Slavery and Empire in 19th Century Egypt Eve Troutt Powell ايف تراوت باول ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لجزء صغير ورد في مقال لبروفيسورة ايف تراوت باول بعنوان "The Tools of the Master: Slavery and Empire in 19th Century Egypt" ضمن مقالات صدرت عن مدرسة العلوم الاجتماعية في سبتمبر من عام 2002م تخرجت المؤلفة في جامعة هارفارد (حيث حصلت منها على درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه)، وتعمل الآن أستاذة للتاريخ الثقافي للشرق الأوسط الحديث، وتاريخ الرق في دول حوض وادي النيل والامبراطورية العثمانية في جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا. سبق لنا ترجمة مقال لهذه الكاتبة بعنوان "مسيرة بابكر بدري الطويلة مع السلطة". المترجم *************** *********** ************* قلما يأتي ذكر لطبيعة العبودية التي عاشها السود من الرجال والنساء بمصر في القرن التاسع عشر دون أن تقارن أحوالهم بالتجارب المؤلمة التي كابدها الأفارقة المسترقون في الولايات المتحدة ومنطقة الكاريبي. وثبت من كل التقارير (التي تناولت تلك المقارنة) أن المسترقين الأفارقة لم يعانوا مثل تلك القسوة التي تَجَشَّمَها السود في جنوب أمريكا، ولم تكن هنالك ثقافة مزارع مشابهة أو عنف علني له طقوس مخصوصة يمارس ضد من يتمرد من المسترقين. غير أنه لا يوجد من يجادل في أن غارات تجار الرقيق على الآمنين واسترقاقهم، وتفكيك أواصر عائلاتهم كانت لها تأثيرات فظيعة على المسترقين. وما من أحد بمقدوره أن ينكر كذلك أن رحلات المسترقين (الجبرية) على طريق الأربعين الصحراوي كانت تجربة قاسية وعنيفة، أفضت إلى موت الكثيرين منهم. غير أنه يجب القول أيضا بأنه ما أن يبلغ أولئك المسترقون مصر بسلام، فإن غالب المصادر تشير إلى أن تجربة السودانيين المسترقين كانت أقل عنفا وإيلاما من تلك التي كابدها المسترقون الأفارقة في الأمريكيتين. وليس هنالك اتفاق بخصوص أعداد المسترقين السود بمصر في غضون سنوات النصف الأخير من القرن العشرين، حين بلغت تجارة الرقيق في السودان ذروتها. وذكر جبريل باير في مقال له صدر عام 1982، بعنوان "العبودية ومنعها" أنه يستحيل تحديد أعداد المسترقين في مصر في أي وقت من الأوقات من ذلك القرن، إلا أنه من الممكن تقدير أعدادهم بنحو 20,000 إلى 30,000 مسترقا حسبما ورد في المصادر البريطانية والإحصاء السكاني في عام 1877م. أما جودث تكر (مؤلفة "كتاب النساء بمصر في القرن التاسع عشر" الصادر في عام 1985م) فلم تستطع الوصول لرقم محدد للمسترقين في تلك الفترة، لكنها قدرت أن عدد من تم عتقهم (تحرريهم من العبودية) في مصر بين عامي 1877 و1905م بـ 25,000 نَسَمة. وكانت غالبية المسترقين الأفارقة في مصر من النساء اللواتي كن يعملن في مجال الخدمة في المنازل الخاصة، على الرغم من وجود أدلة موثقة على وجود مسترقين آخرين يعملون في مجال الزراعة في صعيد مصر. وكان هنالك أيضا الكثير من المسترقين الذين تم تجنيدهم في الخدمة العسكرية في بدايات ذلك القرن. لقد اتسم عمل المسترقين وعالمهم في مصر بتسلل هرمي / تراتيبية راسخة في سنوات القرن التاسع عشر. وكانت هنالك الكثير من الصور النمطية عن صفات الأعراق والهويات المختلفة بمصر في تلك السنوات. فكانت النساء الشركسيات البيضاوات على قمة سلم ترتيب المسترقات، إذ كن هن الأَثيرات في "حريم" أثرياء عائلات الطبقة العليا. وتأتي الإثيوبيات في المرتبة الثانية، وكن