محمد ناجي الاصم كاتبا: بعض الملاحظات والافكار حول “تجمع المهنيين”
******
++ مزيج من التخطيط للانتفاضة وتوقع تقديري لموعدها
++ رفض الغالبية يُبني على دلالات منطقية وعقلانية وليست فقط عاطفية أو هتافية.
++ " الشباب مجازا قائم علي معيار الحيوية الفكرية بحيث ينضوي تحته بعض الشيوخ عمرا.
____________
هذا الاسم الذي سنسمعه كثيرا في مقبل الايام، مدويا بصوت يخترق أسوار القمع الدكتاتوري ، صاحبه كاتب ايضا، بما يضفي علي آرائه أهمية قصوي لفهم مسار الانتفاضة الثالثة نحو حكم برلماني في تاريخ السودان الحديث. المقالان الاول والثاني بعنوان "تأملات في جدلية التغيير " بتاريخ 9 و15 اغسطس 2108 ( موقع سودانيز اون لاين بتاريخ 3 يناير 2019)،أي اربعة أشهر قبل اندلاع الانتفاضة، يؤكدان هذه الاهمية بشكل صاعق لانهما يشيران الي احتمال وجود تخطيط مسبق من قبل قيادة او سكرتارية " تجمع المهنيين " او علي الاقل توقع، لاندلاع قريب لها، والى الاستعداد للمشاركة فيها بأقصي قوة بما ينطوي عليه ذلك من تحمل المسئولية المترتبة علي ذلك. كون محمد ناجي الاصم بالذات هو كاتب المقالين ، ثم اول وجه علني ل " تجمع المهنيين " عندما ظهر في الفيديو قارئا "إعلان الحرية والتغيير "، يوحي بأن لارائه وزنا معينا تصلح معه المقالات مادة لاستنتاجات حول تفكير المجموعة القيادية بأجمعها لاسيما وانها حريصة علي عدم تمييزه عن الاخرين، كما سنري، فيصبح الحديث هنا عن قيادة التجمع من خلال مقالات الاصم . المقالات نفسها ( الثالث بعنوان " في نقد العمل الطوعي السوداني" بتاريخ 22 مارس 2016 " من نفس الموقع ) تكشفان عن عقل مرتب تتناسل فيه الافكار بسلاسه محمولة الى القارئ عبر اسلوب مباشر دون إخلال تبسيطي بتماسك الاطار الفكري العام، وهذا فضلا عن نبرة الهدوء والثقة في الفيديو ، يؤكد ذلك الوزن.
قبل المضي في تحليل المقالات لابد من التشديد علي اهمية عدم قراءة اكثر من اللازم فيه حول وزن شخصية محمد ناجي ودوره في المجموعه . هذا مهم أيضا، واكثر أهمية، لان التقدير المستحق لشخصيات معينه وتضحياتها تجاه أي قضيه وفي أي زمان ومكان شئ، وتضخيمها رومانتيكيا شئ اخر يضر بالشخص والقضية معا، ثم ان التجربة كلها في حالتنا هذه لاتزال في طورها الاول ذاخرة بأمارات التفاؤل ولكنها لاتزال قيد اختبار التاريخ، تستحق دعما مطلقا كاملا من مكوناته، بل ضروراته، التفكير المشارك او المشاركة بالتفكير ، فالفصل بين الفكر والعمل يضر الاثنين . الخطر هنا لايأتي من ناحية قيادة " تجمع المهنيين " فهي واعية له كما يبدو من التشديد علي موضعة الاعلان عن اعتقال محمد ناجي الاصم في إطار الاعتقالات ككل،أي دون تمييز له ولكن الخطر مصدره الميل نحو الشخصنة في مجتمعنا الذي ينخفض فيه منسوب العقلانية لاسباب موروثة ومستحدثة فيجد صعوبة في التعامل مع المجرد، وازداد الطين بلة مع توالي الانظمة والايديولوجيات الشمولية في حياتنا بترويجها لنموذج الفرد الاستثنائي في الثقافة العامة، مما يستدعي تدخلا باكرا لسد الطريق امام ظهور وترسخ هذا الانطباع في التجربة الحالية اتساقا مع التصرف الحكيم لقيادة التجمع نفسها.
