يا قدورة قول فوقو اتكلّم امدح الرسول لا تتبكّم اكرُف النسيم فوقو تنسّم سمّع المُداح التترزّم وادها التيراب التتقسّم
مدحة صلوا يا أمم
(1) لم يكن "قدورة" هو الشيخ الصوفي" عبد القادر بن الشيخ إدريس الأرباب " والذي هو أصغر أبناء "إدريس ود الأرباب "، ولم يكن أيضاً سميه الصوفي" قدورة" التي ذكرته المدحة أعلاه. كان" قدورة " الذي نقصده سمّته أمه " سكينة بت بركات". وقصة مولده أن كانت " سكينة" تفتقد الولد، يقولون أنها امرأة عاقر، أو زوجها " محمدين التاي "كان عاقراً. لا أحد يعرف حقيقة الأمر. * جاء إلى القرية في مشروع الجزيرة " الفكي حمد التكروني" وهو قادم من غرب إفريقيا مع مجموعة تنوي الحج. هبطوا في مشروع الجزيرة يعملون ويسكنون في قطاطي القش التي صنعوها. قدم "الفكي حمد التكروني" معهم وانتقى مسكناً في طرف القرية. وصار يفد إليه أصحاب وصاحبات الحوائج، وكانت سمعته قد توسعت بأنه يكتب الشفاء لمن يدعو له، وله طقوس وأدعية و( محايات ) وطرق سريّة يعتقد فيها الناس شفاءهم . * ذهبت "سكينة بت بركات" لزيارة "الفكي حمد "برفقة جارتها " طيبة بت الغموس " . نصحها "الفكي حمد" بأن الأمر صعب، وما بيده شيء، وأن الأرزاق والخلفة بيد رب العالمين، وما يفعل ذلك إلا الشيطان المسلم. وذلك يقتضي أن تحضر لوحدها بعد منتصف الدورة الشهرية، حيث يبدأ التبويض في أيام الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من بدء الدورة الشهرية, و في اليومان السابقان واليومان التاليان ليوم منتصف الدورة. وأن تتجهز في زينتها كلها مع المباخر بعد الدخان، لأن الشيطان يحب ذلك، وتأتي نهاراً لبيت الفكي. ودعا لها بالبركة والتوفيق.
(2)
لا يدري أحد ما حدث لها، منذ أن شربت مشروباً أعده لها الفكي "حمد ". ولكنها شعرت بدوار بعد إفاقتها من ذلك الإغماء. وطمأنها الفكي "حمد التكروني " ووعدها خيراً. وذهبت لبيتها وأحست بشيء من المادة دخلت مكان حرزها الدفين، فتأكدت من أن الشيطان قد فعل فعله. استحمت وباشرت حياتها كالمعتاد. * محبة رائعة أو رغبة تحايلت الطبيعة في صِياغتها قسراً . تمشي الحياة في مُجتمع تضاريسه تُجرِّح الأقدام حتى تدمي، أو تمشى على بُسط فيها رخاوة وسِعة .بعد أشهر أحست بالجنين في أحشائها. وعند وضعت طفلها الأول والأخير سمته " قدورة " على اسم الشيخ " عبد القادر بن الشيخ إدريس الأرباب ". وشب الطفل على غير ما يرغبه أبواه، نشأ ضامراً مستطيل الوجه، له أذنان كبيرتان بارزتان تخرجان، كأنهما تتحسسان السمع كأذنا القط. تتحركان في اتجاه الأصوات. شب على النقيض من نشأته التي قامت عليها أعراف القرية . لا يحب إلا كيف يجني المال، بأي طريق وبأي وسيلة. لم ترضه القرية وحياتها الوادعة، إذ أن الناس يمتهنون الزراعة وقليل منهم أجتهد ليصير مدرساً في المدرسة الأولية.
نشأ " قدورة " غريباً، لم يرقه الصبر على الدراسة والتعلم. وانضم لنهج ( أولاد العوض) يلتصقون بأي شيء، لكي يعيشوا على خير الآخرين. انتشر لقبه على أنه ابن الشيطان، على قصة أنه من نسل الشيطان، ولكن تضارب الحكايات حول نسبه أفضت إلى قصصاً كثيرة، فمنهم من يقول أنه من سلالة مباركة، ومنهم من تشكك في نسبه بناء على مسلكه. والتزمت " طيبة بت الغموس" بالسّر ولم تتحدث.
