أعمق من مجرد احتجاجات .. بل جيل جديد يفرض أجندة التغيير

 


 

 

 

صحيفة إيلاف

16 يناير 2018

(1)
سار في أدبيات السياسة السودانية المحكية مقولة مشهورة لأحد قادة نظام مايو "إن الثورة ليست كلاماً ساكتاً"، تروى في مقام الطرفة وربما من باب الاستهزاء والتعريض بقائلها، صحيح أنه أطلقها في موكب "الردع" الشهير من باب الدفاع عن نظام نميري في آواخر أيامه في مواجهة "الثوار الحقيقيون" الذين ما لبثت أن انتصرت إرادتهم في انتفاضة رجب/ أبريل، ولكن المقولة مع طرافتها تطرح مع ذلك سؤالاً فلسفياً عميقاً هل يمكن فعلاً أن تكون "الثورة" الحقيقية التي مصدرها إرادة الشعب الحقيقة، لا تلك المجازية التي تدعيها الأنظمة الشمولية، "كلاماً ساكتاً"، والمعنى بالثورة هنا فيما تتضمنه من معانٍ كثيرة حراك اجتماعي يحدث نتاج تراكم معطيات موضوعية تترافق مع انسداد الأفق وانغلاق أبواب الأمل تدفع دفعاً بإتجاه هدف تحقيق "تغيير" الأوضاع السائدة المأزومة إلى وضع يحلم ويأمل بتأسيس أوضاع أفضل، تعيد إحياء الأمل في النفوس الموات.


(2)
كففت عن كتابة مقالي الأسبوعي في هذه الزاوية لأكثر من شهر منذ آخر مقال نشرته بعنوان "ساعة الحقيقة: تسوية شاملة لأجل السودانيين لا السياسيين" بين يدي جولة مشاورات أديس أبابا في الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر المنصرم التي فشلت حتى قبل ان تعقد لقاءاً واحداً بين الفرقاء، والتي انهارت بسبب "التعنّت" غير المبرر من جانب الوفد الحكومي بمسوغات افتقرت للحس السياسي السليم بجدل فارغ المضمون حول من يفاوضون، لا حول ما يجب أن يتم التفاض حوله، ولو علمت السلطات أي فرصة فوّتتها على نفسها، وقد كانت كل المؤشرات تدل على استعداد غير مسبوق وسط المعارضة للتوصل إلى تسوية مع النظام وسط مناخ دولي داعم بشدة، بهذا الجدل العقيم لما وجدت نفسها تواجه بعد أيام قليلة مأزقاً مصيرياً يتهدّد وجودها بما لم تعهد له من قبل مثيلاً، ولاستكثرت من خير هذا السانحة الذهبية، ولكنها كانت دلالة أخرى على ضيق الأفق السياسي للطبقة الحاكمة، وافتقارها للحنكة والحكمة معاً في قراءة التحوّلات المحتمعات والسياسية العميقة التي تمور بها البلاد، وهي عنها لاهية مشغولة بأجندة تحقيق خلود موهوم في السلطة، نتاج ثلاثة عقود من التكلّس والإنغلاق والإنكار والتشبث.


(3)
أقول كففت عن الكتابة منذ اندلاع هذا الحراك الشعبي، مأخوذاً بهذا التحوّل الاجتماعي الكبير الذي تشهده الساحة السودانية ولا تزال تفاعلاته تترى، لآخذ لنفسي فرصة كافية للتأمل وقراءة هذه التطورات بعمق يتجاوز اللغو وردود الفعل المتسرعة والتعاطي السطحي الذي ساد أطراف النظام السياسي السوداني القديم وطبقته السياسية المتحجرة في تفاعلها مه هذا الحراك التي فوجئت به جميعاً، لا شك أننا أمام لحظة استثنائية في تاريخ السودان ولن يستطيع أحد فك شفرة هذا الحراك وفهم منطقه ودينامياته ما لم ينخرط في حوارات طويلة ومعمّقة مع الجيل الجديد من الجنسين الذي يخوضون غمار هذا الحدث الوطني الكبير، ليكتشف أن الأمر أعمق بكثير من مجرد احتجاجات عابرة، أو مطالب مادية متدنية السقف، ولعل أبلغ تشخيص لهذه الحال ما سمعته في نقاش مع بعض هؤلاء الشباب لخصوا بها في جملة بالغة الدلالة أبعاد وآفاق هذه التحولّات فقد قالوا"لسنا في ثورة غضب لأنها يمكن أن تخبو مع الوقت، بل نحن في ثورة وعي تزيد مع الأيام ولا تنقص". فيا له منطق ويا له من وعي.