في الغالب يتخذن خليلات (سريات) لرجال الطبقة الوسطى، ولم يكن يجدن الأعمال المنزلية مثل بقية النساء الأفريقيات اللواتي كن يأتين في أسفل سلم تراتيبية المسترقات. ومن المستغرب أن المعلومات المتوفرة عن طبيعة عمل المسترقين السود بمصر في القرن التاسع عشر أقل بكثير من المعلومات عن النساء المسترقات في ذات الفترة. فبعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، واجهت صناعة القطن المصري منافسة حادة، وتم تقليص المشاريع الزراعية الضخمة التي كان الخديوي إسماعيل قد شجع على إقامتها، والتي كانت تعتمد في الأساس على عمالة المسترقين السود. ولم يسجل الكثير عن مستقبل العمل بالنسبة لهؤلاء المسترقين. وكان أهم ما أوضحته السجلات التاريخية هو أنه بمجرد شراء غالب المسترقين الأفارقة، فإنهم كانوا يوجهون للعمل في خدمة منازل الطبقتين الوسطى والعليا. وأورد جبريل باير أمثلة لمسترقين عملوا في غضون ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر في خدمة مختلف صنوف المصريين من بدو وكبراء قرى الفلاحين وضباط جيش وقضاة شرعيين وقصابين وتجار وموظفين في كل الدرجات الحكومية. ووثقت السجلات التاريخية أيضا أنه كان من ضمن مالكي الأرقاء أيضا بائع كتب ومفتي وطبيب، وأصحاب مهن أخرى. وكان بعض أولئك الأرقاء يعملون ضمن عائلات ممتدة تملك العديد من المسترقين والخدم. غير أن غالب المسترقين كان الواحد منهم / منهن يقيم بمفرده في بيت مصري واحد، ويغدو عضوا في مجموعة حميمة، ويعمل في خدمة كل العائلة، ويعتمد عليها في كل شؤون حياته (في الغذاء والعلاج والكساء). وقد يساعد المسترق أو المسترقة في تربية الأطفال، وفي بعض الحالات قد تنجب المسترقة من رب العائلة. وهنالك الكثير من الوثائق المصرية والبريطانية التي تثبت أن المسترقين السود كانوا بالقطع جزءًا من العائلة (استشهدت الكاتبة هنا بما ورد في مقال جبريل باير من مكاتبات بين المسؤولين البريطانيين، وما نشره المصري أحمد شفيق بيه عن العبودية في الاسلام: “De l’esclavage au point de vue musulmane”, Bulletin de la Société de Géographie de l’Egypte, vol. 5, (1892), p. 460 ماذا يعني فرض تدجين (استدجان، ألفة) الرق؟ لقد أثارت تلك الحميمة في العلاقة (بين المسترقين و"مالكيهم") وتمديد الروابط العائلية إلى المسترقين عند كثير من المراقبين الأوربيين خليطا من دغدغة المشاعر والاشمئزاز. وهذا هو نفس رد فعل هؤلاء الأوربيين تعليقا على فكرة "الحريم" في المجتمعات المسلمة. لقد كان الرق يرتبط دوما أشد الارتباط بالغرابة الاجتماعية (exoticism) لفكرة الحريم عند المراقبين الأوربيين في الشرق الأوسط. ومع حلول العقد الأخير من القرن التاسع عشر غدت فكرة هيكل الأسرة المصرية فكرة مسيّسة في مصر، ومتعرضة لنقد حاد من خارجها، خاصة في بريطانيا العظمى وفرنسا. وناقش مفكرون أوربيون مثل أرنست رينان فكرة الزواج في الإسلام، وشرعية تعدد الزوجات، وعدوها أمثلة لميل انعكاسي نحو الاستبداد الإسلامي، وقالوا إن الوضع المتدني للنساء في المجتمعات الإسلامية يثبت عدم توافق الإسلام مع الإصلاح الاجتماعي والتقدم. (أرنست رينان 1823 -1892م، فيلسوف فرنسي متخصص في اللغات والحضارات السامية، وله آراء عنصرية، وأخرى ناقدة للأديان جميعها خاصة الإسلام. المترجم). أما في الدوائر البريطانية الرسمية، خاصة عند الإداريين في مصر والسودان، فقد كان ينظر للاسترقاق بحسبانه يحرم المسترقين من أي فرصة