على أجنح غيمة

 


 

 

 

 

alshiglini@gmail.com


اخترت العنوان من شِعر الدكتور تاج السر الحسن . ربما هو مرحلة شِعرية في فتوتها . أراها خير وصف لمشاعر تشابكت ، لا أعرف لها وصفاً ، ولا تعريف . أحاسيس متناقضة ومتآلفة ، فيها الذي يُلامس مرحلة زهو الشباب ، من القدرة على الفعل ، لا يحُد فعلك عندها إلا القناعة. لا أعرف كيف أكتُب ، وعن ماذا أكتب ؟ . لقد تلاقت كل النقائض ، ببعضها . وحده ريق طعم الصداقة حلواً كنتُ أتعرف عليه . ما كنتُ أعرف أن الجسد والذهن أضعف بكثير من أحلامنا . أنا في ذات المركِب، وذات العواصف الهوجاء تأتي علينا من كل صوب .

انتهى يوم العمل في الرابعة مساء. بحثت كثيراً عن مكان موعدنا ، رغم أني حضرت المكان من قبل مرةً ، بل أنا اخترته في مدينة عشت فيها مُقيماً ثلاثة عشر عاماً . أعرف أن موهبة استدراك الأمكنة ليست بالضرورة لمن يمتهنون صناعة التماثيل التي يسكن إليها البشر في عملهم أو هناء الأسرة إن تيسر الهناء .
جلستُ في خاتمة المطاف أمام المائدة. كان شوقي أن أشرب أنخاب الحديث العذب من أصدقاء مهّد لنا الزمان أن نلتقِ من بعد فرقة أعوام، بل منذ ثمانينات القرن الماضي !. لم يتغير الماء من تحت الجسر ، بل انهدّ الجسر على رؤوسنا .
مضى اليوم أسرع مما كُنت أتصوّر . بعد وجبة الغداء ، عُدنا أدراجنا إلى البيت الذي يستضيفهم أهله ، ثم زرنا صديق مُشترك في مسكنه ، ثم جلسنا . افترق بعضنا وصرت أنا وصديق العُمر نجلس في سيارة متجاوِرَين وتحدثنا .
لا الماضي ولا الحاضر يتسع لنا لنتبادل أنخاب الحضور ، فالمَهاجر مفتوحة على كل شيء . آخر ما توقعت أن يعود بعض صديقي إليَّ ، لا كله كما اعتدتُ دائماً . البعض الآخر يختبئ ويحتاج لحفريات ناعمة وعميقة لكي يعودني . ليس أصعب من البحث في غموض رمادي عن بضاعة ناصعة وهشّة . تبحث أنت عن فخار قابل للكسر في مجاهل أرضٍ فسيحة .
من يقدر على هذا الحذر وتلك المخاطر ؟.


(2)
قلتُ أحاول أن أستجْمِع بعض ما بيننا ،ما صار عصياً على النسيان . صار الماضي أيقونة متوهجة حين انعطف العُمر . ثقيلةٌ تلك الذكريات في ميزان الحياة و قريبة إلى النفس و بعيدةٌ عن الأهواء العابرة . غُبار يهيجه الزمان الذي انفتح على كل الاحتمالات . وقف الدمع على أطراف المحاجر لامعٌ كالندى . ثم تدرّج في الانتظار حتى جفّ ، وعُدنا سيرتنا الأولى .انحلّت الأربطة :
قلت له مُمازحةً : ما حاصل ضرب (5) في (6) ؟
ضحِكت .


(3)
استدركتُ أنه لم يفتنا الكثير ، فقارب المعرفة المُضْمَر سوف ينقذني من العُجْمَة التي ألمّتْ بي، وصعوبة استدراك الحميمية التي تتلاعب بها الأقدار. وبدأت أختبر مقدرتي .
سألت نفسي :
لِمَ اختارنا هذا الداء الذي يحاول أن يبعدنا عمن نُحب ؟
هل يتسنى له أن يحيط بنا إحاطة المعصم رغم استماتته ليفعل ؟ ،
وهل مفاتيح الأغلال لما تزل بين أيدينا ، ندخل المساكن التي نُحب ، ونغلقها علينا وفق ما نشتهي ونقول ما نريد لا نخشى أحد ؟
ما كُنا نعتقد أن فُحولة الذاكرة سوف يختبئ وميضها ، يوماً بعد يوم .


