سمعتُ حديثاً لأحد المواطنين، كان حديثاً مُحمَّلاً بشعارات ومحمولات سياسيَّة لا تمتّ لخطابٍ يمسّ احتياجات المواطنين ويُحرِّضهم، من خلال الحديث عن المظالم وانعدام العدالة والمآسي التي دفعت بالشعب إلى الخروج في مدينة عطبرة، بل وطرد "الكيزان" وكسب انحياز الجيش والشرطة –وهذه سابقة-؛ أقول، كان الحديث بعيداً عن أي خطابٍ جديد إذ هو ذات الخطاب القديم: محمّلٌ بالكراهية والتحريض عليها، والشماتة السياسيَّة في الخصم، والتي لا تمت بما قام به الشعب طواعيَّةً من تجاوزٍ عميق لهذه الخطابات والانطلاق نحو الشعور الحقيقي بمدى المأساة الحياتيَّة والاقتناع التام، بل الإيمان، بانعدام سُبُل الإصلاح ومعالجة الأزمة: الشعور التام بانعدام وجود الدولة.
إن تراجع السياسيين وخطاباتهم واجبٌ، والأهم الاستماع المُرَكَّز لخطاب الشعب الذي يقود الحراك الحقيقي اليوم، والأساليب المُبتكرة والمبدعة التي اجترحها –الشعب- قبل وأثناء وإلى حين الذي يفور الآن؛ في خصوص التنظيم والحشد وإبراز الخطاب السلمي والأهم من كل ذلك: الحقّ المطلوب بجديّة في العيون، والاستحقاق البديهي الذي لا يمكن لأي طرفٍ أن يراه مؤامرة أو عمليّة مدبّرة لإسقاط النظام؛ الذي يحدث عفوي وبديهي ومنطقي ومُنتظر إلى أبعد الحدود. إن الخطاب السياسي القديم الذي يتصاعد هنا وهناك ويخفت رغماً عنه، إزاء صخب خطاب الشعب وقوَّته؛ هو خطابٌ نابعٌ من آلامٍ شخصيَّة، وغضبٍ شخصيّ، ذي طابعٍ انتقاميٍّ بحت! لا ضدَّ نظامٍ عالميٍّ فاسد، ولا بنظرة واقعيَّة لجلاء المكان الذي تقود إليه خطابات الجماعات الإسلامية المُعاصرة، والتي بدأت سلسلة تخريباتها بالسودان؛ إنه خطابٌ نابعٌ من مراراتٍ شخصيَّة حدثت لأصحابه –الخطاب- أو/ولمن هم حولهم، لمن أحبوهم وصادقوهم وفقدوهم خلال الدرب، وهو نتيجة حقيقيّة ومنطقيَّة لكل من يقول (لا) في وجه من يقولون: (نعم)، أي: فقدان الحياة والتضحية بها.
الآن، نحن خلف من قالوا (نعم) لسنواتٍ طويلة، وصبروا بل وتأثروا بخطاب الدولة وأصبحوا أشدَّ ضراوةً ضدَّ النساء، وبلغوا شأواً من تجذّر العنصريَّة والشتات والانفصال عن بعضهم البعض كشعوب سودانيّة عريقة ومتعددة أولَغَها هذا النظام في الاختلاف والاقتتال. اتبعوا الشعب، ثورة العامَّة الجسديَّة، واعلموا أن القادم –حتى بعد زوال النظام- لن يكون سوى الخطوة الأولى في طريقٍ طويلٍ ومريرٍ، ربّما أشدّ مرارةٍ من ما يحدث، ولكن السير عليه يبدو فرضاً عينيَّاً بذريعة انعدام وجودِ خياراتٍ وطرقٍ أخرى. إن نتائج هذه الانتفاضة الجسديَّة الجديدة، والتي بدأت بالأمس، ستظّلّ ضبابيَّة الملامح؛ فهي لن تَسير وفق أمنيات المعارضة أو الصفوة الرافضة للنظام بأكمله وبقوانينه بوعيٍ كامل؛ إنه في يد الناس، فهم، كما رأينا في سبتمبر، قد يقبلون بالتسويات مقابل الأمن، وقد يتنازلون عن تصعيد حراكهم لأجل ماذا بحقّ الشيطان؟ لسنا نعرف بعد.
في العام (2014)م، خرجت من التحليل بمرحلةٍ أسميتها (صنّة إفلاس الأمل)؛ والتي يبدو أن أَمَدها استطال بطريقةٍ طبيعيّة مُتناغمةٍ مع تيارات التغيير العظيمة التي تُديرُ رأس العالم وتُدوِّخ جميع من ظنَّ أن الكرةَ في ملعبه، أو أنه متحكمٌ في مصير اللعبة، أو من ظنَّ أن حبال الدُمى لا تزال حبالاً مع تفجّر الفضاء وانخساف الأرض؛ كتبت: (ولكن دعونا نتوقف قليلاً قبل أن ننجرف مع الأسئلة التي يوجهها المواطنون لبعضهم يوميَّاً في الخرطوم حول: (ما العمل؟)، بذهول وزَهَج وقرف وخوف؛ خليط مُريب من المواد الباعثة على اليأس. ولنسأل: لماذا أصبح الأمل مُفلساً لهذا الحد؟ لماذا أصبحت الإجابات المتفائلة صعبة على النطق؟ فلأقل لكم لماذا: لأننا نَفهم، بطريقةٍ سريّةٍ مُرعبة، أن نهايتنا الشخصيَّة قد تكون في المعمعة الممكنة الحدوث، نهاية حياواتنا، فنحن نواجه الجنون المطبق، العمى وصراع الأعداء السافر، وسط سوقٍ عالميّ تحكمه العصابات المُرخصّة بالحياة الباذخة. إنّه أشبه بانخساف الأرض الذي ينجو منه القليل. نحن في مرحلةِ (الصنّة) الآن، أي اللحظة التي يتوقّف فيها عمل دولاب الدولة تماماً، بعد العد التنازلي المريع الذي عايشه الناس، يتوقّف صوت: تِيك تَاك. لكن الناس لم ينتبهوا بعد!، وبعد مدّة، وفي لحظةٍ واحدة تبدأ صنّة (العثور على لاشيء إطلاقاً) في الحدوث، كموجةٍ تنتشر في الأرجاء، رائحتها تُشَمّ في الهواء وتُرى في الأعين، ثمّ، قليلاً قليلاً، ينتبه الناس إلى التوقّف الشامل للدولة: تاكْ. لكنّ الشعور بديمومة الحال أقوى، لأن لا أمل في الجوار، ولا في الأفق. إن الواقع الحالي أتى، بتعبير أبسفّة، من المكان الذي تتواجد فيه الكوابيس، وكان ذلك في توصيف (داعش)، وهو وصفٌ ينطبق على الحال في كلّ مكان).
eltlib@gmail.com