النظر التحليلي في مقالي محمد ناجي حول التغيير يخرج بنتيجة عامة مفادها إنهما في حقيقة الامر خطة عمل للانتفاضه تتمرحل وفق المصطلحات المستخدمة من الوعي الفردي الى الجماعي الى الرفض الذي، وفق المقال الاول : " هو مرحلة من مراحل التغيير والتي تخرج الفرد من حالة اللامبالاة إلى حالة من الوعي تجعله على دراية بسوء واقعه وتجعله في نزاع معه ". " وفي طور أعلي يرتبط هذه الرفض- الوعي بتصور للواقع الافضل فيغدو، وفق ماجاء في المقال الثاني، أملا محفزا: " أي مشروع للتغيير يجب أن يعمل بصورة جادة على أن يخلق حالة عامة من الرفض لدى الجماهير ، أن تصل الغالبية العظمى إلى إحساس عميق بالرفض ، رفض مبني على دلالات منطقية وعقلانية وليست فقط عاطفية أو هتافية " . ومع التشديد المغلظ علي أهمية شبه الجملة الاخيرة لكونها تركز الانتباه علي أن التغيير الناتج عن اشكال المقاومة المختلفة ينبغي ان يكون من طبيعة نوعية الرفض من حيث المضمون والاسلوب،فأن هذه الفقرات تؤكد في مجموعها صحة الاستنتاج المرتبط بمواعيد نشرالمقالين : هما مزيج من التخطيط للانتفاضة وتوقع تقديري لموعدها، لان تحديد لحظة الانفجار غير ممكنه مهما بلغت درجة إحكام التخطيط . كما أن في المقالين مايوحي بأن التحضير استغرق وقتا طويلا علي ضوء تركيز المقال الثاني علي أهمية إعادة بناء عنصر الثقة، مفردا عنوانا فرعيا له . فهو يتكرر تارة بمعني الثقة في النفس واخري في الاخر بما يشير الي الوعي بأثر حقيقة يدركها الجميع حول تفسخ نسيج علاقات المجتمع بدرجة بالغة علي كافة المستويات من الافراد والاسر وحتي المجموعات الاكبر، وإن كان غائبا عن خطة المعارضة لدي اطراف هامة منها. هذا التركيز يشي بتوفر درجة عالية من تماسك العلاقة بين اعضاء المجموعة القيادية قبل ان تقدم علي تنفيذ خطة الانتفاضة او التمهيد الفعلي لها. بعض المقتطفات من المقال الثاني : " الأمر الذي ظل يفضي إلى حالة الشك الدائم والتخوين المستمر السائدة بين جموع الفاعلين السياسيين في بعضهم البعض " ، "الدخول في جدال وصدام نفسي مستمر معه، فإن المطلوب في تلك اللحظة هو عنصر الثقة ، أن يؤمن الأفراد بقدرتهم الجماعية على إحداث تغيير ".
مع إن المقالين، نظرا لطبيعتهما المشتقة من كتابتهما كتمهيد لفعل، لايغرقان في النواحي الفكريه إلا أنهما يطرحان مفهوما يندر وجوده في الفضاء الفكري عندنا رغم قيمته الجوهرية فيما يتعلق بتأسيس الديموقراطيه وهو التشديد المستمر علي المسئولية الفردية بما يكاد يجعل منه لازمة في المقالين . نماذج :من المقال الاول : "عملية فردية وشخصية بحتة تنتج عن تفكير الفرد الإنسان ووعيه بنفسه وبالواقع المحيط به. ومن المقال الثاني : " فمتى ما وصل الفرد وبالتالي المجتمع إلى حالة عميقة من رفض الواقع " ومن المقال الثالث : " إيجابية العمل الطوعي في السودان (....... ) ، أن يتخلى الإنسان عن وقته ( .....) لمصلحة الآخر الذي لا يجمعه به شيء سوى أنه سوداني ، أو ربما إنسان فقط لا غير" .
يتعلق الامر هنا بأن السمة المشتركة للدور الطليعي للجيل اللاحق لجيل حركة الاستقلال الوطني هو الاعلاء من شأن الجماعة مقابل الفرد. هذا الدور المعبر عن شعور مسئول بدور المتعلمين في الحياة العامة والانحياز الي مصالح وحقوق الطبقات الشعبية، انصب في منحي ركز علي الجماعه، علي الشعب والطبقه والامه ( العربية/ الاسلاميه) ، مؤطرا في قوالب فكريه-ايديولوجيه تقوم علي رؤية تغطي كافة جوانب الحياة المشاهدة ومافوق المشاهده يسارا ويمينا ووسطا يتذبذب في الاتجاه الاقوي. هذا التوجه شكل احد المصادر الاساسية لضعف الوعي الديموقراطي لكون ذلك يشترط أول مايشترط بروز فردية الانسان مسئولا عن أعماله وخياراته عبر الذوبان التدريجي لسطوة ارتباطاته الولادية في إطارالقبيلة والعشيره ومتعلقاتهما الثقافية والاجتماعية التقليدية، بحيث ينتقل الى الفضاء الوطني والانساني العام طريقا نحو العصر الحديث وحداثته فكرا وسلوكا وعادات تفكير استقلالية نقدية، هي لحمة وسدي العملية الديموقراطية. تكرار مفهوم الفرد ومصطلحاته في مقالي محمد ناجي رغم عدم ورود الديموقراطية كمصطلح وعلاقته بها، أمر إيجابي في حد ذاته لانه يفتح الاذهان عليها .
