الديمقراطية: اليتيم الضائع وسط الزحام بين خيارات المعارضة وقانون الطوارئ
بهدوء (3)
mohdatabuja@gmail.com
بتاريخ 23 نوفمبر 2019م.
أيام الدراسة اخبرونا (1) إن هناك خمسة قواعد صلبه يستقر عليها النظام السياسي في أي منظومة إنسانية، وهي الهوية والشرعية وتوزيع الثروة والمشاركة وقدرة الحكومة على اختراق اعماق واطراف المجتمع . (2) على ان قضية الشرعية دون الاخريات، تعتبر المحور الرئيسي الذي يتركز النظام السياسي حيث ان الشعوب منذ اقدم العصور لا تقدم الولاء والطاعة، طواعية وبكامل اراتها لحاكم لاتعترف بشرعية وصوله لكرسي الحكم، حتى لو وضع في فمها المن والسلوى ( في الحالة السودانية من المعروف انه في اكتوبر 1964م لم تكن هناك ازمة خبر او وقود او حتى سكر). (3) إذا تصدعت واحدة من هذه القواعد ربما يهدد ذلك بإشتعال أزمة سياسية وربما يستطيع النظام إحتوائها. ولكن تتعقد الازمة السياسية اذا تزامن تصدع اثنتان منها في زمن واحد ويا ويل الحاكم اذا كانت مشكلة الشرعية احداهما . (4) ففي حالة وقوع ازمة اقتصادية مثلا يتحرك الجميع ولكن بردود فعل ومطالب و بسيناريوهات مختلفة:- المؤيدون لشرعية النظام يسارعون لانقاذه بايجاد المبررات وحث الناس على الصبر والتقشف وربما يتبرعون بوقتهم ومواردهم لحل الازمة والغاضون الطرف عن الشرعية يطالبون باصلاح النظام الإقتصادي وحل الازمة الانية بسرعة اما الذين لايعترفون بشرعية النظام فيتمنون استمرار الازمة الاقتصادية ومعاناة الشعب لاقصى درجة وربما يعملون على تفاقمها لحشد الجماهير ضد النظام بهدف إسقاطه.
هذه المقدمة عبارة عن تبسيط لاقصى درجة لمفاهيم في علوم السياسية، بغرض استخلاص تحليل مبسط ربما تساعدنا على تشخيص المشهد الراهن بهدف المساهمة في الجدل الدائر على الساحة السياسية في بلادنا حول المخاطر والفرص الكامنة في الحراك الشعبي الذي ينتظم الشارع وبالطبع مآلاته. وقد اوضحنا في مقالين سابقين إنحيازنا بموضوعية لاي مسار انتقالي مستقل يؤدي الى إستعادة الشعب (صاحب المصلحة الحقيقية) لسيادته وسلطته ليمارس حقه الطبيعي (المسلوب) في إختيارما يريد ومن يريد.
الإستقرار السياسي الذي ننشده لايعني البحث عن ركود سياسي متبلد بل نعني به ( الحد الادنى من الاستقرار) الذي يتيح الفرصة لتوفير (الحد الادنى من متطلبات الناس الاساسية السياسية والإقتصادية بما في ذلك الامن على النفس والممتلكات).
اهم مواصفات وشروط النظام المستقر واسباب استقراره هو ان يستمد شرعيته من الشعب صاحب المصلحة الحقيقية. فالشرعية تعني (القبول) وهذا القبول المستدام ذو المصداقية في هذا العصر لا يقاس على نحو دقيق بحجم وعمق المظاهرات والمسيرات والحشود المعادية او المؤيدة للحكومات بل هو محصلة إنتخابات ذات مصداقية في اجواء خالية من الكراهية وتسودها قيم إحترام الرأي او الآراء الأخرى. فاحترام الرأي الاخر ليس رفاهية وتنازل من طرف لاخر، بل حق طبيعي عند تناول كل هم عام وامر مشترك بالنقاش كما إن التجارب السابقة محلية ودولية أثبتت ان الإستبداد وارتداء تفويض شعبي ضمني والتدثر بشرعية شعبية افتراضية هي مغامرة خطيرة يدفعها ثمنها الباهظ الجميع طال الزمن ام قصر في حين ان النظام الديمقراطي يسمح بالتغيير السلمي كل اربعة سنوات حتى لو كنا لانرغب في ذلك وحتى لوكان اداء الحكومة افضل من توقعاتنا.
المراقب للمشهد الحالي في بلادنا يلاحظ ان الديمقراطية التي ننشدها مازالت كاليتيم الضائع وسط الزحام ، فسلوك وممارسات وسياسات ووردود افعال النخبة السياسية في الحكومة والمعارضة لايبشر بان بلادنا تسير في طريق معبد الى الحرية والديمقرطية.