(3)
سافر إلى العاصمة، سكن مع أحد أبناء الحي الذي نبت فيه والذين انتقلوا للخرطوم. وعمل صبياً في بقالة. كان أميناً ومنضبطاً صبوراً في مسلكه، يداوم على مواعيده، كان همه أن ينال رضى أصحاب الشأن في البقالة، فقد كان الحي زاخراً بالبَشَر، وأحوال السوق على خير. وبعد صبرٍ طويل حاز ثقة ملاك البقالة، فزادوا أجره. كان يسرع الخطى لمنزله ويغسل جلبابه الوحيد من قماش ( السلكا) التي معظم خيوطها من البوليستر، مع قليل من القطن. يسهل غسيل الجلباب و جفافه سريع، وليس في حاجة للكي. * عندما حاز "قدورة" على الثقة، بدأ يعمل في تبديل العملة المحلية بالدولار، قليلاً مضى الزمن في صالحه، وصار أصحاب البقالة يستأمنونه في عمليات البيع والشراء خارج نظام الدولة الرسمي. صار عَلماً في نظام ( الفتل). وتم اعتقاله مرات عديدة، ولكن لم يتم ضبط مال معه للحيطة والحذر اللذان صاحبا عمله. استغل مهاراته في بيع الدولار خارج النظام المصرفي، وأيضاً من خلف معرفة أصحاب الشأن وأصحاب رؤوس الأموال. ونمى بمعرفته زبائن لا يعرفون سواه، ولا يثقون إلا في شخصه، بعد أن ضيّقت الدولة الخناق. فقد كان أصحاب البقالة مختفين لا يعلم بسيرتهم أحد، بحيث لا يصيبهم أذى من الاتجار بالعملة.
اسـتأجر" قدورة" غرفة داخل بيت يسكنه عزاب، كي يخفي سر إتجاره في العملات. بنى شبكة معقدة من موظفي البنوك، الذين يعملون وكلاء من الباطن لعمليات البيع والشراء. كان أصحابه من موظفي البنوك يتابعون حركة الحسابات المُجمدة، واستغلال فرصة يوم أو يومين يتاجرون بأموال الحسابات المُجمدة في الاتجار مع " قدورة " في العمليات التي تتم من وراء أظهُر أجهزة البنك.
(4)
بدأت "قدورة " تظهر له ابداعات وتجلّيات، تظهر ما كان خافياً من أسرار شخصيته، وكشف المخزون النفسي لبواطنه، والطموح الذي لا يوقف حدوده مثلٌ ولا قيم ولا أعراف أو أخلاق . وبدأ يزأر ويفض لفافة من ناره التي تحرق كل منْ يقف في طريقه. وظهرت أمارات الغنى عليه ولكنه أخفاها. أبعد من يستطيع الوقوف في طريقه بالمكر، فقد نشر ضباع شبكته، تطيح بمن ينافسه في عمله. استغل حاجة المستضعفين من أبناء الشوارع، وأغراهم بالجرائم المُدبرة لمصلحته.
وذات يوم وقف ببابه شيخ مُسن، يطلب مقابلته، ويدّعي أنه من أقربائه. فتح " قدورة " باب الغرفة، فوجد أمامه شيخ كبير السن. نظر للشيخ وأحس بشعور غريب تجاه الرجل. وقدمه لضيافة غرفته. * بعد برهة طويلة تحدث الشيخ بكلمات عامّية، تشبه عامية غرب إفريقيا. وأوضح له الشيخ أن الدماء لن تصير مياه وإن طال الزمن، وأنه قريب منه وتكاد الدماء والجينات أن تتحدث. أحضر له " قدورة " قليل من الماء، وأعد له شاي أحمر. رشف الشيخ رشفة، وبدأ الرجل يحرك أذنيه، فتحركت أذنا " قدورة ". وبدأ وكأنه يلمح صورته عندما يكبُر ويشيخ. فقال الرجل :
- أتدري يا "قدورة" لماذا يسمونك ابن الشيطان؟
فقال:
- لا
فقال الرجل:
- لأنني أنا الشيطان الذي أنجبك؟
فبُهت " قدورة" وصمت طويلاً، ولكن الشيطان قال:
- إنك من دمي فأنت مني. وما تفعله في الدنيا هو من صميم أهدافي ومسعاي. أبشر بالذي يثق فيك، فإنه يخسر الدنيا، وتفوز أنت ولو كره المؤمنون. رزقك ينفخ فيه أصحابنا وأولادنا، يمشون عليه بالبشر والمساعدة. أنت تسير سيرة الجماعة. يقولون: إن الله جعل النساء جميلات، لكننا جعلناهنِّ مثارا للفتنة،... لماذا لا تتخذ واحدة تعينك؟