الصَّادق المهدي.. تجلِّيات زعيم طائفي (10)
shurkiano@yahoo.co.uk
الهُويَّة المفقودة أو الهُويَّة المتوهَّمة أو الهُويَّة المستوردة
ولعلَّنا بالعنوان أعلاه تجدنا قد اقتبسناه من مقال رصين وحزين في الآن نفسه كتبه القاضي السَّابق مجدي إبراهيم محجوب عن تجربته في السلك القضائي حين عمل في مدينة كادقلي كقاض مقيم إبَّان حكومة الصَّادق المهدي (1986-1989م). ومن خلال تجربته استقرَّ رأيه بأنَّ الصِّرعات والنِّزاعات والحروب المدمِّرة، التي كانت تدور أيَّامها، ارتكزت حول موضوع واحد هو الهُويَّة المفقودة أو الهُويَّة المتوهَّمة أو الهُويَّة المستوردة. هذه الهُويَّة المستوردة هي التي يقدِّمها لنا الدكتور هشام عمر النور في محور نقده لأطروحة الدكتور فرانسيس دينق حول "صراع الرؤى ونزاع الهُويَّات" ب"أنَّ الأمم هي "مصنوعات ثقافيَّة" تشكِّل ادِّعاءاتها بالأشكال الجوهريَّة للهُويَّة الجماعيَّة، كتجانس عرقي أو أثني، وكلغة وتأريخ ومصير مشترك، أو حتى كمعنى للخير، تشكِّل بناءات مصطنعة للنَّاس الذين يحتاجونها للتأقلم مع الشروط والسِّياسة المتغيِّرة ويحتاجونها لتوليد أفضل الأشكال وأقواها من التضامن الاجتماعي."(52) وبما أنَّ الدكتور النور قد عاد واستطرد أنَّ حديثه لا يعنى إنكار الهُويَّات التي يستشعرها النَّاس كأمر جوهري، أو إنكار ما يترتَّب عليها من مظالم وقهر، غير أنَّه لم يسأل نفسه لِمَ نتبنَّى المستورد المصطنع في وجود الأصل، وهل هذا المصطنع قد تمَّ تصنيعه من الإرث التأريخي أو الجغرافي أو الاجتماعي في جوف البلاد التي نشأنا وترعرعنا فيها؟ كلا! ثمَّ إنَّ هذا الجديد المصطنع لم يتوافق عليه النَّاس لا عرقيَّاً ولا أثنيَّاً، ثمَّ لم يوفِّر التضامن الاجتماعي المنشود أبداً، بل أمسى جوهر الصِّراع السِّياسي والاجتماي والاقتصادي في السُّودان.
لا جدال في أنَّ الدَّعوة إلى التعدُّديَّة قد بات مطلباً حيويَّاً في جميع أصقاع العالم، وذلك لرسم السِّياسات الاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة حتى يشعر كل إنسان بحقِّه الدستوري والإنساني في المواطنة. إزاء ذلك وجد الصَّادق المهدي نفسه في موقع لا بدَّ له إلا أن يساير النَّجم في الظلام ظلام أمسه. والصَّادق، الذي أنفق جل حياته – ولا يزال – في تكريس الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة في السُّودان، وله في ذلك صولات وجولات، طفق أخيراً يتحدَّث عن تجاهل المركز عن الثقافات الأخرى، وذلك في تقديمة لكتاب "النُّوبة.. دراسة أنثروبولوجيَّة عن قبائل النُّوبة بكردفان"، والذي ترجمه الأستاذ العالم أحمد دقاش، حيث كتب الصَّادق قائلاً: "شعوب كثيرة من أهل السُّودان، لا سيَّما الناطقة بغير اللُّغة العربيَّة، مجهولة لحملة الثقافة المركزيَّة الناطقة باللُّغة العربيَّة."(53) واستطرد الصَّادق في القول إنَّه ليأمل في "أن تسهم مثل هذه الدِّراسات في خلق فهم إيجابي لمكوِّنات ذاتنا السُّودانيَّة، وتعزيز الرُّوح الوطنيَّة والترابط، (لأنَّ) هذا الفهم سوف يشكِّل رافداً مهماً للتعارف والتعايش وإدارة التنوع بين مكوِّنات الوطن."(54) تُرى هل كان الصَّادق صادقاً في أقواله؟ كلا! فإنَّ تأريخ الرَّجل السِّياسي يشي بشيء غير ذلك تماماً.