(4)
ومهما يكن أمر الذين سهروا جراء هذه الاحتجاجات التي لم يعهد لها الناس مثيلاً في طبيعتها على تعدد أشكال مماثلة لها في السنوات الأخيرة، فقد امتد زخمها المتزايد وهي تدخل شهرها الثاني بعنفوان وإصرار تستمده من طابعها الشبابي من الجيل الجديد، وقد اختصموا في شأن وصفها وتسمياتها ومآلاتها، مع انصراف البعض إلى الانشغال بظاهر هذا الحراك الشعبي غير المسبوق على حساب مضامينه الحقيقية، فمن الخفة بمكان عدم أخذه بالجدية اللازمة نحو ما ينبئ به إصرار الطبقة الحاكمة على الإنكار والتقليل من شأنه بمنطق فرعوني معلوم "إنهم لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون"، فالعقلانية تقتضي التقاط الرسالة الصحيحة بالقراءة الواعية من ديوان العبر عبر التاريخ.


(5)
ذلك أن الثورات لا تنطلق من فراغ، إلا بعد أن تستنفذ فرص الإصلاح ويفوت آوان "التطور" التدريجي بفعل الجمود أو مقاومة حدوثه، ليفتح المجال أمام التغيير الذي لا يمكن تفاديه حين يزف أجله، وسيرة الاجتماع البشري وعظاته تؤكد أن نواميس الكون لا تتجمّد عند مرحلة تاريخية معينة وإن طال بها الزمن لأجل أحد مهما بلغ به الشأن، وأن التغيير حتمّية لا مناص منها، وما أن تبدأ عجلة التغيير في الدوران فلا شئ يوقفها، فالثورات ليست "كلاماً ساكتاً"، بل هي ظاهرة اجتماعية وسنة كونية، وفطرة مركوز في النفس البشرية المجبولة على طلب التحرر والانعتاق، فهي لا تحدث صدفة، ولا تستحدث من فراغ، لا تصنعها المعارضة من عدم، ولا تمنع حدوثها السلطات القابضة مهما عظم جبروتها، فما أن يحدث اختلال بيّن في توازن أي مجتمع حتى تبدأ القوى الحيّة فيه من الأجيال الصاعدة إطلاق نداء وحركة التغيير التي لا يمكن تفاديها من أجل استعادة توازنه، قد يتعثر تحقيقه لبعض الوقت، وقد يطول مخاضه، ولكن في نهاية الأمر حتما تنتصر إرادة التغيير لأن ذلك قدر مكتوب ووعد غير مكذوب كفله الحق عزّ وجلّ "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
تلك إذن هي الحكمة التقليدية والقاعدة الذهبية الخالدة أن الثورات لا تندلع بإذن من أحد متى ما نضجت شروطها، فهي بنت فقدان الأمل وانسداد الأفق والجمود والتسلط والفساد، فالثورات سنة تاريخية ماضية، ومنحة ربانية يهبها لعباده الذين خلقهم أحراراً ليدفعوا عن أنفسهم غائلة من يريد استعبادهم بأي غطاء تدثر به المتسلطون، ولذلك لا يستطيع أي نظام حكم مهما بلغت قوته وجبروته أن يمنع حدوثها، ويحدثنا التاريخ وحاضرنا عن تهاوي أوهام القوة في لحظات لتصبح أثراً بعد عين.


