الصَّادق المهدي.. تجلِّيات زعيم طائفي (9)
shurkiano@yahoo.co.uk
الصَّادق المهدي في السُّلطة.. ليته أنجزنا ما يعد
وكما أشرنا آنفاً فإنَّ أكبر خطأ سياسي ارتكبه الصَّادق المهدي وهو ما يزال يعاني من مضاعفاته هو توليه رئاسة حزب الأمة؛ إذ لم يطق صبراً حتى بلوغه عامه الثلاثين، وهي السن القانونيَّة التي تتيح له عضويَّة البرلمان، وشغل مقعداً وزاريَّاً. إذ سرعان ما أرسل الرُّسل إلى رئيس الوزراء الرَّاحل محمد أحمد محجوب يطلب منه الاستقالة حتى يخلي له مقعده في الجهاز التنفيذي. ومن ثمَّ اندلع نزاع انتهى باستفحال الخلاف بين الصَّادق وعمَّه الإمام الهادي عبد الرجمن المهدي. غير أنَّ الصَّادق نجح في تولي رئاسة الوزراء في 26 تموز (يوليو) 1966م، لكن رئاسته لم تدم أكثر من تسعة أشهر كما تنبَّأ له محمد أحمد محجوب، وبقي في المعارضة حتى وضع العقيد حينذاك جعفر محمد نميري حدَّاً للدِّيمقراطيَّة الثانية في البلاد.(48) ونستطيع أن نزعم – في غير كبير تحرُّج – أنَّ الأقدار التي وضعت هذا الشاب الصَّادق في هذا الوسط بطبيعة حداثته، والغرارة وقلَّة التجربة، وعدم القدرة على التبصُّر ورؤية العواقب، كانت وبالاً على البلاد. فقد حسب الصَّادق، والذي امتثل شاباً غضَّاً، أنَّه قد تمرَّس بشيء من أعمال الدولة بنشأته إلى جوار أبيه رئيس حزب الأمة وجدِّه راعي الحزب، ما يكفي لإدارة شؤون بلد كالسُّودان.
إذ على المرء أن يعرض على طلب الرئاسة في غير وقتها، فقد قال العلماء "من تصدَّر (في طلبها) وهو صغير فاته علم كثير". وقد قيل ليت الأمر يقتصر على فوات العلم الكثير، وإنَّما يتعدَّى ذلك شرٌّ مستطير. وكذلك يقال: "من طلب الرئاسة وقع في الدياسة"، والدياسة من داس يدوس فهي الإذلال والوطء بالرِّجل، "ومن طلب الرئاسة قبل وقتها عاش في ذلٍّ." إذ توصَّل الشَّاعر أبو العتاهية إلى خلاصة تفيد بأنَّ طغيان الرئاسة على الأرض سبب بغيان بعض النَّاس على بعضهم بعضاً، وأنشأ يقول:
الرئاسة أطغى على الأرض حتى بغى بعضهم فيما على بعض
وأدرك بكر بن حمَّاد أنَّ الرئاسة تغاير النَّاس إلى ما لا ينفعهم، بل يفرِّقهم حسب آرائهم وأهوائهم، ومن ثمَّ طفق يقول:
تغاير النَّاس فيما ليس ينفعهم وفرَّق النَّاس آراء وأهواء
أما أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد المعروف بابن عبد البرِّ فقد ذهب أكثر من ذلك حين نعت حبَّ الرئاسة بالمرض الذي يحلق الدنيا، ويفضي بالمحبِّين إلى الحرب من أجل إحقاق الحق، ويفرى الحلاقيم ويقطع إيصال الأرحام حتى لا تبقى بين النَّاس المروءة أو الدِّين. ومن ثمَّ استطرد قائلاً: ومن يترأس النَّاس وهو جاهل أو قبل بلوغ الحلم تألفه عدوَّاً لأهل الحق، فتجده يشنِّع العلوم، ويمور أهلها حسداً وبغضاً، حتى يجد نفسه في مرتبة أعداء الأنبياء، وحينئذٍ أنشد في هذا المعنى:
حُبُّ الرئاسة داءٌ يحلق الدُّنيا ويجعل الحق حرباً للمحبينا
يفري الحلاقيم والأرحام يقطعها فلا مروءة تبقى ولا دينا
من دان بالجَّهل أو قبل الرُّسوخ فما تلفيه إلَّا عدوَّاً للمحقينا
يشنئ العلوم ويقلي أهلها حسداً ضاهى بذلك أعداء النبيينا