أيَّاً كانت مقاصد الصَّادق، فإنَّ اللغات غير العربيَّة، التي قد تتعرَّض للإنقراض لئن أُهملت، تحمل في أحشائها قطوفاً من الأشعار وعناقيد من الأغاني، ثمَّ إنَّها لمستودعات البذور الثقافيَّة لأجيال المستقبل. فتأريخيَّاً كان للأدب قوَّة يستطيع بها تنشيط اللُّغات، ثمَّ إنَّ المفردات التي نستخدمها في الشِّعر تفتح نافذة سيكلوجيَّة في الثقافات المختلفة. وها نحن نعلم أنَّ دانتي الخيَّري (1265-1321م) لم يكتب الكوميديا الإلهيَّة في القرن الرَّابع عشر من الميلاد باللُّغة اللاتينيَّة، أي اللُّغة الرسميَّة آنذاك، بل كتبها باللُّغة الإيطاليَّة التي كانت لغة محليَّة يستخدمها العوام والدهماء من الشَّعب الإيطالي يومئذٍ؛ وجيفري شوسر (1343-1400م)، الأب الرُّوحي للأدب اإنكليزي، قد فعل الشيء نفسه مع اللغة الإنكليزيَّة الوسطى، ثمَّ كان الكاتبان قد تحرَّرا من استخدام لغة الفكر الرَّسميَّة، واحتضنا لغة الحياة الواقعيَّة، ولا نزال نقرأ عنها في لغتيهما الأصليَّتين. ولكي ندرك أهميَّة اللُّغة عند أي قوم فأنظر إلى تأريخ لغة روسيا البيضاء والإمبرياليَّة الرُّوسيَّة والبولنديَّة. ففي الثلاثينيَّات من القرن الفائت تمَّت إبادة أجيال بأكملها من الفنَّانين والعلماء والموسيقيين من ذوي الأصول الرُّوسيَّة البيضاء بواسطة نظام الزعيم الرُّوسي جوزيف ستالين الشُّيوعي. إذ أنَّ اللُّغة ليست من الأشياء التي يتحكَّم فيها النَّاس، وما أحسن قول ستالين الذي قال: "لقد استطعنا أن نؤمِّم كل شيء، إلا اللُّغة فإنَّنا لم نستطع أن نكمِّم الأفواه ونروِّضها على ما نحبُّ ونبتغي." فبرغم من أنَّ لغة روسيا البيضاء هي لغة دستوريَّة جنباً إلى جنب مع اللُّغة الرُّوسيَّة، غير أنَّ الأسر الناطقة بلغة روسيا البيضاء تتعرَّض للتمييز العنصري في المجالات الاجتماعيَّة كالتَّعليم والخدمات الطبيَّة، وكل من يتحدَّث بها يُنظَر إليه في الغالب الأعم من منظور سياسي موارب.
أيَّاً كان من أمر الروس، فلعلَّ كثراً من اللغات، بما فيها لغات النُّوبة العديدة، تحمل بين ثناياها الأدب، مما يصعب ترجمة هذا الأدب، لأنَّ ترجمة العواطف ليست من السهولة بمكان. إذاً، من الأحرى الاحتفاظ بهذه اللُّغات وتحديثها وتطويرها حسبما جدَّ من الأشياء بفضل تطوُّر علوم المعرفة والعولمة.