(6)
ما يحار له المرء حقاً هو سطحية رد الفعل عند الطبقة الحاكمة، وتيار غالب من منسوبي "الحركة الإسلامية السودانية" المؤسسة لنظام الحكم الإنقاذي، على هذا الحراك الشعبي بكل عنفوانه، فقد ذهبت بهم حالة الإنكار مبلغاً بعيداً في عدم تقبلهم لإمكانية حدوث ما هو ناموس طبيعي في نظام الكون، الذي لا يحابي أحداً مهما علا شأنه أو دعاويه، أن يثور شعب ضد الاستبداد، وأن يذهبوا في ذلك إلى استدعاء خصومة أيدولوجية بائرة عفى عليها الزمن لينحوا عليها باللائمة في الوقوف وراء هذا الحراك الاجتماعي، هروباً من مواجهة المأزق الأخلاقي أن تجد حركة دينية أسست لدخولها في النادي السياسي السوداني ولدورها في الحياة العامة على سمعة مشاركة زعيمها الراحل الدكتور الترابي في ثورة أكتوبر 1964 ضد الحكم العسكري الشمولي الأول، كما تزخر أدبيات "الحركة الإسلامية" التي هفت إليها قلوب وأفئدة آلاف الشباب بسجلها النضالي ضد سلطة الشمولية الثانية في سبعينات القرن الماضي، وقد دفع الكثيرون حياتهم وحرياتهم ثمناً لمقاومة طغيان عهد نميري، ولكن الحركة التي تنكّرت لتاريخها ولنضالها ضد الشمولية أثبتت أن إيمانها بالحرية ومقاومة التسلط أوهى من خيط العنكبوت، وتناست ذلك كله وهي تؤسس "لنظام شمولي آخر" بانقلاب عسكري في العام 1989 اعتقاداً بأن التدثر بشعارات دينية يكفي للتكفير عن سوءة الاستبداد، ولتنظيف جلبابها من عواقبه وتبعاته.

(7)
ومن عجب أن تُري الطبقة الحاكمة من "الإسلاميين" مواطنيها هذا القدر من العجز عن الوفاء بتعهداتها على نفسها، ثم تنتظر منهم أن يظلوا ساكنين صامتين مسبحين بحمد سلطانها الذي لم يحقق لهم من ورائه إلا هذا النموذج الشائه بإسم الإسلام المفارقة لقيم الدين الحقة ومُثله، بل باتت تفرض عليه دفع ثمن أخطائها الباهظة وفشلها في إدارة مسؤوليات الحكم. وما هو أكثر غرابة ما يسوقه أصحاب السلطة وأعوانها من تبريرات بائسة في التقليل من شأن الشباب المنتفض حتى ليكاد المرء يستغرب من مدى عوار فقدان الرؤية السوية الذي تحدثه لوثة استطالة عهد السلطة المطلقة في النفس البشرية، وحالة الانعزال الشعوري والحسي الذي يتلبس من طال بهم المقام في كراسي السلطة حتى افتقروا للحد الإندني من الحس السليم، وكان من المكن إيجاد عذر ما لهم، لولا أن عدداً كبيراً من "الإسلاميين الحاكمين" اليوم ما كانوا ليبلغوا هذا المقام من حظ الدنيا لولا أنهم وقفوا ذات يوم في مقام هؤلاء الشباب الثائرين في مواجهة السلطة المتجبرة بشعارات تحرر رفعوها ثم أعجزهم شح النفس أن يتمثلوها.


(8)
أليس عجيباً لمن كان ثائراً ذات يوم ينشد الحرية والكرامة والتغيير أن يضع نفسه مختاراً في مقام من كان يقاومه ويثور ضده، وينكر على هذا الجيل أن ينهض ثائراً من أجل أن يعبر عن نفسه وتطلعاته لغد أفضل لوطنه؟. ألهذه الدرجة تعمي السلطة الأبصار عن الإدراك السوي وإلى الإنكار وخداع النفس بمظنة إمكانية تحقيق وهم الخلود في السلطة، وما كانوا يحتاجون ليتعلموا من غيرهم بل كان يكفيهم أن ينظروا في سيرة ماضٍ كانوا جزءًا منه، ما الذي يجعل ثورتهم، شعبان مثلاً، ضد سلطة شمولية أقامها غيرهم يومها حلالاً لهم، وثورة شباب اليوم ضد سلطة شمولية أقاموها هم اليوم حراماً عليهم؟، وإلا فكيف يكون التطفيف في ميزان الحق والعدل أكثر وضوحاً؟!.