وبالتأكيد كان هناك من الرِّجال من أبصر الصَّادق بما ينبغي أن يأخذ نفسه به، ليعتصم به مما عسى أن يتربَّص به في هذه الغمرة التي يخوضها، وفي مثل هذا الذي كان هو مقبلاً عليه من شؤون الدولة وملابسة السلطان، وفي مثل ذاك المنصب الذي أُسند إليه، أو بالأحرى طلبه طلباً، وسعى إليه سعياً حثيثاً. وكان أوَّل النَّاصحين له من الرِّجال محمد أحمد محجوب – كما ذكرنا سلفاً – بثاقب بصيرته، وكان ما وجَّهه له النَّاصحون من النصيحة النصوح، هو توقي ما تجره إليه هذه الغرارة، لأنَّه بطبيعة حداثة سنِّه غير مقدِّر لتبعاتها. فقد عزَّ على المحجوب أن يدع الشاب الصَّادق وشأنه، ورغب في أن يؤدِّي واجب النُّصح له، قياماً بحقه عليه، وهو قبل كل شيء وبعده عضوان في نفس الحزب حزب الأمة مهما احتفر له الصَّادق المحافر. هذا، فقد أراد المحجوب أن يؤدِّي بالنصحية إيَّاها حق التناصح إلى شاب لم يتمرَّس بأسباب الحياة – ولئن تمترس بجلابيب السُّلطة – ليجنِّبه ما تورِّطه فيه غرارة الشباب من مزالق. وعندما أدرك المحجوب أنَّه ليس من اليسر بحيث يكفي ما هو آخذ فيه ليحول بين هذا الشاب وبين ما هو متعرِّض له، تركه وشأنه. مهما يكن من أمر، فحينما طُرِح صوت الثقة في حكومة الصَّادق المهدي في 15 أيار (مايو) 1967م، وقف معه صهره الدكتور حسن الترابي. كان الصَّادق "آنئذٍ في عنفوان شبابه، وتمرُّده على القديم، حتى رماه كثيرون باليساريَّة، خصوصاً عندما كان يهاجم رئيس الوزراء الرَّاحل محمد أحمد محجوب، ويصفه بأنَّه رجعي."(49)
ففي الفترة القصيرة التي ترأس فيها الصَّادق المهدي الحكومة، لم يتم إنجاز أي شيء بالكاد يذكر. إذ تحكَّمت في هذه الفترة عدَّة عوامل سالبة وقضايا شائكة منها الحرب التي كانت تدور رحاها في جنوب السُّودان، والصِّراع الحزبي العقيم بشأن إقرار دستور إسلامي لحكم البلاد، واعتماد جمهوريَّة رئاسيَّة كأساس للحكم في السُّودان، علاوة على ذلك وجود الصَّادق نفسه كرئيس للوزراء ورئيس حزب الأمة. وفي هذه الأثناء بلغت التجاوزات في حقوق الإنسان حداً قميئاً، حتى أمسى لا يطاق، وكان ذلك كلَّه تحت دعاوي التمرُّد. وكانت أغلب الضحايا – كما يظل الأمر دوماً – مواطنين أبرياء عزَّل لم يكن لهم حول ولا قوة فيما بدا حرباً عنصريَّة مقيتة. أما الصراع الحزبي العقيم فلم يكن ذا علاقة بأيَّة قضيَّة وطنيَّة ذات مردود ملموس للمواطن. فعلى سبيل المثال ترك الاستعمار برنامجاً مكتملاً لتنمية الجنوب لكيما يلتحق بالشمال اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً وخدميَّاً، ولكن تمَّ وضع هذه الخطط التنمويَّة في الأدراج، وعبث أهل الحكم في الخرطوم بالسُّلطة أيَّما عبث، حتى المشاريع القليلة وبقلَّتها التي تركها المستعمرون قد تمَّ تدميرها نتيجة لسياسات الدولة الرعناء تارة، أو بحجة انعدام الأمن بسبب التمرُّد طوراً آخر. بيد أنَّ المدن في الجنوب في ذلك الرَّدح من الزمان كانت آمنة. فلو كانت هناك ثمة إرادة سياسيَّة وعزيمة وطنيَّة لتمَّ إعمال الاستثمار في المدن وتنفيذ تلك المشاريع في الحاضرة. غير أنَّ هذا الشيء لم يحدث.