ففي ورقة قدَّمها الصَّادق المهدي بعنوان "تجلِّيات المأزق التأريخي والتهافت المتأخِّر للخطاب التشكيلي.. نحو مشروع قومي لدور التشكيل في الثقافة الوطنيَّة" شرع الصَّادق مسترسلاً في الرؤية الشماليَّة قائلاً: "كانت رؤية القوى السِّياسيَّة كما نضجت في الشمال تفترض أنَّ الثقافة الإسلاميَّة العربيَّة سوف تهيمن على الثقافات المسيحيَّة الأنجلو-فونيَّة كافة، التي تقمَّصها المثقفون الجنوبيُّون غرساً أجنبيَّاً لا يؤبه به."(55) هذا، فإذا اعتقد الصَّادق المهدي أنَّ في افتراض تهيمن الثقافة الإسلاميَّة-العربيَّة على الثقافات المسيحيَّة الأنجلو-فونيَّة هو قمَّة النُّضوج الفكري في الشمال فهذا خطأ مبين، لأنَّ هذا التهيمن يمثِّل قمة الجهل طوراً، والظلم طوراً آخر. فكلَّما تقدَّم الإنسان في العمر ضعف بصره، واتَّضحت رؤيته. فلعلَّ النُّضوج يعني العدالة والبصيرة وإحقاق الحق والاعتراف بالواقع الماثل دون منقصة أو مظلمة. أما إذا اعتبر الصَّادق اعتناق أهل الجنوب الدِّيانة المسيحيَّة كغرس أجنبي، فالإسلام والعروبة ليسا أصلاً في السُّودان، ولم يظهر الرسول صلى الله عليه وسلَّم في السُّودان، ولم يتنزَّل كتاب الله عزَّ وجلَّ في السُّودان أيضاً. أما إذا أخذنا بالتراتيب الزمانيَّة فإنَّ المسيحيَّة سبقت الإسلام في السُّودان ظهوراً واعتناقاً وممارسة في ممالك النُّوبة المسيحيَّة القديمة في مروي ونبتة، وفي مملكة علوة في سوبا. ومن قبل كانت هذه الشُّعوب النيليَّة تعبد الإله أمون رع، ولا ندري أيَّة آلهة كان يعبدها سكان السُّودان الأصلاء الأوائل في أصقاع الوطن الأخرى.
أما إذا كان الصَّادق يقصد بما أتى به في العبارة إيَّاها من باب التوبيخ الذاتي والإقرار أخيراً بالخطأ الوطني، فهذا الخطأ ينطبق عليه إن كانت له نفس لوَّامة. وحين يجنح الصَّادق في تلمس "مشروع قومي لدور التشكيل في الثقافة الوطنيَّة"، فنحن إذ نقول له إنَّ مسألة الانتماء الوطني الحقيقي مشروط بفعل المشاركة في الوطن السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وذلك دون تبخيس النَّاس أشياءهم، أو تجريدهم من حقوقهم الإنسانيَّة والدستوريَّة.
وإذا كان الصَّادق يعتقد في أشدَّ ما يكون الاعتقاد أنَّ تقمُّص عقيدة ما أو لغة ما يعني التثاقف بثقافة أهل تلك العقيدة وتبنِّي أثنيَّتهم اللُّغويَّة، فإنَّ في هذا الفهم خطيئة كبرى في حد ذاته. ولعلَّ الخطيئة – على وزن فعيلة – أعظم من الخطأ الذي يأتى على وزن الفعل، لأنَّ الأولى مبالغة في الخطأ. وهذا ما اعتقدته نخبة الشمال الحاكمة المسلمة في السُّودان حين ظنَّت أنَّهم بتدينَّهم بالإسلام ديناً قد أصبحوا عرباً خلصاً. وإذا كانت الحال كذلك لأمسى مسلمو الهند وبنغلاديش وباكستان وإيران وتركيا والبوسنة ومالي نيجيريا وغيرهم من الشعوب المسلمة الأخرى عرباً بالتديُّن. وقد نشأت المشكلات الاجتماعيَّة التي نعتاشها اليوم في السُّودان من هذا التفكير الاختزالي، ومن الاعتقاد الجارف عند البعض أنَّ هُويَّة الشَّخص تتحدَّد بالانتماء الدِّيني فحسب، وذلك دون الأخذ في الاعتبار مكوِّنات الهُويَّة الأخرى من لغة وطبقة، وعلائق اجتماعيَّة، ورؤى سياسيَّة، وأدوار مدنيَّة، وإعطاء حيزاً للعقيدة أو التقليد الموروث قبل اختبار أو اختيار دين أو تقليد آخر. فالدِّين عنصر من عناصر الثقافة، بل هناك عناصر أخرى أكثر تأثيراً من الدِّين، فلعلَّك واجدٌ هذه العناصر تتغلَّب على المعتقدات الدِّينيَّة حيناً، وتصل مصاف الدِّين حيناً آخر، ويمتزج الإثنان مِزاجاً معقَّداً حيناً ثالثاً حتى بالكاد لا نستطيع أن نميِّز بينهما أمراً.
