دوحة البرعي الشيخ … بقلم: عبدالله الشقليني
(1)
كتب أبو حيان التوحيدي :
كتبتُ لكَ والربيع مطِلّ، والزمان ضاحِك، والأرض عروس، والسماء زاهر، والأغصان لدنة،
والأشجار وريقة، والجنان مُلتفّة، والثمار مُتهدلة، والأودية مطردة، فما تقع العين إلا على سندسٍ وإستبرق.
هكذا كانت ألمعية اللغة المتصوفة وثراءها، وهي تٌسابق الشعر الحر قبل مئات السنين .
يتقاطر المُريدون على "الزريبة " من كل حدب وصوب، كلٌ يطلب أن ينفك من متاعبه ويرمي بأثقالها على كتف" الشيخ " ، دون أن يبذل الواحد منهم كثير عناء من تفكُر. فالمادة المكتوبة مُيسرة، فليست كما هي في سالف عصر الوراقين. يطلبوا أن يدعو لهم، ليمنحهم مولاهم الزوجة أو الزوج و الرزق والبنين والصحة، فالمال والبنون زينة الحياة الدُنيا... صعبة المنال. إرث تدحرج منذ تاريخ بعيد. كان للشيخ البرعي رأي يُغاير كل المُعتقد عنه وعن رفاقه من أهل الله ، إنه يدعو ربه بتيسير حال الجميع للخير. يخاطب من يُخاطب بقدر ما يَعْقِل ، ويُحسن الظن بالناس.
(2)
عندما كان على قمة المؤسسة التعليمية في "الزريبة" خلال ستين عاما، منذ تسلم رئاسة الزريبة من بعد وفاة والده وإلى موعد رحيله. تربّت على يديه الأجيال تتلو الأجيال ، خلال سين عاماً. يتتبع هو " الحيران " و الأضياف كل يوم . مختلف أنواع البشر : الحاكم والمحكوم ، الفقير والغني ، الصالح والطالِح ، النساء والرجال والأطفال ، منذ صلاة الفجر وإلى ما بعد العشاء وقرب قيام الليل. وضوؤه يتبع الآخر في تسلسُل مُتصل.لا ينام إلا وهو متوضئ، ويجدد وضوءه ساعة يصحو من النوم .
طعام الأجساد له " الحيران"، وطعام الأرواح هو سيد الأمر فيه وبعض المُعلمين. كل الوقت لغيره، يقضي حوائج النفوس بما يتيسر. يُرضي كل من ينتظر الخير .
(3)
اعتدنا سماع مدائح " أولاد البُرعي " من " كاسيت " السيارة الصالون التي تقلنا ونحن في طريقنا عصراً من موقع العمل الذي يبعد ثلاثين كيلومتراً عن مواقع السكن، كل يوم. كان مدير المشروع " المهندس لطفي عبد الله " هو من جلب لنا التسجيلات وحازت إعجابنا. نسمعها بإنشاد أهل " الزريبة "، أولاده المغردين بحلاوة التجويد القرآني وبه عميق توصيل المعاني. تسمع رنين الأحرف التي يقرع فيها اللسان أعلى الحلق، وتلك التي تخرج من بين الشفاه، والقادمة من بئر البطون عميقة وقد ترطبت بتلاوة الذكر الحكيم .
في يوم من أيام العُمر، في العام 1998. وفي غفوة بين فينة النوم والصحو كنتُ ضيفاً على حلمٍ برفقة "الشيخ ". الليل وقد قارب ميقات رحيله. الفجر يدخل أحمر دامياً. وجدت نفسي أجلس قبالته. بيننا إحدى طاولات الحفاوة وهي منتشرة كحمائم بيض فُرشت أجنحتها لتكن مائدة للفرِحين. فوق كل طاولة غطاء أبيض وفي وسطه مزهرية بورودها الحمراء والبيضاء والزرقاء والصفراء وشمعة مُضيئة، بيضاء تسُر الناظرين.