قبيل تقلُّده لمنصب رئيس الوزراء طاف الصَّادق المهدي في شرق إفريقيا، وأخذه طوافه ذاك إلى أرض الصومال ذات السكان المسلمين، وصرَّح تصريحاً أفصح فيه عن لونه الأيديولوجي الفاقع، وذلك حين طفق يتحدَّث عن جنوب السُّودان. إذاً، ماذا قال الصَّادق؟ وأين يكمن موضع الزماتة في تصيرحه الصحافي؟ صرَّح الصَّادق قائلاً: "إنَّ فشل الإسلام في جنوب السُّودان ليعتبر إخفاق السُّودانيين المسلمين في رسالة الإسلام العالميَّة."(50) وبهذا التصريح فإنَّ الصَّادق لا يمثِّل صفوة أهل الشمال فحسب، بل مهندِّسها السِّياسي والاجتماعي والإثني، ويظن أنَّ له فضائل وحقوق فطريَّة، وبسموه الثقافي والإثني يمكن أن يلعب دور راعي الشَّعب السُّوداني حتى على أولئك وهؤلاء الذين لم يكونوا مسلمين، ثم ليسوا بعرب في شيء. ولعلَّ هذا التصريح المهدوي في الصومال يذكِّرنا بمتزمِّت آخر ألا وهو الدكتور غازي صلاح الدِّين العتباني الذي انبرى في إحدى اجتماعات الإيقاد في التسعينيَّات بين وفد الحكومة السَّودانيَّة وبين وفد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وقال إنَّ حكومة "الإنقاذ" لها رسالة خالدة لنشر الإسلام ليس في السُّودان فحسب، ولكن في أرجاء إفريقيا. إذ كان هذا التصريح الفج قد أثار حفيظة أعضاء الإيقاد والذين كانوا جلهم – لئن لم نقل كلهم – من المسيحيين، ومن ثمَّ أخذوا وقفة احتراس، وأمسوا يتأمَّلون في عبارات الرَّجل غير الديبلوماسيَّة، وفي منبر قائم في الأساس على محاولة حل مشكل استعظم على أهل السُّودان حله وحدهم، وكانت قضيَّة الدِّين والدولة إحدى أضلاعه الرئيسة.
على أيَّة حال، فحين أمسى الصَّادق المهدي رئيساً للوزراء تمَّ تشكيل اللجنة القوميَّة لصوغ مسودَّة دستور السُّودان الدَّائم، وتكوَّنت اللجنة من 42 عضواً فيه 7 أعضاء من جنوب السُّودان. إذ باشرت اللجنة عملها ابتداءً من يوم 12 شباط (فبراير) 1967م، وابتعثت لجنة الأثني عشر، التي انبثقت من مؤتمر المائدة المستديرة لحل "مشكلة جنوب السُّودان"، بتقريرها إلى اللجنة القوميَّة للدستور، برغم من تحفظ ممثِّلي الجنوب فيما يختص بالفقرة التي تؤكِّد بأن يكون تعداد مديريَّات السُّودان تسع، وكذلك تحفُّظ أهل جبال النُّوبة والبجة. إذ كان يرى ممثِّلو أهل الجنوب أن يتم دمج المديريَّات الثلاث (بحر الغزال وأعالي النيل والإستوائيَّة) في إقليم واحد، بينما رأى النُّوبة والبجة بأن يتم استقطاع ثلاث أقاليم من كردفان وكسلا وإضافتهما إلى مناطقهما. وحين اقترح ممثِّلو الجنوب (حزب سانو وجبهة الجنوب)، وكل من ممثِّلي جبال النُّوبة والبجة إلى اللجنة القوميَّة للدستور بأن يتم تضمين توصيات وقرارات لجنة الأثني عشر في مسودَّة الدستور رُفِض الاقتراح من قبل الأحزاب الشماليَّة، وهي التي كانت قد وافقت على قبول مبدأ الحوار كوسيلة لحل ما أسمَّوه "مشكلة جنوب السُّودان"، إلا أنَّها أظهرت وجهها الحقيقي، وفي ذلك خوفاً من قواعدها التقليديَّة الطائفيَّة. ومن ثم رفضوا أيَّة إجراءات إقليميَّة للجنوب، واعتبروا فكرة الإقليميَّة في الأساس خطراً مهدِّداً للوحدة الوطنيَّة.