مفهوم التغيير لدي " تجمع المهنيين" كما يمكن تتبعه في المقالين، عريض ومفتوح. التغيير في رأي المقالين ليس مشروعا مصمما سلفا. المقال الاول : "التغيير المقصود بطبيعة الحال أيضا هو التغيير للأفضل ( .....) فالتغيير وبأبسط معانيه هو إحداث شيء جديد ، إنتاج واقع سياسي واجتماعي مختلف وجديد الذي يتطلب بالضرورة وفي سياق حديثنا أن يكون أفضل من الواقع السيء ( بالضرورة أيضا ) الذي سبقه" . من هنا الطابع المعمم للمهام التسعة الموكلة للحكومة الانتقالية في " إعلان الحرية والتغيير " الصادر عن التجمع بما يترك عملية تصنيف هذه المهام الي برامج للحكومة الانتقالية ثم للحكومة المنتخبة بعد اربع سنوات، وهو أمر ضروري كسلاح في يد جماهير الانتفاضة لمراقبة أداء الحكومتين، ربما للتشاور مع الاطراف الموقعة لاحقا علي الاعلان. هذا مع ملاحظة إن بعض المهام مشتركة بين المرحلتين، كما هو الحال مثلا بالنسبة للبند الاول : " وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة الخ.. الخ.." فاتخاذ إجراءات أولية لوقف شبه نهائي لاطلاق النار في دار فور وجبال النوبه وجنوب النيل الازرق هو من مهام الحكومة الانتقاليه علي ان تتولي الحكومة المنتخبة تشريع وتطبيق سياسات اقتصادية وثقافية تخاطب جذور المشكلة محققة إستتباب السلام.
هذا التصور العريض لمشروع التغيير من قبل "تجمع المهنيين " يعكس ايضا فهما بناء وسليما لطبيعة هيئات المجتمع المدني كونها لاتتطلب تماثل الاراء السياسية بين عضويتها كما هو الحال مع الحزب السياسي ، بالرغم من الظروف الاستثنائية التي فرضت علي التجمع دورا سياسيا مباشرا ليس من طبيعته في الظروف العاديه. في هذه الظروف " تجمع المهنيين " باعتباره هيئة مجتمع مدني لادور سياسي مباشر له لان العضوية فيه لاتشترط توافق النظر السياسي بين اعضائه وإنما دور غير مباشر، يشير اليه الجزء الاخر من تعريف مهمات المجتمع المدني في المقال الثالث المخصص لذلك : " كما تقوم منظمات المجتمع المدني بدور آخر أساسي كمجموعات ضغط على السياسيين في الحكومة و المعارضة بإثارة عدد من القضايا المجتمعية والترويج لها والدفاع عن المجموعات المعنية بهدف التأثير على السياسات الحكومية من قوانين و تشريعات فيما يخص هذه القضايا" . لذلك مع التنويه بدور المجتمع المدني في خدمة المواطنين بسد الثغرات الكبيرة التي تتركها سياسات حكومة المؤتمر الوطني، يحذر المقال من الاكتفاء بدور المجتمع المدني، إذ لابد من التغيير السياسي الايل لتغيير النظام السياسي برمته.
من نواحي التميز الاخري في التفكير الذي يعكسه محتوي المقالين مايمكن استخلاصه دون تعسف من تعريفه لمصطلح المجتمع المدني : "المجتمع المدني والذي تشكله منظومات العمل غير الحكومية غير الربحية ، مايعرف بالقطاع الثالث في الدول المؤسسة التي تحكمها الديمقراطية بعد الحكومة والقطاع الخاص ، يضم بالإضافة إلى منظمات العمل الطوعي غير الربحية كل الحياة المدنية التي تنظم الأفراد في كيانات محددة بأهداف ورؤى مشتركة في استقلال تام عن الحكومة وعن الأهداف الربحية". . في ضرب من تفكير التشارك الحواري مع " تجمع المهنيين "، يمكن الاستناد الي هذا التعريف للقول بان الاحزاب الديموقراطية التكوين هي في الواقع هيئات مجتمع مدني لاتختلف عن غيرها إلا من حيث طبيعة اهدافها المتعلقة بتنفيذ برنامج متعدد المجالات من خلال عمل سياسي مباشر .