ولعلَّ خيراً من خاطب هذه القضيَّة المركزيَّة منذ زمن بعيد موغل في القدم هو الإمبراطور الهندي أكبر، وذلك في ملاحظاته عن العقلانيَّة والعقيدة في الخمسينيَّات من القرن المنصرم. إذ أنَّ أكبر – المغولي الأعظم – كان قد ولد مسلماً، أي من عائلة مسلمة لأنَّ الطفل يولد كورقة بيضاء وإنَّ أبويه هما اللذان يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجسَّانه أو يأسلمانه أو يعمِّدانه في أيَّة عقيدة أخرى، ثمَّ توفي أكبر مسلماً، لكنه كان يصرُّ على أنَّه ينبغي أن لا تأخذ العقيدة أولويَّة على العقلانيَّة، لأنَّه يستوجب على الفرد أن يبرِّر اعتناق عقيدته الموروثة بالعقلانيَّة، ويجب أن تطغي العقلانيَّة، وفي حال الارتياب من العقلانيَّة ينبغي أن نأتي بأسباب مقنعة تبدِّد ما نحن في شك منه مريب. ولعلَّ النخبة الجنوبيَّة التي عناها الصَّادق وتحدَّث عنها، لهم موروثاتهم وتقاليدهم وعاداتهم الإفريقيَّة، وهم فوق ذلك كله يمارسونها ويحتفون بها، ويقبلون عليها في السرَّاء والضرَّاء، ولا يتشبَّثون بثقافة خارج الإطار الوطني لهم، حتى لئن تحدَّثوا بالإنكليزيَّة، علاوة على لغاتهم القوميَّة، حيث باتت الإنكليزيَّة لغة العالم اليوم لا شك في ذلك. فهناك الانتماء السِّياسي والبناء الاجتماعي والتركيبة العشائريَّة والإرث القبلي. إذ ليست هذه العناصر مجرَّد ملامح مجرَّدة لمجتمع في شيء بقدر ما هي حقائق واقعيَّة ملموسة ومعاشة.
ففي صحيفة "الزمان" اللندنيَّة أجرى الصحافي مصطفى عمارة حواراً صحافيَّاً مع الصَّادق المهدي، حيث سأله الصحافي بأنَّ الحركات التبشيريَّة يعاني منها المسلمون في الجنوب السُّوداني، فما هي الخطة التي وضعها حزب الأمة لمواجهة هذه الحركات؟" إذ ردَّ الصَّادق أنَّ "التبشير كان وما زال وسيظل موجوداً، المهم أن يكون هناك عمل من جهات إسلاميَّة وعربيَّة لصالح الجنوبيين (...)، ولكنني في الوقت نفسه أقول إنَّه لا يوجد نشاط إسلامي أو اهتمام من الناحية الدينيَّة أو الإنسانيَّة لأبناء الجنوب بالقدر الكافي، وهذا لا بد من تصحيحه."(56) وبرغم من ذلكم السؤال المعوج، لم نكد نسمع عن اضطهاد المسيحيين للمسلمين في جنوب السُّودان طيلة حياتنا الدنيا التي عشناها ولا نزال نعيشها. ولئن كانت هناك ثمة إشكاليَّة اجتماعيَّة في الجنوب فإنَّها في الغالب الأعم تنشأ من جراء انتهاب الأبقار والشجار العادي الذي نجده في أي مجتمع، أو التناحر القبلي. وفي الأخير كانت للحكومة في الخرطوم أيادي فيه، وذلك من خلال استخباراتها، وبخاصة في فترات الحروب الأهليَّة التي بالكاد لم يهدأ من سعيرها أهل الجنوب. فالمسلمون في الجنوب – وبرغم من قلَّتهم تعداداً بالقياس إلى المسيحيين ومعتنقي كريم المعتقدات الإفريقيَّة – ينعمون بكل شيء مثل غيرهم من المواطنين الآخرين. إذ أنشأت – منظَّمة الدَّعوة الإسلاميَّة التابعة للجبهة القوميَّة الإسلاميَّة – مسجداً ضخماً بالقرب من مدينة طمبرة في منطقة لم يكن فيها مسلم واحد. إذ تمَّ ذلك بمعاونة العميد دومينيك كاسيانو قيتواوا بخيت، والذي كان في ذلك الرَّدح من الزمان قائد اللواء 16 مشاه في مريدي بغرب الإستوائيَّة، حيث كان قد تمَّ نقله كمحافظ عسكري لهذه المنطقة. وبناءً على ضغوط من أهله الأزاندي، اضطرَّ حاكم الإستوائيَّة اللواء بيتر سيريلو أن يأمر بإبعاده والتحرِّي في الملابسات الماليَّة.