وفي خلاصة القول نستطيع أن نقول هنا إنَّ من الإخفاقات التي يتميَّز بها حزب الأمة برئاسة الصَّادق المهدي سواء في الحكم أم المعارضة هو أنَّ للحزب طبيعة كيانيَّة، خصوصاً أنَّ الدور التأريخي لبيت المهدي ألقى – وما يزال يلقي – ظلالاً كثيفة على قيادة الحزب، إلى حد أنَّها تنحاز كثيراً إلى آل البيت، متخلِّية عن مثقفي حزبها في العراء. كما أنَّ الانتقادات الكبيرة التي وُجِّهت إلى رئيس الوزراء السُّوداني السابق الصَّادق المهدي أنَّه ركن إلى التنظير وكثرة الحديث، وذلك من دون أن يكون هناك مقابل من الأعمال والمنجزات. فمنذ توليه الحكم في 6 أيار (مايو) 1986م حتى إطاحته من الحكومة العام 1989م ألقى 140 خطاباً جُمِعت في نحو 1091 صفحة، وأطلق عليه العامة "هلمَّ جرَّاً" و"ينبغي" و"أوَّلاً" وكل هذه المفردات مما يؤثر ترداده. وبنظرة فاحصة إلى مفردة "ينبغي"، التي اعتاد عليها الصَّادق في خطاباته واستكثر منها في كلامه، تطفح العبارة بأسلوب الأمر والنَّهي، وما على الأغيار إلا السَّمع والطاعة. هذا أسلوب تسلُّطي، كما أنَّه يعني أنَّ المستعير بهذه المفردة دوماً في التحادث مع النَّاس يعطيك انطباعاً بشعور المراغمة لهم، بأنَّه أوتي علماً أسمى في كل ما يقوله، ثمَّ أنَّه قد أتى بما لم يستطع غيره الإتيان به، وذلك امتثالاً لقول الشَّاعر أبي العلاء المعرِّي فيما يلي، وكان المقصود منه أنَّه يستطيع أن يقوم ويأتي بأشياء لم يصل لها من سبقوه؛ وقاله في حال غرور كبير وكأنَّه هو أذكى من كان على سطح الأرض وليس بمثله أحد، لا ممن كانوا معه، ولا ممن سبقوه:
وإنِّي وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
كذلك امتاز الصَّادق بالتردُّد في اتِّخاذ القرارات الحاسمة، وإنَّه لم يبل بلاءً حسناً على الصعيد الإداري، ويتَّهمه غيره بأنَّه ديكتاتور مدني. ففي فترة الدِّيمقراطيَّة الثالثة (1985-1989م) امتعض السُّودانيُّون من التعويضات التي سمح بها الصَّادق لآل المهدي والقصاص لعمِّه الإمام الهادي؛ إذ أنَّ مشكل الصَّادق الأساس في هذا المنحى أنَّه كان أكثر استجابة دوماً للاعتبارات الضاغطة في حزبه وفي كيانه الأنصاري عموماً، وفي بيت المهدي خصوصاً. بيد أنَّ التعويضات التي سمح بها الصَّادق لآل المهدي، وترك االذين شاركوا معه في الأحداث العسكريَّة في تموز (يوليو) 1976م دون تعويض هو قمَّة الظُّلم، وكان كل المقاتلين الذين جاءوا من معسكرات الجبهة الوطنيَّة المعارضة في ليبيا من مواطني غرب السُّودان، ولكي يضاف هذا الخذلان المبين لسجل الصَّادق في تهميش أهل الهامش. إذ أنَّ في هذا استئثار الأهل والإساءة في الأثرة، وظلم الأغيار والإساءة في المظلمة. ومع ذلك، كان يتفاءل الصَّادق ويعتقد أنَّ للتأريخ اتجاه، وفي هذا المنحى يتَّجه التاريخ نحوه إيجابيَّاً، دون أن يتبصَّر العواقب. فالنهايات بلا شك تؤذن ببدايات لأشياء أخرى، وليست هي بأخرة في شيء. أما إذا اعتقد المرء أيَّاً ما كان أنَّ النهاية هي النهاية، لكان قد أمسى هذا الأمر نهاية التأريخ، ولم يبق للعالم من شيء، ولذلك قيل إنَّ التأريخ ليعيد نفسه، وقد تكون هذه الإعادة قاسية، وليس بالضروة أن تكون حسنة. إزاء هذا المفهوم التأريخي الأزلي تمَّت الإطاحة بحكومة الصَّادق المهدي للمرة الثانية العام 1989م، وهو كان يعلم أنَّ الجماعة الجبهجيين يئتمرون يودون عزله.