للعيش حياة عائلية حقيقية، حتى بعد تحرريهم من إسار العبودية. وسرت بين الناس مخاوف من أن تتحول المسترقات بعد تحريرهن لمهنة الدعارة في طرقات القاهرة. ونتيجة لتلك المخاوف أنشأ اللورد كرومر (بيت القاهرة للنساء المحررات Cairo Home for Freed Women) في عام 1886 بعد عامين من إنشاء مكاتب تجارة الرقيق (في القاهرة والإسكندرية ومناطق مصرية أخرى. المترجم). ودارت في مصر مناقشات حامية حول الزواج والعائلة، خاصة بعد نشر قاسم أمين في عام 1897م. لكتابه "تحرير المرأة"، الذي ينادي بالتحرير الاجتماعي للنساء المصريات. ودارت مناقشات واسعة عن العادات الاجتماعية في شؤون الزواج عقب عرض مسرحيات صنوع يعقوب بن رفائيل (1839 – 1912م، أستاذ وأديب وكاتب ومؤلف مسرحي مصري، تلقى تعليمه في إيطاليا. المترجم). ففي مسرحيته "الدارة" تناول الكاتب المشاكل التي تعانيها الزوجة الأولى عند إقدام زوجها على تعدد الزوجات. وتناول مؤلفون مسرحيون آخرون قضايا مشابهة مثل مسألة الزواج المرتب / المخطط له مثل مسرحية محمود واصف في "عجب الأقدار" في عام 1884م، وخليل كامل في "ظلم الآباء" عام 1897م. ونشرت كثير من القصص والروايات الرومانسية التي تختار فيها البطلات بأنفسهن من يردن الزواج به عن حب. وكانت تلك خطوة أولى نحو "أفق ثوري" عند كثير من المحافظين التقليديين من أفراد المجتمع المصري. ولكن، على الرغم من بدء المثقفين المصريين الالتفات إلى إمكانية قيام النساء بأدوار مختلفة وجديدة، وشروع النساء المصريات في الدخول بوتيرة متسارعة في مناقشة تلك الأدوار، ظل موقف الغالبية العظمى من الإداريين البريطانيين بمصر متصلبا ومعارضا، فقد كانوا يرون أن تلك التغيرات التي يكتب ويتحدث عنها المثقفون المصريون لن ترى النور في وجود ظل العبودية بالبلاد. بل كان الكثيرون من هؤلاء البريطانيين يؤمنون بأنه ليس بمقدور المصريين دستوريا معارضة الرق، أو العيش من دونه. وكتب في 18 يوليو من عام 1881م أحد كبراء وخبراء الإداريين البريطانيين رسالة إلى رئيس جمعية مكافحة الرق جاء فيها: "لا أحتاج لأن أقول لك إنه لا يمكن الثقة في أن أي تركي أو مصري، مسلما كان أم مسيحيا، سيعمل على القيام بأي إجراء فعال لمنع جلب الرقيق للبلاد، إذ أن لا أحد من هؤلاء يحمل في ضميره أي بذرة مشاعر أو معارضة للنظام نفسه كما هو حادث في الإمبراطورية التركية. وليس في قلب أي مسؤول مصري أي تأييد لحركات مقاومة ومنع العبودية". وكان على الحركة الوطنية منذ بداية نشأتها التصدي لمسألة الرق. ولكن بينما كان قادة ثورة عرابي يزعمون أنهم يدعون لإيقاف تجارة الرقيق في السودان، بدأت الحكومة المصرية في تلقي أنباءً بأن المهدي قد أفلح في السيطرة على المزيد من الأراضي. وكان هذا مما جعل من الصعوبة على قادة تلك الثورة عمل شيء في أمر تجارة الرقيق، خاصة مع تزايد ضغوط القوات البريطانية عليهم، وتزايد الشكوك في الأجواء السياسية بالبلاد، والتخوف من أن يكون الخديوي توفيق هو نفسه من يحرض قادة تلك الثورة. وبعد أشهر قليلة احتلت بريطانيا مصر، وقُبرت نهائيا بذلك دعوى قادة ثورة عرابي المعلنة لمنع تجارة الرقيق وممارسته. وحينها بدأ البريطانيون في أخذ زمام المبادرة والمسؤولية عن منع تجارة الرقيق، وقاموا أيضا بتغيير بنود النقاش: قاموا بربط العبودية باستقلال مصر، وأن على المصريين الوطنيين إثبات قدراتهم على حكم أنفسهم بأنفسهم في سياق تاريخ مصر الطويل في استعباد السودانيين والنوبيين. ***** ***** ***** سمحت