وبرغم من ذلك كله، ترك أهالي المنطقة المسجد قائماً، حتى ولئن لم يدخله أحد ليقيم فيه الصَّلاة، ويتبتل إلى الله تبتيلاً. فبأي ألاء ربكم تكذِّبون! وأي اضطهاد للمسلمين من قبل المسيحيين في الجنوب مثل ذلك الذي يتحدَّث عنه أولئك القوم! إذ لم يمسس أحد هذا المسجد بسوء كما فعل أحد أعراب مكة حين ذهب إلى اليمن وتغوَّط في الكنيسة هناك، وكانت هذه الفعلة النكراء هي واحدة من الأسباب التي جعلت القائد الإثيوبي أبرهة أن يقدم على تجييش الجيوش وقيادة حملة عسكريَّة، وعلى الأفيال جاءوا للإغارة على مكة المكرَّمة في القصة القرآنيَّة الشهيرة بسورة الفيل.
فالحركة الشعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، وفي عنفوان عهد الجهاد الإسلامي في الجنوب وجبال النُّوبة والنيل الأزرق، أقرَّت بوجود وأهميَّة الأديان كحتميَّة تأريخيَّة واجتماعيَّة ولا بدَّ مما ليس منه بد، ولكن دون أن تكون سبباً للمشكلات السِّياسيَّة أو النِّزاعات الاجتماعيَّة. إزاء ذلك أنشأت الحركة الشعبيَّة مجلس الكنائس للسُّودان الجديد العام 1990م بقيادة الأسقف باريدي تعبان، وتلاه المجلس الإسلامي للسُّودان الجديد في مدينة توريت بجنوب السُّودان في 19 أيلول (سبتمبر) 1991م بقيادة الطاهر بيور عبد الله جاك ليقوم كل منهما برعاية شؤون معتنقي هاتين الديانتين الاجتماعيَّة والتعبديَّة. إذ أنَّ هناك ثمة عدداً من المساجد في جنوب السُّودان. فعلى سبيل المثال لا حصريَّاً يوجد مسجد كبير في مدينة ملكال، وظلَّ هذا المسجد الضَّخم تحت إشراف البعثة المصريَّة، وكانت هناك ثمة مساجد أخرى في المدن الكبيرة مثل جوبا وواو وتوريت وكبويتا ومريدي، ثمَّ كان أئمة هذه المساجد في المناطق، التي كانت تقع تحت إدارة الحركة الشعبيَّة، مرتبطين بالمجلس الإسلامي للسُّودان الجديد.
مهما يكن من شيء، ففي الحوار الصحافي إيَّاه يدعو الصَّادق أن يكون للعرب دور أكبر في حل مشكلة الجنوب، وبخاصة مصر وليبيا، وذلك في نفس الوقت الذي فيه أنفق الصَّادق طيلة سنواته في المعارضة وهو زعيم بأنَّه يرفض في أشدَّ ما يكون الرَّفض تدويل المشكل السُّوداني، وأمسى يذكِّر نفسه ويحذِّر غيره من مغبة الوقوع في براثن التدويل، مع علمنا علم اليقين أنَّ تدويل قضيَّة الحرب الأهليَّة في السُّودان كان قد بدأ في عهد حكومته حين وقَّعت على اتِّفاق "عمليَّة شريان الحياة" (Operation Lifeline Sudan) في نيسان (أبريل) 1989م مع وكالات الأمم المتَّحدة (اليونيسيف وبرنامج الغذاء العالمي تحديداً) علاوة على ما يربو على 35 منظَّمة طوعيَّة غير حكوميَّة، وبموجب هذا الاتِّفاق سمحت حكومته لمنظَّمات الإغاثة الدوليَّة بتوصيل الغذاء والدواء والكساء