يصعب، بطبيعة الحال، القول بأن لدينا احزاب بهذا المعني رغم تفاوت عدم انطباق هذا التعريف عليها. غير انه لابد من تحفظ علي هذا الحكم لان حال الاحزاب هو من حال المجتمع إذ تعرضت نخبه الى عملية قمع مباشر طوال فترة مابعد الاستقلال إلا عشرة اعوام تقريبا، هو الاخف في التسبب بعدم نضوجها كقاعدة لحياة حزبية حية ومتطورة بالمقارنة لعملية التجريف الرأسي والافقي التي تعرضت لها خلال تلك الفترة ، لاسيما فيما يتصل بنوعية النظام التعليمي ونمو الطبقة الوسط باعتبارهما الشرطين الرئيسيين لازدهار الحياة الحزبية. وبينما لايعفي ذلك قيادات الاحزاب من المسئولية كلية الا ان ذلك ينحصر في عدم قدرتها علي إدراك أصل المعضلة التي تعانيها ومن ثم التخطيط والعمل علي تفكيكها، وهو تقصير مشترك مع اصحاب النقد المجاني للاحزاب الى درجة المطالبة بأقصائها جميعا، خاصة من اوساط الشباب، لكونه يقوم بدوره علي تجاهل لأصل المعضلة بنفس الدرجة فينسب الاداء الضعيف للاحزاب الي ضعف قياداتها حصرا .
من دواعي التفكير المشارك أو المشاركة بالتفكير مع التجمع من خلال مقالات محمد ناجي الاصم أيضا، تصحيح خاص بالميزة الاستثنائية للمجتمع المدني كونه المجال الوحيد المفتوح نسبيا في الشموليات. يعبر المقال الثالث عن ذلك في فقرة تقول بأن الحكومة تسمح بنشاطات المجتمع المدني لانها تعفيها من مهام من صلب مسئولياتها : " الحكومة السودانية بدورها وهي التي تتسلط على كل جميل في السودان ، لم تتعامل مع انفجار وتمدد العمل الطوعي بالطريقة المتوقعة منها ، فلم تصادر أو توقف منظومات العمل الطوعي التي توسع نشاطاتها وقواعدها يوميا، " .وهذا بالطبع غير صحيح جزئيا علي ضوء المعروف عن الإغلاق المستمر حتي الان لمركزي " الدراسات السودانية" و " الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية " وكونهما منتميين لفصيلة المجتمع المدني. يضاف لذلك ان المقالات الثلاثة تخلو من الاشارة الى مسألة خاصة بالمجتمع المدني علي اهميتها البالغة بالذات في ظروف التسلط الشمولي وضعف الاحزاب، هي دوره كمجال للتدريب علي الديموقراطيه من حيث ممارساته في كيفية إدارة الاجتماعات وحتي الانتخابات كوسيلة لتبادل المواقع . فشلُنا السوداني في الحفاظ على المكاسب الديموقراطية بعد انتفاضتي اكتوبر 64 وابريل 85 يعود أساسا، في تقدير صاحب هذا المقال، الى انخفاض مستوي الوعي الديموقراطي حتي لدي النخب لاسباب تاريخية وحديثة نسبيا مما يحجز موقعا صداريا لنشاطات المجتمع المدني حتي بعد الحقبة الدكتاتورية الراهنة .
ملاحظة اخيره : مصطلح الشباب المفيد يجمع مجازا بين منتمين للشباب عمرا وللشيوخ عمرا بقاسم مشترك هو حيوية التفكير وتواكبه مع المستجدات لان معيار الحيوية الجسدية لامكان له في هذا التعريف. والعكس صحيح : مصطلح الشيخوخة مجازا يجمع بين منتمين للمجموعتين العمريتين بالقاسم المشترك النقيض . هذا التمييز ضروري ليس فقط لصحته في حد ذاتها وانما، وهو الاهم ، لكي لانتغافل عن المسئولية التاريخية الاكبر والاخطر من غيرها للشموليات وخاصة نسختها ( الانقاذية ) الراهنة وهي حرمان قطاع الشباب، ثلثي عدد السكان، من أبسط فرص الحياه المعنوية والمادية بما جعل هذه الفترة العمرية من حياتهم معاناة تجل عن الوصف بدلا عن المتعة والانتاج للحياة العامة والخاصة. وباعتبار إن العاملين في" تجمع المهنيين " تجسيد للمفهوم المجازي لمعني الشباب، فأن تصديهم لمهمتهم الجليلة في التغيير ينعش الامال في فتح الطريق أمام استعادة الشباب عمرا لحقوقهم في الحياة ودورهم في صنعها.
8 يناير 2019
alsawi99@hotmail.com