الاتفاقية الإنجليزية - المصرية لمكافحة العبودية الموقعة في عام 1877م بإنشاء "مكاتب تجارة الرقيق"، وصارت تحت الاشراف المباشر للسير ايفيلن بارنق (الذي عرف لاحقا باللورد كرومر) الوكيل البريطاني وقنصل بريطانيا العام في مصر. وتولى كرومر تمويل تلك المكاتب تمويلا جيدا، وأيد بحماس شديد مديرها العقيد شارلس شيفير. غير أنه لم يكن من السهل على جمعية مكافحة الرق إقناع كرومر، إذ أنه كان في الواقع يعدها ليست ملمة بما فيه الكفاية بالحقائق السياسية في مصر والسودان. وكانت أحد أسباب قلة صبره على تلك الجمعية هو إيمانه بأن العبودية مقبولة ومحترمة في المجتمع المصري (في تلك السنوات. المترجم). وساهم العقيد شارلس شيفير في إقناع كرومر بذلك الرأي كما يتضح في هذه الرسالة، التي حولها كرومر لاحقا إلى لندن لما احتوته من رؤى قيمة: "لا يجب أن ننسى أن بيع الرقيق في هذا البلد يعد من وجهة النظر المحمدية عملا قانونيا، وأن عادة توظيف نساء ليخدمن في المنازل مقابل أجر معلوم ليست عادة شائعة في وسط الأهالي. لذا فإن امتلاك رقيق أو حتى بيعهم لا يسيء إلى الأخلاق العامة كما هو الحال في بلاد متحضرة. ولهذا فإن العامة هنا ليست لديهم أدنى رغبة في مساعدتنا كما يفعلون عادة في الأمور التي تمس الأمن العام." وسمع المصريون تلك الأفكار والاتهامات بطرق مختلفة: من الصحافة، وفي الخطب، وفي مقابلاتهم مع المسؤولين البريطانيين. وأختار الكثيرون من المصريين الرد علنا على محاوريهم البريطانيين في نفس المواقع بالتركيز على شرعية الرق نفسه، ورددوا نفس منطق البريطانيين الذي كان يركز على تركيبة العائلة المصرية. فعلى سبيل المثال، هنالك أحمد شفيق المحامي الذي تلقى تعليمه في فرنسا، وغضب أشد الغضب عندما سمع خطبة ضد الرق ألقاها الكاردينال لافيجري (Lavigerie) في كاتدرائية سانت سولبيس في باريس. وجاء رد أحمد شفيق لجمعية مصر الجغرافية الخديوية باللغة الفرنسية ليؤكد أن الرق في الإسلام، عند المقارنة بينه وبين كل أنظمة الرق في العالم، التاريخية منها والمعاصرة، كان أكثر عطفا ولطفا ولينا لأنه أعطى للأرقاء الأفارقة (أو أي أرقاء آخرين) روابط جديدة لعائلة جديدة متبناة. أما عبد الله النديم (1842 – 1896م، أديب وزَجّال من خطباء ثورة عرابي. المترجم)، فقد تناول أمر الرق من منظور مختلف. نشر النديم مقالا في عام 1892م عنوانه "سيد وبخيتة" في مجلته الشعبية "الأستاذ". وكتب في ذلك المقال عن حيرة مسترقين سودانيين (سيد وبخيتة) فيما سيفعلانه في حياتهما بعد أن تم تحريرهما من العبودية. فقد ظلت بخيتة تتحسر على حياتها المنتظمة مع "سيدتها" وعلى الراحة والمزايا التي كانت تنعم بها وهي في خدمتها. غير أن سيد كان لا يذكر من حياته مع "سيده" سوى العزلة والقسوة. وأهم من ذلك ظل سيد يذكر بخيتة بأن الحكومة المصرية كانت قد وعدتهم بأن تملك كل منهما قطعتي أرض وآلات تتيح لهم زراعة القطعتين وبدء حياة جديدة. وأكد سيد لها بأن السودانيين (المسترقين) يحق لهم الزواج فيما بينهم وتكوين أسرهم المستقلة، بعيدا عن ملاكهم المصريين السابقين. ومن بين كل الشخصيات التي تناولتها هنا، يبرز عبد الله النديم كأعلى صوت نادى بتكوين عائلة مختلفة من السودانيين الذين مزقت العبودية أواصر علاقاتهم العائلية الطبيعية، وطالب بإصلاح ما أفسده الاسترقاق في هذه الناحية. وعلى الرغم من أن النديم كان يبغض مؤسسة الرق، إلا أنه كان في ذات الوقت يعتقد بأن الرق في مصر شأن