للنَّازحين من سعير الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان. أولم يكن ذلك تدويلاً لمشكل النِّزاع المسلَّح الذي أخفقت الحكومات السُّودانيَّة أيامئذٍ – بما فيها حكومته – في حلَّه سياسيَّاً، حتى يعيش أهل السُّودان قاطبة في أمن وأمان، وبحيث ينعمون بالرَّخاء والرفاهيَّة! أفلم يكن قول الصَّادق "إنَّه يريد تحوُّلاً إلى الدِّيمقراطيَّة من خلال إشراف دولي" تدويلاً للمشكل السُّوداني! أولم يكن استقدام حكومته طائرات مقاتلة عراقيَّة يقودها طيَّارون عراقيُّون والقيام بقصف مواقع الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في مدينتي الكرمك وقيسان لمعاونة القوات المسلَّحة السُّودانيَّة لاستردادهما من قبضة الجيش الشَّعبي العام 1987م تدويلاً للصِّراع السُّوداني! إذ قام مجلس السِّيادة بمنح أوسمة عسكريَّة للطيَّارين العراقيين، وكان هذا الموقف قد أغضب الطيَّارين السُّودانيين، وأثار فيهم حفيظة وحميَّة ضد حكومة الصَّادق نفسه يومئذٍ! والصَّادق نفسه في حوار أجرته معه الصحافيَّة عبير المجمَّر (سويكت) في فندق هوليداي بباريس أقرَّ قولاً: "نحن نتعامل معها (الأسرة الدوليَّة) باعتبارها جزء من الواقع الدولي، ومن لا يعترف بالواقع الدولي هو واهم، فالأسرة الدوليَّة عندها وجود في مجلس الأمن، وعندها وجود في دول الجوار، وعندها تأثير على كل شيء."(57)
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ جامعة الدول العربيَّة عند إنشائها العام 1945م "قامت نظرة الآباء المؤسِّسين للوحدة العربيَّة على احترام الكيانات السِّياسيَّة/الجغرافيَّة القائمة، وتطوير علاقاتها الاقتصاديَّة، وتنمية رأسمالها البشري، والارتقاء بثقافتها المشتركة دون أدنى تدخُّل في شؤونها الداخليَّة (غير أنَّ) الضعف الهيكلي في الجامعة العربيَّة ظلَّ هو عجزها عن أن تتحوَّل من منظَّمة حكومات عبر تطوُّر تدريجي إلى منظَّمة تتلمَّس طموحات الشعوب في الحريَّة والدِّيمقراطيَّة، وتسخير الثروات للارتقاء بالمواطن العربي."(58) إذ كان يجدر على هذه الدول أن تحل مشكلاتها الداخليَّة أولاً قبل القفز عليها وإيهام أنفسها بعلاج المشكلات العربيَّة الكبرى. ولعلَّ كثراً من هذه الدول قد عانت مشكلات القوميات المختلفة، وأزمة الحكم، والهويَّة الثقافيَّة وهملجرَّاً. فهل أتاك حديث الأكراد في العراق وسوريا وامتدادهم في إيران وتركيا، والشيعة في جنوب العراق والبحرين، والأمازيغ في الجزائر، والأقباط والنُّوبيين في مصر، وأهل الجنوب وجبال النُّوبة ودارفور والبجة والنيل الأزرق في السُّودان وغيرهم! إذاً، ليست هناك ثمة ثقافة مشتركة بين هذه الدول في أدنى ما يكون الاشتراك.
