقتٍ قريبٍ جداً، مجرد لافتةٍ عليها بضع كلمات.
لو لم يتغلغل الدكتور حسن الترابي داخل نظام نميري، عقب المصالحة الوطنية (1977)، لبقي حزبه حزبًا صغيرًا، لا وزن له. ولما وصل قط إلى السلطة. وبطبيعة الحال، فإنني لا أدعو قوى المعارضة لأن تتبنى خط الدكتور الترابي، الذي مارس نهج التماهي الكامل مع الحليف/الخصم، (مثال: بيعة قرية أبو قرون)، مع إضمار نية الغدر به. وإنما أدعو قوى المعارضة، لمنازلة المؤتمر الوطني في الانتخابات القادمة، من أجل أن تجد جمهورها، الذي أضاعته، عبر ثلاثة عقود، ومن أجل أن تجد شرعيتها، لدى ذلك الجمهور، ولدى القوى الإقليمية، ولدى المجتمع الدولي. وقد وضح، بالدليل القاطع، أن الثورات الشعبية، لا تأتي، في غالب أحوالها، سوى بحرب أهلية، وفوضى شاملة، أو بنظامٍ عسكريٍّ جديد.
سيوفر خوض الانتخابات مساحات جديدة للنضال اليومي، ولزيادة وتيرة الحراك الجماهيري، وبلورته. فالانخراط في الحملات الانتخابية، عبر كل مراحلها، سوف يفتح جبهاتٍ عديدةٍ للمناجزة، لا ينبغي إهمالها، والاستعاضة عنها بنهج الجلوس في مربع الانتظار غير المنتج. وأحب أن أنبه إلى أن قبول منازلة المؤتمر الوطني انتخابيًا، لا يعني، البتة، التخلي عن أساليب المقاومة الأخرى. فتحريك الشارع، في أي وقتٍ، سيبقى عملاً مشروعًا، في ظل أي نظامٍ للتداول السلمي للسلطة. والشيء الوحيد، الذي سيبقى غير مقبولٍ، حين ترتضي جميع الأطراف التداول السلمي للسلطة، لهو العمل المسلح.
تمارس قوى السودانية، المعارضة، الآن، ما ظل يمارسه الفلسطينيون مع الإسرائيليين منذ سبعين عامًا، دون أي نتائج. بل، هناك تراجعٌ مضطردٌ في المكسب، وزيادةٌ مستمرةٌ، في انحلال القوى النضالية. فقد بقيت الفصائل الفلسطينية المختلفة، تقدِّم رِجْلاً، وتؤخِّر الأخرى، حالمةً بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وباسترجاع كامل التراب الفلسطيني. لكنها، بسبب اتباعها هذا النمط من سياسة خداع النفس، وإدمان الانتظار، فقدت كل شيء. ولذلك، لا غرابة أن انتهت القضية الفلسطينية إلى سرير الموت، أو إلى ما هو قريب منه. جرى نشر المقال بصحيفة "أخبار الوطن"، الأحد 14 أكتوبر 2018