إذاً، فإنَّ الصَّادق يمثِّل مدرسة الفشل في السِّياسة السُّودانيَّة بحكم الواقع المنطوق والمسموع والمرئي. وكأنَّ إزابيل هاردمان في كتابها "لماذا يُولَّى علينا الساسة الخطأ" (Why We Get the Wrong Politicians)، والذي فيه ذكرت – فيما ذكرت – أنَّ استطلاعات الرأي في المملكة المتَّحدة أشارت إلى أنَّ معظم الشَّعب البريطاني يعتبرون الصفوة السِّياسيَّة كذبة وأصحاب مصالح شخصيَّة، وسعاة جمع المال الذي يحبونه حباً جمَّاً، ثمَّ إنَّهم لشهوانيُّون لخدمة الزمان، وهي في ذلك كأنَّها أمست تصف عليَّة القوم الحاكمة في السُّودان. أفلم يكن هو الصَّادق ذاته الذي نحر في الخاصرة إعلان منتجع كوكادام الذي وقَّعه التحالف الوطني لإنقاذ الوطن بما فيه ممثِّل حزب الأمة السيِّد إدريس البنا مع الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في يوم 24 أذار (مارس) 1986م في إثيوبيا، ولكي يعود الصَّادق تقهقراً ويقول للسُّودانيين بأنَّ السيِّد البنا لم يكن مخوَّلاً بالتوقيع ممثلاً للحزب، وبذلك قتل الصَّادق الإعلان وبات جثة هامدة! أولم يكن الصَّادق هو الذي كدَّ واجتهد في تذويب اتفاقيَّة السَّلام السُّودانيَّة التي وقعها رئيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان الدكتور جون قرنق دي مبيور من جهة وراعي الحزب الاتِّحادي الدِّيمقراطي السيِّد محمد عثمان الميرغنى من جهة أخرى في حاضرة إثيوبيا، أديس أبابا، في يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988م، وبعدئذٍ ذوَّبها الصَّادق بتوضيحاتها ليستظهر بها، حتى سار مثلاً في أحاديث المجالس الحضريَّة في السُّودان تفكُّهاً! وحين أفاق من غفوته كان الوقت متأخِّراً جداً لأنَّ جماعة "الإنقاذ" قد استولت على السُّلطة في الخرطوم، وأمست تبحث عنه في أرجاء المدينة.
وحين اعتقلت السُّلطة الجديدة رئيس الوزراء المخلوع الصَّادق المهدي كان يحمل خطاباً. فماذا جاء في خطاب الصَّادق، أو ما الجديد الذي أتى به الصَّادق في خطابه الذي كان يحمله لحظة الاعتقال؟ جاء في خطاب الصَّادق أنَّه آثر أن يختبئ حتى يتبيَّن له طبيعة الضبَّاط الذين قاموا بالانقلاب: هل هم ضبَّاط وطنيين أم غير ذلك، أي حتى يتبيَّن له الخيط الأبيض من الأسود. إنَّ لفي خطاب الصَّادق ذاك العجب العُجاب! ما الذي يحدِّد وطنيَّة ضباط الجيش بأنَّهم وطنيين أم غير وطنيين، أو بأسلوب آخر عملاء لجهات خارجيَّة؟ وما هي المعايير التجريبيَّة التي استخدمها الصَّادق في تبيين وتبيان وطنيَّة ضبَّاط "الإنقاذ" الذين خلعوه من السُّلطة؟ فالأمر قبل كل شيء وبعده هو أنَّه حدث انقلاب عسكري قام بوأد الحياة الدِّيمقراطيَّة في السُّودان – مهما يكن من شيء – بما فيها من تعطيل الدستور، وشرع في العمل بالمراسيم الرئاسيَّة، وألغى الأحزاب السِّياسية، وكمَّم الأفواه وفرض حجراً على حريَّات النَّشر والتعبير والتجمُّع وغيرها من الحريَّات التي يتمتَّع بها الأفراد في أي مجتمع ديمقراطي.