(4)
قلت له :
- أتَذكُر حين كتب الشاعر " محمد المكي " مقالاً عَجولاً يتمنى لك الشفاء قبل فترة ، ورد الدكتور حسن موسى قارئاً للمقال العَجول وأقام عليه بنية النقد الجديد بما اختلف الناس حول رؤاه أو اتفقوا وعنونه : " أشغال العمالقة " . وجديد الأسلوب وصعوبة ألا نتأمل الغايات ونَقنَع بالوسائل ،مما تحدث عنه مقال الشاعر أو سكت عنه في مقاله العَجول ، وكيف تناول نقد الدكتور حسن النص دون النظر كثيراً إلى غايات النص ، ومبرراته. وتشعبت القضية بين مؤيد وناعٍ . وأنت سيدي لم ترد ،سوى بالقليل حين ذكرت أن الشاعر صديقك ؟ .
قال لي :
- محمد المكي الشاعر ؟
قُلت :
- نعم هو . وكتب الشاعر رداً بمقال نعت فيه الدكتور حسن : " آية اللؤم العظمى " .
ولماذا لم ترُد ؟
قال :
- هذا موضوع كبير .


(5)
كنتُ على وشك أن أقول له إن الشاعر الكبير عندما سألوه في مقابلة في تلفزيون السودان مؤخراً عنك ، ردَّ : " لقد نسيته " . ويومها دارت رأسي بما ثَقُلت ، ولكن داهمني الصمت. وبدأت موضوعاً آخر :
قلت له :
- أتذكر مقالك المميز عن فكر محمود محمد طه ، ومنهاجه ؟
قال :
- محمود محمد طه مُفكر كبير ، وأذكر جلوسنا معه في بيته وحواراتنا معه ، فهو لا يشبه أبناء جيله ، ويتفهم الفنون بوعي .
قلت :
- أتذكر مقالك ؟
قال :
- المسجل في المدونة ؟
قلت :
- نعم

واستطردنا في الحديث ، سلسلة تُمسك بعضها .


(6)
موجٌ طاف بذهني ، ولكن يبدو أن " التُسنامي " أكبر من كل شيء كان يحيط بنا . لم تتغير ملامح تلك النظرة الحنون من عينيه ، وهو يحاول جُهده أن يكون معي ، وهي الخِصلة التي عرفتها عنه أول يوم عرفته فيه منذ أربعين عاماً ، ولن تُنمحي تلك السنوات . أرقبها نافرة منطلقة كالخيول في بسطة الأرض الخضراء ،ومن مواضينا التي تأبى على النسيان .


(7)
أذكر في سبعينات القرن الماضي حين جاء هو مُنهكاً ذات مساء قادماً من مستشفى الخرطوم ، دخل من الباب وجلس متعباً على السرير وتمدد بملابسه .
قال :
- حاولت كل جُهدي أن تبقى أمي تتنفس وتحيا ، ولكن آخر المطاف هزمني السُكري اللعين حين استوطنها ، وفارقتها نسمة الحياة إلى غير رجعة .

ونحن بين الدهشة والطمأنينة والحزن الذي تفرق بيننا ، علمنا أن كل ما بيد صديقنا ليفعل ، قد فعل . والآن استسلم جسده للنوم القسري رغم أنفه . تركناه نائماً وغادرنا بهدوء إلى مدينة " بحري "حيث تقاطر الجميع لإجراءات الدفن .


(8)

بدأت الآن استدرِك نظرات العينان اللامعتان لابنته ، بين الفينة والأخرى ، تترك القلب يغوص بين الجنبين .
قلت له :
- ألم تزل يا صديقي دمعتك قريبة من مقلتيك ؟ .
تجاهل هو سؤالي.
بدأت أحكي متواصلاً بلا فواصل ، لعل الذاكرة ترتجّ
. كان يسألني ويعقّب كأنه أمسك بالخيط ، قبل أن تتسرب خيوط الأحداث وهي تلتفّ ببعضها . وبدأ يستجمع كل الدُرر التي تُخبئ هذا العالم الجميل الذي هبَّت عليه عاصفة ، شتت الأوراق ، ولكن الجزع قويٌ ، لم تهزمه العواصف الجائرة بعد . يذكر هو أيام الصبا الباكر وشِعر البداوة الذي كان ينشده والده في خمسينات القرن الماضي . يعود إلينا بالطفولة ومقتبل الشباب ، وقصص لم نعرفها من قبل عنه .
مهما اختبأ الماضي ، فهو عصيّ على النسيان . وأكثر الأبيات الشِعرية السودانية تصدق على الوصف :

قلبي هو بريدك وفمي نم
جيب دوايتي اكتب بالقلم
ما لقيت براك شيخ ولا فهم


عبدالله الشقليني

9 فبراير 2015

 

آراء