(9)
والحراك الذي يشهده الشارع السودانى اليوم أعمق أثراً وأبعد بكثير في مآلاته وتأثيراتها على مستقبل السودان مما يظنه المتشبثون بالسلطة لاحتكار امتيازاتها ومكاسبها من طبقة "الإسلاميين" المتمكنة، فهذه ثورة جيل جديد ستأخذ موقعها في رسم مستقبله طال الزمن أو قصر، فقيمة هذا الحراك الاجتماعي لا يحسب بالكم ولا بالأعداد، وإنما بتوفر الوعي ومعطيات ومقومات وإرادة التغيير، وهو شأن الطليعة قليلة العدد في كل مجتمع فهي التي تقود عملية التغيير، ومن عجب أن يغرق أصحاب القرار أنفسهم في شأن أعداد المتظاهرين ناسين أن "الحركة الإسلامية" التي يحكمون باسمها اليوم لم تكن إلا نفرا قليلا، وما كان سيكون لها شأن لولا أن تلك "الشرذمة القليلة" أسهمت في ثورة أكتوبر، قبل أن تتنكر لرصيدها الثوري وتفرق درب انحيازها لقيم الحرية والعدل حتى كادت تضبط متلبسة بالتحالف مع نظام نميري الشمولي لولا أن أدركتها العناية الآلهية قبل أسابيع قليلة من انتفاضة أبريل، وها هي "الحركة الإسلامية السودانية" تجد نفسها اليوم مرة أخرى في الجانب الخاطئ من التاريخ، يصعد نجم رصيفاتها في المنطقة على أجنحة الحرية والديمقراطية، في حين تكابد هنا لتنجو من مصيرعتاة الديكتاتوريات العربية التي قررت عن طواعية أن تكون في صفها الشمولي متنكرة لإرادة الشعب الحرّة.


(10)
والإنكار على المحتجين حقهم في التعبير ومطالبتهم بالتغيير السلمي، والتضييق عليهم وقمعهم بعنف مفرط بدعوى منع التخريب المدعى أمر تجانبه الحكمة ويكشف حقيقة السلطة التي ترفع شعار مشروع حضاري لتجد بعد ثلاثين عاماً انها لا تملك رصيداً من منطق وسعة أفق لتحاور جيلاً ناهضاً يفترض أنه يمثل آية نجاح الشعار المزعوم "إعادة صياغة الإنسان السوداني" فإذا هي تكشف أن عقل خاو، ورصيد معدوم من الصدقية في تمثل قيم الأخلاقية الحقة التي ترفع شعاراتها بلا استحقاق بصفر كبير، ليس لها من حجة إلا عتو القوة والعضلات لتقهر شباب الأمة ومستقبلها، ومع ذلك فإنها عجزت تماماً في كسر إرادتهم، وذلك ديدن الحركة منذ أن قررت طائعة مختارة أن ترتهن مشروعها لليندقية لا للفكرة، ولصندوق الذخيرة لا لصندوق الانتخاب الحر.


(11)
فقد عهد الناس من الحكم القائم أنه لا يستمع لناصح أمين ولا لطالب إصلاح أو تغيير بطريق سلمي, وتراه في الوقت نفسه يضرب أكباد الإبل ويجوب العواصم ويصبر صبراً جميلاً ليفاوض المتمردين عليه الذين يحملون السلاح ضده وينازعونه سلطته عنوة، ويشهد على ذلك العدد الهائل من مفاوضات السلام والاتفاقيات التي لا حصر لها التي توقعها السلطة مع من يحملون السلاح، والتي تؤهلها لتتبوأ مكانة متقدمة في موسوعة جينيز للأرقام القياسية، وتفتح لمن ينازلها بالسلاح أبواب القصر شركاء في السلطة والاستوزار معززين مكرمين، أما الويل والثبور للشباب الذين لا يملكون إلا عقولهم المستنيرة، وإرادتهم الحرة، ووعيهم الكبير. فلماذا تصادر آمالهم في التغيير أليسوا هم من تنتظرهم الامة ليحملوها إلى المستقبل؟ أم تريد السلطات أن تفرض عليهم حمل السلاح حتى يصبحوا مؤهلين للتفاوض معها وتلبية مطالبهم؟!! "ما لكم كيف تحكمون"


(12)
أما أن السودان في حاجة ماسة غير مسبوقة للتغيير، حتى ولو لم يكن هناك محتجون فهذا ما لا ينتطح فيه عنزان. وأما أن البلاد في حاجة لاستحقاقات أجندة للتغيير هي أكبر من مجرد تغيير نظام حكم بآخر، فهذا مما لا بد منه، فما يحتاجه السودان أكثر من مجرد ثورة "ربيع عربي" أخرى من باب المحاكاة، ولا حتى استعادة لنموذج ثورتي أكتوبر وأبريل، بل أبعد بكثير من مجرد إسقاط نظام هو في الواقع ليس سوى الحلقة الأخيرة من آخر تمثلات النظام السياسي السوداني القديم بكل إسقاطات فشله في صناعة الدولة الوطنية على تعاقب حقبه الحاكمة والذي انتهت مشروعيته الفعلية بتقسيم البلاد وصناعة دولة فاشلة بامتياز.
ما يحتاجه السودان اليوم تغييرا حقيقيا لا ينفع معه الترقيع، يقود إلى تعاقد الجماعة الوطنية على تواثق جديد كلياً لبناء أمة متماسكة، وإعادة تأسيس الدولة، وهيكلة السلطة على قواعد منظومة حكم راشد فعلا لا إدعاءاً. و"الإسلاميون" اليوم بمختلف مللهم ونحلهم أمام تحدٍ مصيري بين خيارين لا ثالث لهما إما أن يكونوا جزءًا أصيلاً من عملية التغيير المحتوم، أو يكون فيه ذهاب ريحهم. فنواميس الكون لا تحابي أحداً.