(4)
وقت اللقاء من بعد العصر و قبل الغروب. كأنه موعدٌ لحفل عقد قران ونحن ننتظر!. المجلس بلا أضياف وبلا مُستقبلين !. وحدنا كُنا هناك. الذاكرة تخلو من الأحداث حولنا، والسماء صافية بزرقتها، وقد اغتسلنا من تاريخنا. وجدتُ نفسي أُجالسه دون سابق ترتيب. هو معتمرٌ لباسه المُعتاد وأنا بلباس العمل الرسمي. كستني طمأنينة لم أعرفها من قبل ولبستُ الوقار حُلّة. تحللتُ من كل أربطة التكلُف وجلست في سعة والنفس طربة. جلسنا نستأنِس. أنا أسأل وهو يحكي الطرائف التي شهدها في حياته تباعاً. ما كنتُ أعلم أن الرجل يختزن مثل هذا اللطف وتلك الأريحية. فقد اعتدنا من " أهل الدين" أنهم ينشرون المواعظ الغليظة على القلب، يغرزون سكاكين الوعيد في نفوس مُستمعيهم ليستيئسوا من هذه الدُنيا، بل ليستيئسوا من الحياة كلها. لكن الشيخ غير هؤلاء. وجدته سهلاً مُتبسطاً و عميقاً. جالسٌ هو ببساطته تلك يُسامر. كاريزما تُضيء عند ملامسة حديثه بالتعقيب أو بالسؤال أو بالصحبة ونضارها. بشوش ،صريح النظرة حين تتكسر من استِحياء عميق ألا لتَغرز أنيابها فيمن يُحادثه، فالنظرة الأولى عنده تكفي. يقُصص عليّ من أحسن الأقاصيص. نضحك سوياً من طرائفه مع العباد من الذين يُحسنون الظن به، ويرونه قادراً على فعل كل شيء، في حين أنه العبد الفقير إلى الله، يمُد يده طالباً الصحة والشفاء والعافية ويستعيذ من أرذل العُمر مثل غيره. يطلب الصفح ويُناجي ربه في خلواته. وببطء يقرأ الذكر الحكيم ويتمعن القصص القرآنية، ويدلف في ظلمة الليل إلى الأنوار القرآنية بما يتيسر ليضيء قلبه العامر بالمحبة .
(5)
أذكر أني سألته :
- وما قولك سيدنا " الشيخ " في الذكر والعدد، نسمع بمن يذكر مئة أو ألف وعشرات الآلاف .
ونُشاهد المسبحة " الألفية " ؟
قال :
- فتح الذكر الحكيم أبوابه للذاكرين والذاكرات بلا حدود :
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }الأحزاب35
صدّق هو الله وعظمه .
سألته عن الكلمات التي لها خصوصية عند الذاكرين .
قال :
- اقرأ القرآن ثم الأسماء الحُسنى ثم أقرأ بتجويدٍ صحيح تلك الكلمات. كل واحدة ثقلها جبلٌ من المعارف :
الوجد ـ الوجدان ـ البرزخ ـ اليقين ـ الإيقان ـ الشوق ـ الإيمان ـ الولَه ـ العِشق ـ الوُد ـ الوداد ـ النهل ـ السلسبيل ـ الفراديس ـ الورد ـ البحر ـ التسليم ـ المولى ـ الصولجان ـ الناسوت ـ اللاهوت ـ الري ـ الكُرسي ـ ـ الساجد ـ الراكع ـ النوراني ـ المشاعل ـ المناهل ـ المناقب ـ الصفاء ـ الإسراء ـ المعراج ـ السحائب ـ المحبة ـ التأسي ـ التجلي ـ الاهتزاز ـ النفير العجائب ـ الغرائب ـ النفائس ـ الحُجب ـ الغيم ـ الرِفعة ـ السمو ـ التسامي ـ الطريقة ـ المدامع ـ الزهد ـ الانكسار ـ الإذلال ـ الشراب ـ
التهجُد _ النجوى ـ المُنتهَى ـ المأوى ـ الشفاعة ـ المدد ـ الدعاء ـ الكرامة ـ اللطافة ـ النفوس ـ الجذب ـ الحالة ـ الربانية ـ الفتوحات ـ الرحمانية ـ إلهام ـ الإشراق.....
صمتَ بُرهة وقال :
- تأمل الشمعة التي تحترق أمامنا ...
ثم صحوت .
ألف رحمة ونور عليه في السكون، وفي المآل، وأن يُنزله الذي بيده المُلك منزل العِلّيين، وينفُخ مرقده ليكن بُستاناً من بساتين الجنان الموعودة.
عبدالله الشقليني
10/10/2009