على أيِّة حال، فبرغم من فشل الجامعة العربيَّة من حل كل القضايا العربيَّة بما فيها النِّزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، أخذ الصَّادق يردِّد بأنَّ "الدول العربيَّة يمكن أن يكون لها دور مهم في القضايا السُّودانيَّة، وتحقيق وحدة السُّودان، ولذلك تحدَّثنا مع عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربيَّة، وهو مقتنع بذلك، ونتمنَّى أن يتم تفعيل الدور العربي لحل المشكلة السُّودانيَّة (...)."(59) ليس بخاف على أحد أنَّ الجامعة العربيَّة قد فشلت الفشل كله في حل مشكل الحرب الأهليَّة الأولى في السُّودان (1955-1972م)، وأزمة العلاقات الجزائريَّة-المغربيَّة، وبخاصة حرب الصحراء العام 1963م، وحرب الصحراء الغربيَّة (1975-1991م)، وإغلاق الحدود الجزائريَّة-المغربيَّة العام 1994م ووضعيَّة الصحراء الغربيَّة؛ وأزمة مثلث حلايب بين السُّودان ومصر منذ العام 1958م حتى الآن؛ والحرب الأهليَّة في شمال اليمن (1962-1970م) التي تورَّطت فيها المملكة العربيَّة السعوديَّة والأردن ودعم بريطاني خفي في مساندة الملكيين، بينما وقفت مصر بالقوَّات والأسلحة السوفيتيَّة إلى جانب الجمهوريين؛ والحرب الأهليَّة اللبنانيَّة (1975-1990م)؛ والنِّزاع التشادي-الليبي (1978-1987م) حول سيادة قطاع أوزو، فضلاً عن تدخل ليبيا في الشؤون الداخليَّة لدولة تشاد؛ والحرب الإيرانيَّة-العراقيَّة (1980-1988م)؛ والأزمة العراقيَّة-الكويتيَّة (1990-1991م)؛ ومشكل الأكراد في العراق وسوريا؛ والقضيَّة الصوماليَّة منذ العام 1992م، والأزمة اليمنيَّة الحاليَّة بين الحوثيين في اليمن والتحالف العربي بقيادة المملكة العربيَّة السعوديَّة (2015م-؟) وهلمجراً. وفوق ذلك كله، لم يقدِّم العالم العربي-الإسلامي أيَّة مساعدات إنسانيَّة إلى أهل الجنوب، مسلميهم ومسيحييهم وأصحاب معتقدات أخرى، ولم يكترث لمعاناتهم. إذاً، كيف لمنظَّمة إقليميَّة بهذا الكم الهائل من الإخفاقات السِّياسيَّة أن تساهم في حل القضيَّة السُّودانيَّة!
ثمَّ إذ إنَّما هي نفس الجامعة العربيَّة التي مانعت قبول عضويَّة السُّودان حين تقدَّم الأخير بطلب الانضمام إلى هذا النَّادي العربي العام 1956م، أي بُعيد فجر الاستقلال. إذ "مثَّل رفض قبول عضويَّة السَّودان لهذه المؤسَّسة العربيَّة – وتحديداً من قبل دول الشام، أي لبنان وسوريا – صدمة نفسيَّة لدعاة العروبة في السُّودان، لأنَّ مبرِّرات الرَّفض كانت موضوعيَّة ومنطقيَّة، (وذلك لأنَّ السُّودان لم يكن عربيَّاً، وليس بقطر عربي، ولم يكن سكانه عرباً في يوم ما، وليسوا بعرب في شيء)."(60) بيد أنَّ توسُّط أو توسُّل الرئيس المصري آنذاك العقيد جمال عبد الناصر عند قادة العرب – ملوكهم وسلاطينهم ورؤساؤهم وأمراؤهم – من أجل قبول عضويَّة السُّودان كانت لأسباب اقتصاديَّة وعسكريَّة بحتة. ومن هنا طفق عبد الناصر حاثاً إخوته العرب على قبول عضويَّة السُّودان برغم من عدم عروبة سكانه، إلا أنَّ في السُّودان أراضي واسعة وإمكانيات وفيرة، وبه رجال أشدَّاء أقوياء يمكن للعرب تسخيرهم في نزاعهم مع إسرائيل في سبيل القضيَّة الفلسطينيَّة. إذ هي تلك نفس الفكرة التي راودت محمد علي باشا حين عزم على غزو السُّودان العام 1821م. ونحن إذ نعلم أنَّ هذه الثروات الطبيعيَّة والحيوانيَّة والبشريَّة (تجارة الرِّق) التي سُخِّرت لبناء الإمبراطوريَّة العثمانيَّة (التركيَّة) في الخرطوم والقاهرة قد أتت من تخوم السُّودان في النيل الأزرق وجبال النُّوبة وجنوب السُّودان ودارفور. ولا ريب في أنَّ الرئيس المصري يومئذٍ كان يدرك أيما إدراك هذه الحقيقة الجوهريَّة، إلا أنَّ زعماء الاستقلال في السُّودان لم يعوا ذلك، بل أخذتهم العزَّة بالجهل، وآثروا العوراء على العيناء، واللَّهاث جرياً وراء العرب من منطلق هُويَّة موهومة، ومفاهيم مختزلة في تعريفهم للعروبة، حتى باتوا بمثابة الأصلع الفخور بشعر جاره. على أيٍّ، ففي القول المنسوب للبروفيسور الكيني الرَّاحل علي مزروعي، ولئن أنكره حين جوبه به، وفي ذلك ربما ليتجنَّب الحرج مع الجهات الرسميَّة السُّودانيَّة، قال المزروعي: "بدلاً من أن يكونوا أفضل الأفارقة، اختار السُّودانيُّون بمحض إرادتهم أن يكونوا أسوأ العرب!"