فعلى الجانب الحكومي، فانها مازالت تتدعى ان الحل الديمقراطي يمكن في الصبر حتى انتخابات رئاسية في 2020م وذلك دون ان تكلف نفسها عناء توفير الاجواء الملائمة لقيام انتخابات نزيهة خالية من العنف، وزاد من الطين بله وتصعيد التوتر، الدفع بقانون يفرض حالة الطوارئ في طول البلاد وعرضها لمدة عام. والسؤال البديهي كيف ستجري انتخابات حرة ونزيهة في ظل إجراءات قانون الطوارئ؟ او ليس من حقنا ان نشكك في ان هذه الخطوة تعتبر محاولة مشبوهة في غاية الخطورة للدفع بالقوات المسلحة (رصيد الشعب) وجها لوجه امام الشباب الذين أعترفت الحكومة بمشروعية خروجهم عن طوق الطاعة؟. او ليس من حقنا وصف هذا الخطوة بانها( شمسونية) تحمل في طياتها مخاطر قد تؤدي الى جررة البلاد الى الانزلاق الى الفوضى وتدمير مؤسسات الدولة؟؟؟؟؟
على الجانب الاخر، مازالت مجموعة قوى الحرية والتغيير (التي تحيط بنفسها بهالة مقدسة فوق النقد) ، تحاول القبض بمخالبها العشرة على حاضر ومستقبل العمل السياسي في بلد يملكه الجميع وتنصب نفسها الوريث الشرعي الوحيد )للعهد المباد(. فهي من ناحية، تحاول من خلال الترويج لتفسير خاطئ لشعار (تسقط بس)، ان تفرض حالة من تكميم الافواه والحجر على حرية التفكير في شكل المستقبل القريب لبلد يملكه الجميع بينما تخطط هي ليل نهار لتفرض نفسها كبديل للنظام القائم، لتستبد من خلاله على الشعب باسم الثورة والشهداء وبدون تفويض شعبي مؤسسي وذلك لمدة اربعة سنوات حسام تستأصل فيها ما تريد وتزرع ما تريد وتجيز فيها برامج هي من صميم اختصاصات شعب له سيادة .
نقول ذلك خصوصا ان اليسار محليا ودوليا له تاريخ سياسي يمجد الاستبداد تحت مسميات مزخرفة كما ان ولائه لقيم الديمقراطية والحريات العامة واحترام الرأي الاخر هو ولاء مشكوك فيه ولايخفي على الغادي والرائح إن هجمته الشرسة الحالية على النظام القائم تعود اصلا الى خلافات اديولوجية متأصلة بينهما.
وجد السياسيون من الجانبين في الوضع الراهن فرصتهم السانحة لتحقيق اكبر قدر من اهدافهم البعيدة والقريبة في ضربة واحدة وذلك في سلوك انتهازي يتميز به السياسيون عموما. وهي انتهازية طبيعية في لحظات الصراع السياسي العادي ولكنها تبقى إنتهازية (غير اخلاقية) في المنعطفات الخطيرة والظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد و التي تحتاج الى تضافر الجميع وتستوجب إرتقاء النخبة السياسية من طبقة انتهازية الى مرتبة رجال الدولة (Statesmanship ) قبل ان يخسر الجميع ويفوت القطار المنطلق بلامكابح محطة الديمقراطية التي نتبغيها والتي تستوعب الجميع الا من ابى ولنا في العالم تجارب سياسية ثرة في الحكم وادارة الانتقال لا حصر لها تؤيد ما ذهبنا اليه نذكر منهاعلى سبيل المثال تجربة الزعيم الراحل منديلا.
الزعيم الراحل نلسون مانديلا إستمد عظمته ومكانته الرفيعة في التاريخ المعاصر من سلوكه السياسي الرفيع المستمد من وعيه الديمقراطي الثاقب. لحظة خروجه من السجن كان يملك رصيد ضخم من (الشرعية الثورية) يؤهله للانتقال من السجن مباشرة الى كرسي الحكم محمولا على اكتاف مواطني جنوب افريقيا (سود وبيض). ولكن لانه (رجل دولة) يحترم شعبه فضل ان يحصل اولاً على تفويض شعبي من صاحب الحق (عبر صناديق الاقتراع) وقد كان.. وقد فاز.... وفاز باغلبية ساحقة . وفي خطوة اخلاقية لاحقة، تستحق الملاحظة من سادتنا الغارقين في محلية التفكير والمترعين بثقافة الكراهية، فان الزعيم مانديلا الرئيس المنتخب بشرعية لاغبار عليها، لم يستأثر حزبه وحده بوضع برنامج انتقالي لمستقبل بلاده بل وافق على إقامة شراكة سياسية مع خصومه الحاصلين على اقلية برلمانية وذلك عبر تشكيل (حكومة وحدة وطنية منتخبة) لصياغة برامج انتقالية معقدة , وفي خطوة ثالثة رفيعة تستحق الوقوف والتأمل ، فقد رفض حقه الدستوري في الترشيح لفترة رئاسية ثانية. أين هذا من اولئك الذين يسعون لتعديلات دستورية للحصول على فترات حكم رئاسية واين هذا من اولئك الذين يسعون الى سرقة ثمار ثورة الشباب وعرقهم ودمائهم للوصول الى كراسي السلطة بدون تفويض شعبي
نحن لا نسعى الى اثارة الاحباط وما الى ذلك من الفزاعات بل ان واجنبا الاخلاقي والوطني هو ان نكف عن النفاق للمستبد القائم او القادم المحتمل وإن نساهم بقدر ما اوتينا بالنقد الموضوعي والنقاش وتبادل الاراء للعمل مع الجميع على وضع الحصان الجامح امام العربة. وفي هذا الاطار فاننا نرى ان سؤال المرحلة الملح ليس وضع برامج لحل مشاكل السودان من ( الفها الي يائها) في فترة انتقالية مشبوهة!!!!!! او القبض على مقاليد السلطة باجراءات قانون طوارئ. بل إن التحدى الاعظم هو البحث عن سبل لرد (الامانة الى صاحبها) الشعب السوداني العظيم الحر وهو ليس بشعب قاصر بل هو قادر على تقرير مصيره اذا تواضع المستبدون من كل شاكلة وتعلموا من التاريخ السياسي المعاصر والقديم ان طريق الاستبداد مسار مسدود وملئ بالالغام حتى لو هللت الجماهير وغنت الدنيا في لحظات التغيير الاولى..... والا فأننا لن نخرج ابدا من مدار الفلك الشيطاني بل ربما ننزلق الى فوضى لايستحقها شعبنا الكريم.