(13)
صحيح أنه من التعميم المخل الحديث عن الإسلاميين الذين جمعت بيهم "الحركة الإسلامية" ذات يوم في تنظيم واحد، بحسبانهم لا يزالون يمثلون "كتلة واحدة"، وقد تفرقت بهم السبل وتباعدت بيهم المواقف حيال نظام الإنقاذ الحاكم، الذي أسسته الحركة، في مراحل مختلفة على مدار العقود الثلاثة الماضية، ولكن الصحيح أيضاً أنهم جميعاً يتحملون مسؤولية تاريخية في أن نظام الحكم الحالي هو نتاج البذرة التي زرعتها الحركة في الساحة السياسية السودانية بإنقلابها في 1989، وطبيعة النظام الحاكم الراهن، الذي لا يختلف عن أي نظام شمولي آخر بغض النظر عن اختلاف اللافتات الأيدولوجية، هو المولود الشرعي لطرائق تفكير قادة التنظيم الحركي وبرامجه وممارساته وبالتالي لا يمكن نسبة مردوده لغيرها، ولا يمكن لأحد أن ينكر أبوة هذا المولود لمجرد أنه ولد مشوهاً أو لأنه أنتج ثمرةً مرةً، وهو زعم للأسف يقع فيه كثيرون للهروب من تحمل التبعات الأخلاقية والفعلية لهذه النتيجة الطبيعية المنكورة لمقدمة منطقية حين آثرت قيادة الحركة أن تسارع إلى توظيف البندقية استجاية لغواية السلطة بدلاً من المراهنة على الحرية لتمكين مشروعها، ويسارعون لينحو باللائمة كلها على أشخاص بعينهم بدعوى أنهم اختطفوا "الحركة" وسلطتها وفعلوا وفعلوا، ولو كان غيرهم في مقامهم لانتهوا للنتيجة ذاتها، فالأمر لا يتعلق بالأشخاص فحسب بل بفهم معطوب لدين سمح، وممارسة مفارقة للمنظومة القيمية للمجتمع السوداني.


(14)
والسؤال لماذا صمت الجميع وهذا الذين يشكون منه وقد حدث أمام أعينهم جهاراً نهاراً، ولماذا تفشل حركة يفترض أنه قاعدتها تستند على قطاع واسع من المتعلمين أن ينجزوا مشروعاً إصلاحياً مؤسسياً واحداً على مدار ثلاثة عقود حتى تراكمت الأخطاء والخطايا والفشل إلى هذا الحد الذي أشعل ثورة الجيل الجيد، وما يدعو لهذا الحديث أن غالب منسوبي هذا التيار، على اختلاف مشاربهم، آثروا النأي بأنفسهم أو الصمت إزاء اتخاذ موقف حاسم لصالح الحراك الشعبي، إلا من قلة من الشباب إنحازوا لجيلهم متمردين على واقع رأوا بأنفسهم بواره، ومما يؤسف له أن دافع الكثيرين للوقف ضد هذا الحراك نابع من حالة هلع غير مسبوقة لفزاعة اخترعها البعض تعزية للنفس من القيام بواجب تغيير المنكر خشية أن يكونوا ضحايا الحراك الذي يقوده الشيوعيون في زعمهم، وهو تعبير عن حالة عجز وفشل مبين أن يكتشف هؤلاء بعد ثلاثين عاماً من السلطة المطلقة أن غوايتها لم تغن عنهم شيئاً سوى خسارة رهان الحرية والمستقبل حين آثروا استعجالاً للظفر بها الخضوع لمنطق القوة الزائل الذي لا يغني عن الحق شيئاً.


khalidtigani@gmail.com

 

آراء