إذاً، من الجلي أنَّ جامعة الدول العربيَّة عاجزة كل العجز عن تفعيل نفسها كمؤسَّسة سياسيَّة مقتدرة على فض النِّزاعات وصيانة السَّلام وسيادة حكم القانون، وذلك نسبة لتضارب وتشُّعب مصالح أعضائها، علاوة على الصِّراعات الثنائيَّة طويلة الأمد. ولا هي أيضاً قادرة على أن تصبح حلفاً دفاعيَّاً متعدِّد الشراكة كحال حلف الناتو مع تعريف المصالح المشتركة وإقرار صيغة التنسيق العسكري. ومن هذا المنطلق يبقى التعاون الاقتصادي هو الخيار الأوحد، والذي هو الآخر غير مطبَّق أيضاً. إذاً، على الجامعة أن تأتي بأهداف واضحة عما تريد أن تحقِّقها، وأغراض محدَّدة، وبإستراتيجيَّة وثوق، ومعايير لتقييم وتقويم النَّجاح.
ففي ظلال ما جرى في السُّودان – ولا يزال يجري – أمسينا نتساءل في أنفسنا، ونلقي على غيرنا التساؤلات الآتية: ماذا حدث للهُويَّة القوميَّة حيث بات كل ما يمكن أن يعضد الوطن اجتماعيَّاً – على أقل الفروض – يتحلَّل ويندثر؟ ماذا جرى في المجتمع، حتى بات التركيز على ثقافة بعينها كمعلم أحادي قومي لا شريك له؟ ماذا حدث للأخلاق في ظل حكومة "الإنقاذ" حتى وصلت البلاد إلى أسوأ حالاتها الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة، حتى أبرز النِّظام ما كان سيئاً في الأخلاق السُّودانيَّة؟ فالذي يربط ما بين الشَّخصي والسِّياسي هو ما أسمَّاه الفيلسوف الفرنسي وأحد مؤسِّس علم الاجتماع الحديث أميل دوركايم (1858-1917م) قبل أكثر من قرن مضى باللامعياريَّة (Anomie)، وهي الحال التي تقلُّ فيها قدرة المجتمع على التوجيه الأخلاقي لأفراده. ففي هذ الحال وصف دوركايم تضاؤل التزام النَّاس بالمعايير إلى حد يتعطَّل معه عملها؛ فتقضي بالمجتمع إلى الفوضى والصِّراع التناحري، وارتفاع معدَّلات الجريمة والانحراف والانتحار، وقد تؤدِّي إلى التفسُّخ والانحلال. فحين يفيق الشَّعب السُّوداني من سباط الظلمة القابعين في السُّلطة ردحاً من الزمان، وتنقشع العتمة التي غشته فستصبح كيفيَّة ترميم الأخلاق عمليَّة عسيرة في أشدَّ ما يكون العسر، حيث سيتطلَّب الأمر أجيالاً ومنهاجاً تربويَّاً وسلوكيَّاً لإزالة ظاهرات الفساد المستشري والغش والرَّشوة، وانفراط عقد الأمن، والجرائم الإنسانيَّة، وارتفاع معدَّل البطالة، وانعدام الخدمات الاجتماعيَّة؛ وفوق ذلك كله الاعتراف بالآخر الشريك في المواطنة، بل هو رمز الشعوب الأصلاء في البلد وليس إضافة ثانويَّة يمكن بترها أو استئصالها حسب أمزجة الحكام في الخرطوم. وبعدئذٍ يمكن أن تعود الثقة المفقودة والأمل الموؤود، ويتبدَّد القلق والاكتئاب، وتعود الحياة إلينا في عالم أخذ يتغيَّر بسرعة مذهلة، وأمسى غير مستقر على حال بين كل يوم وآخر.
وللحديث خلاصة،،،