صلوا يا أمم لنبي الكرم سيّد الفصاح سيّد العجم قلبي هو بريدك وفمي نم أشيل دوايتي أكتب بالقلم ما لقيت بلاك شيخ ولا فهم انتهى الكلام وبيك انختم
شعر الشيخ قدورة
(1) عام 1815 قرأت صحيفة هويته: "أحمد النصيف" فقير ورجل دين. انقطع في شبابه لدراسة الفقه والشريعة. وعندما كان عمره في الثانية عشر، أرسله أهله لمدرسة مجاورة في " دامر المجذوب". تعلّم القراءة والكتابة. يحفظ عن ظهر قلب ما وسعه من آي الذكر الحكيم وكُتب الصلوات. عاد إلى موطنه في قريته عندما بلغ سن العشرين. يملك جفرين من جلد البقر، حفظ في أحدهما من كتب الديانات وكتب الأولين وبعض الكتب الصفراء، وحفظ في الآخر قوسه والسهام وحربته وسيفه. تلقى أسرار كتابة الأحراز والتمائم. عاش متمسكاً بأهداب الفضيلة، ولكنه لم يتعد الزهد في التدخين وفي عدم غشيان بيوت الليل الشعبية. له نهجه في الحياة. كان يردد كل ليلة بعد أن يتوضأ، قبل أن ينام جزء من قصيدة أبن الفارض:
آنست بالحي نارا .. ليلاً فبشرتُ أهلي قلت امكثوا فلعلي .. أجد هداي لعلي دنوت منها فكانت .. نار المُكلم قبلي نوديت منها كفاحاً .. ردّوا ليالي وصلي
* ثم يقرأ آية الكرسي:
{ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة 255 * وقبل أن ينام يقوم باستكثار أقوال( التكبير والتهليل والتسبيح ولا حول و لا قوة إلا بالله ) بعدد ما يتيسر له، وهي التي يقول بهن بعض علماء الفقه أنهن ( الباقيات الصالحات). ثم ينام.
(2) اعتاد أن يكتب التمائم على قطع من الورق. فإذا ابتلع المُحب الذي يشكو صد محبوبته ورقة منها، رقّ له قلبها. وقد تخصص في كتابة الأحجبة والتمائم المضادة للحمى. له مسبحة حباتها من نواة ثمرة " اللالوب"، أدواته للكتابة تشمل اللوح الخشبي والدواية (وهي محبرة المداد) وقلم البوص والجير لتبييض اللوح حتى تظهر عليه الكتابة بوضوح. وله غرفة صغيرة من الطين اللبن أقرب في سقفها لظهر الثور، وسقفها من عروق الأشجار وجريد النخل، بعيدة عن بيوت أهل القرية, ينام فيها ويتلو أوراده كل يوم ويصلي. يحضر إليه بعض التلاميذ وطلاب العلاج.
(3) لم يكن الطاعون معروفاً في زمانه، أما الجدري فكان يفتك بالقوم حيثما يحلّ. وعلاجه كان بدهن الجسم بالسمن مرتين في اليوم. وعرب "الميرفاب" المجاورين لمنطقة سكنه رعاة وزرّاع. إذا انحسر فيضان النيل، زرعوا الأرض ذرة وقليلاً من الشعير. ومن الخضر فلا يزرعون سوى البصل واللوبيا والبامية والملوخية. والنبق البري هو الفاكهة الوحيدة المتوفرة. أبقار الرعاة وإبلهم هي عماد ثروة الأهالي. أبقارهم ضعيفة الجسم، لها قرون صغيرة وسنام من الشحم قرب أكتافها. لكل أسرة حمار أو حماران للأعمال الشاقة.
(4) جئنا إلينا بعد أن عثرنا عليه. كان لنا مريض يطلب شفاءه. شرحنا داءه. رأينا ( الشيخ أحمد النصيف ) يرتدي ثوب قماش خشن يلتف حول جسده و يكسو نصف جسده. ويعتمر عمامة صغيرة ويرتدي في رقبته عقوداً ملفوفة من مسبحته الألفية الخشبية. جلس قربنا، فجمع بقايا ركام حريق صاج الطهو، بعد أن أضاف عليه قليلاً من الصمغ والماء. تناول قلماً من البوص، وبدأ يكتب الآيات القرآنية والطقوس والطواسين وجداول أبجد على لوحه الخشبي. غسل اللوح بعد أن يكتب عليه بالحبر الأسود، من ماء في كوب من القرع. ودعا مريضنا ليشربها، وقال إنه سوف يشفى بإذن الله.
جلسنا معه وحاورناه. قال لنا عندما جلسنا نحاوره:
{ إن العمل والعبادة هي التي تفتح الطريق إلى رضا الله. ورضا الله يعني الطريق لمنح العبد مفاتيح المعرفة للأسماء والمعاني، وتلك تيسر للعبد العلم الإلهي. وهي جزء ما منحه المولى لنبيه آدم. سيأتي زماناً تتطور فيه أدوات القتل. ويهلك الناس بعضهم. وينسون رحمة الإنسانية، ويسود الطمع والكسب في مستقبل الزمان. قليل منهم يخافون الله.}
استغربنا حديثه، وأنّا له أن يعرف المستقبل وكشوفاته، وسكنه على تخوم القرى. ولم يكن في زمانه مدينة تُذكر، ومسكنه بعيد عن درب التجارة !.
ولما سألناه عن أصوله قال:
{ تقول جدتي أننا من سلالة رجل اسمه " سالم " حضر برفقة سبعة من بني العباس بن عبد المطلب، عندما زار كبير أهل دنقلا دار الخلافة العباسية أيام الخليفة " هارون الرشيد " وطلب من يعلمونهم أصول الدين، فأرسل معه إلى دنقلا سبعة من بني العباس، منهم جدي " سالم". عاشوا وتزوجوا من أهل دنقلا ، وأنا من نسل ذلك الرجل.}
(6) سمعنا أن المماليك قد قدموا إلى " دنقلا " ،فارين من مذبحة " محمد علي " ملك مصر. انتظرنا بأطراف القرية يوماً وليلة. خوفنا الأكثر من قُطاع طرق القوافل. لم يكن هناك مدناً قد نشأت. * الصراع ضرورة تاريخية فُرض على المدينة منذ أن وجدت. لا مفر منه من أجل حماية المدينة لنفسها الطبيعية. إنه صراع التمدن الذي لم يعرفه " أحمد النصيف" ، صراع البربرية الطائشة. تعودت عليه المدن لأنه دخل في تركيبتها الحضارية ممتزجاً بطينتها الصافية. تلك كانت " بربر" هي مدينة رئيسة بعد أن غزو" محمد على " السودان وأنشأها، فيها دكاكين لتجارة الأقمشة والذهب ، ومرقص وبار. * عاش " أحمد النصيف" حتى شاهد بأم عينيه غزو" محمد علي" للسودان في شبابه. وعرف كيف حرق "المك نمر" " إسماعيل باشا " ورجاله. وهاجر لبلاد الحبشة عندما قرر " الدفتر دار " الانتقام. وكان يسميها " دار الهجرة الأولى". عاش بقية حياته في بلاد الأحباش. تزوج منهم وانقطع للعبادة. ولماماً يسمع بأخبار المعارك التي دارت عشر سنوات حتى قاربت العام 1830. ثم عاد لقريته قرب "دامر المجذوب " وبنى مسجده وخلوة التدريس خارج القرية. وبقي هناك حتي قرب هزيمة "غردون "في الخرطوم وتوفى عام 1878.