مهما يكن من أمر، فلعلَّ تلكؤ الصَّادق في التعاطي الإيجابي مع مبادرة قرنق-الميرغني كان نابعاً من وجهين من وجوه البغضاء والكراهيَّة بين النَّاس، يسلك أحدهما مسلك المجاهرة والمواجهة، ويصطنع الآخر التسلُّل والمواربة. فالأوَّل هو ما يُسمَّى بالعداوة، والثاني يُسمَّى الحسد. وما ينتج من العداوة ويتولَّد عنها يترك أثراً ماديَّاً في المعدى عليه. فالحسد مظهر من مظاهر النزعة النفسيَّة المتتبعة لخلجات الضمائر في حقائق الأخلاق. وما أن استبان للصَّادق أن أمر السَّلام قد أُديل لغريمه، وأنَّه قد صار إليه دونه، بل استأثر خصمه مع ذلك دونه بكثير من مظاهر التقدير والتقديم، حتى كان ذلك جديراً أن يثير في نفس الصَّادق الضغينة والموجدة، ويملأها بالحفيظة عليه والحسد له، ويدفعه إلى ما وقع فيه، والنيل منه، والتماس الأساليب المختلفة في الغض من قدره.
وبين حسد الصَّادق لأنَّه لم ينل التشريف الذي حظي به الميرغني وسط الجماهير الغفيرة التي استقبلته في شوارع الخرطوم بعد عودته من أديس أبابا تارة، وغيرة الصَّادق من غريمه الذي شقَّ دربه وعانق الدكتور قرنق تارة أخرى، تمَّ وأد السَّلام. إذ كان يستوجب على الصَّادق أن يعي أنَّ استمرار الحرب الأهليَّة في عهده هو النتيجة الحتميَّة أنَّ شخصاً ما قد دفع ثمن الفشل في تجنُّب الاقتتال، وكان هذا الشَّخص هو رئيس الوزراء الصَّادق المهدي. إنَّ إقرار السَّلام يتطلَّب دوماً إرادة سياسيَّة قويَّة، والتجرُّد الذاتي، وحمل هموم الوطن فوق أيَّة اعتبارات شخصيَّة أو حزبيَّة، وشجاعة أدبيَّة وأخلاقيَّة. وهذه هي السمات القياديَّة التي ارتكز عليها الوزير في مجلس الوزراء إبَّان حكومة السيِّدة مارجريت تاتشر في الثمانينيَّات في القرن المنقضي المستر بيتر كاريغنتون أن يقف ضد اليمين المتطرِّف في حكومة إيَّان سميث العنصريَّة في روديسيا (زيمبابوي حاليَّاً). وبرغم من أنَّ اللورد (لاحقاً) كاريغنتون كان قد بغضه البيض في روديسيا لأنَّه كما حسبوه خان إيَّان سميث وغدر به في اتفاقيَّة لانكستر هاوس العام 1979م، التي بموجبها أمست الطريق معبَّدة لاستقلال زيمبابوي من ربقة استعمار البيض المستوطنين، إلا أنَّ كاريغنتون كان قد تحلَّل من العصبيَّة والهوى.
يا تُرى ما الذي عاب عليه النَّاس اثنين من أبطال حزب المحافظين البريطاني، وكان الاقتداء بهما قد أوقع من طفق يقلِّدهما، أو شديد الإيثار بهما، ومستغرق في هواهما، في نفق الإخفاق وسوء المنقلب؟ كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بنجامين دزرائيلي (1804-1881م) يمجِّد السِّياسة كلُعبة، وعمود مطلي بالدهان؛ فليس عجباً، بعد ذلك، أنَّ صعوده على هذا النحو لا ريب في أنَّه كان سبباً في سقوطه في نهاية الأمر. أما وينستون تشرتشل (1874-1965م) فكان يبرِّر أي عمل وحشي غير مسؤول، ويشق القول دوماً في اختلاق مبرِّرات لما لا مبرِّر له، حتى أوجد أرضيَّة خصبة للشَّعب ليمقته وينتقده. ولعلَّ هذا كان سبباً في إخفاقه في نيل رضا الحزب وفشله في الاحتفاظ برئاسة الوزراء بعد النَّجاح الكاسح الذي حقَّقته حكومته في الانتصار في الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، ودحر دول المحور بزعامة ألمانيا النازيَّة. فالساسة الناجحون يخدمون أوطانهم بإخلاص، ويتمسَّكون بأخلاق المهنة، ويلتزمون بقيم العدالة والمساواة، والابتعاد عن تبرير ما لا يستطيع كائن ما كان تبريره. فالصَّادق برغم من أنَّه تقلَّد رئاسة الوزراء العام 1986م ورفض أن يتقاضى راتبه من منطلق أنَّ البلد في عجز اقتصادي وديون دوليَّة تراكميَّة، إلا أنَّه – والحديث هنا لبعض منتقديه – كان من الأفضل أن يستلم أجره حتى تتم محاسبته إن أخفق في أداء مهامه الرَّسميَّة تجاه المواطنين والوطن معاً.
إنَّ ما أوردناه في الصفحات أعلاه هو ما هجس في أنفسنا عن شيخ كان يحدونا الأمل في أن تشدُّه نوازعه إلى ماضيه، وتردُّه إلى تأمُّل صورة حياته الأولى ومواردها، ليعتبر منها ويستقوى بها. فنحن لم نصدِّق الظن ونجعله يقيناً، ولم نفسِّر جملة ونصيِّرها تفصيلاً، ولم نأخذ من وساوس الأفَّاكين الذين يسعون بأحاديث الإفك سعياً، ولم نرتع من منابع النوازع الذاتيَّة التي تدفع صاحبها عن رجاحة العقل دفعاً، بل فيما كتبناه أعلاه أردنا أن نجلو فيه ما كان من أمر الصَّادق المهدي في الرئاسة، التي لم يتهيَّأ لها في بادئ الأمر، ولم يع المواعظ في نهاية الأمر. ولئن كنا قد كتبنا في أمر الصَّادق وأزمة الحكم في السُّودان في مواقع آنفة وتآليف سابقة، إلا أنَّه قد تبدَّت لنا مراحله مذَّاك، ومن ثم اعتزمنا أن نعود إلى الموضوع، نظراً فيه، واستكمالاً له، وتحقيقاً لم كان يتردَّد في خواطرنا عنه.
إذاً، تُرانا في الصفحات إيَّاها قد أفرغنا ما في صومعتنا في المسألة السِّياسيَّة، وذلك دون الولوج في القضايا المحوريَّة الأخرى التي بات السُّودان يعاني منها كقضايا التنمية المتوازية والخدمات الاجتماعيَّة، والأزمة الاقتصاديَّة ومسألة الديون الخارجيَّة التي خلفها النِّظام المايوي المباد، وقوانين إيلول (سبتمبر) المتنازع عليها، والحروب الأهليَّة التي في أجزاء كثيرة في البلاد، وآثار الجفاف والتصحُّر والمجاعة التي ضربت البلاد في أخر أيَّام نظام مايو (1984-1985م) وغيرها. فلا يعني هذا أنَّ صحائف الصَّادق كانت بيضاء من غير سوء في هذه المناحي الحياتيَّة، بل إنَّ السِّياسة هي في الحق أم المشكلات السُّودانيَّة منذ الأزل. فقد باتت مشكلة كيفيَّة حكم السُّودان، ذلكم البلد الذي كان شاسعاً مترامي الأطراف، وما ينشأ عن ذلكم الحكم من رسم السِّياسات الاقتصاديَّة والزراعيَّة والتنمويَّة والإعماريَّة والتَّعليميَّة وهلمجرَّاً عاملاً للاحتراب والاضطراب السِّياسي في البلاد. ثمَّ هناك المسألة الثقافيَّة بالمعنى الإثني والدِّيني والاجتماعي والطبقي للكلمة. بيد أنَّ في هذا الأمر الأخير الذي كان مسكوتاً عنه في الماضي البعيد قد شرع كثرٌ من الكتَّاب والنشطاء يتحدَّثون عنه في وسائط التواصل الاجتماعي، ويكتبون عنه في دور النَّشر المختلفة، وها نحن سوف نتطرَّق إليه في الصفحات القادمات. فما هي القضيَّة إذاً؟ إنَّها مسألة الهُويَّة والتي هي أم المشكلات النفسيَّة والصِّراعات الدمويَّة والجهويَّة في السُّودان.
وللكلام بقيَّة،،،