مصري داخلي ينبغي على المصريين وحدهم حسم أمره. والجدير بالذكر أن النديم لم يكتب ما كتب عن الرق باللغة العربية الفصيحة، بل باللغة المصرية الدارجة (المستخدمة في المدن). ولم يكن قصد الرجل من استخدامه اللغة الدارجة عزل البريطانيين عن مناقشة ما يتناوله. كان النديم يقدم الاسترقاق للمصريين على أنه فترة مؤلمة ومقلقة في التاريخ المصري، إذ أنه كان يؤمن بأن الرق جزء لا يتجزأ من علاقة مصر التاريخية مع السودان، ولكن مصر لم تبدأ بعد في التعامل مع تداعياته. ولم يرد ذكر قط للبريطانيين في جميع حوارات النديم الحادة اللهجة أو في مقالاته السابقة (وهذا ما يتوافق مع إيمانه بأن مسألة الرق في مصر شأن مصري بحت. المترجم). لقد كان الاحساس بتدخل البريطانيين (غير المرغوب فيه) قد بدأ في التزايد في تسعينيات القرن التاسع عشر، عندما بدا واضحا للعامة من البريطانيين والمصريين أن دولة المهدية في السودان – والتي كان يقودها خليفة المهدي، عبد الله التعايشي – تعيش أوضاعا صعبة بسبب المجاعة والحرب. وظل المسؤولون البريطانيون يقودون حملات دعاية مكثفة من أجل حشد تأييد شعبي واسع لاستعادة حكم السودان، ويلوحون بذكرى الجنرال شارلس غردون كالسيف. وقاد الجنرال ريجلاند وينجت قائد المخابرات المصرية حملته (الكتابية) لاستعمار السودان بترجماته لمذكرات سطرها أسرى المهدية الذين أفلحوا في الفرار من أم درمان إلى القاهرة، وأصدرها في كتب لاقت شعبية كبيرة عند الرأي العام البريطاني (يمكن الرجوع للمقال المترجم عن وينجت بعنوان: "الجندي بحسبانه مؤرخا: فرانسيس ريجلاند وينجت ومهدية السودان". المترجم). واِستَفظَعَ الوطنيون المصريون تلك الحملة الدعائية، إذ كانوا يرغبون في عودة السودان للحكم المصري، ولكن ليس لمصر وهي مهزومة ترزح تحت احتلال البريطانيين. ولم يخفف من ذلك الاستفظاع تصورات المؤيدين لإلغاء الرق عن الأفارقة السودانيين: الإتجارية الأوربية (European mercantilism)، أي سياسة / نزعة المتاجرة التي لا تأبه بأي شيء آخر (https://bit.ly/2Jp8E8J). ******* ***** ******
ما الذي حدث بعد أن سيطر البريطانيون بالفعل على السودان؟ سنتناول الإجابة عن هذا السؤال في ورقة أخرى. غير أنه يمكن أن نجمل الإجابة في أن انعكاسات وتداعيات احتلال البريطانيين للسودان هي مصادر كل مشاكله إلى اليوم. وأوضح تلك الانعكاسات وأكثرها تأثيرا هي العزلة المستمرة للجنوب عن الشمال، والتي سببها – بحسب رأي تاج هارجي (أحد مؤرخي تاريخ الرق بالسودان) - هو "الإعادة النشطة والتشديد المفرط للذكريات الخاصة بتورط العرب في تجارة الرقيق البغيضة"، وأن "الحكم الاستعماري وحلفائه من المبشرين (وغيرهم) ضاعفوا من عزلة الجنوب عن الشمال بمفاقمتهم لعدم الثقة بين الأعراق، وتشجيعهم للصراعات القبلية، وتضخيمهم للتناقضات الثقافية، وبذر بذور انفصال الجنوب عن الشمال بالدعوة لمنحه حق تقرير المصير". وليس واضحا لي إن كان نشطاء الحركة الداعية لإلغاء الرق وحدهم هم من فاقموا بالفعل من ذكريات الرق الأسيفة (في أذهان الجنوبيين). فقد ترك الرق آثارا باقية على العرب والأفارقة معا في السودان – ولكن يصح القول بأن حكومة السودان قامت بالفعل بتأسّيس / ترسيخ تلك الآثار. ورغم كل الخطب والادعاءات فليس صحيحا أن الرق قد انتهي لعقود والبلاد تحت الحكم البريطاني. فقد كان على النظام أن يراعي مصالح طبقات كبيرة من مالكي المسترقين في العاصمة وشمال السودان. وكان الحكام البريطانيون يعتقدون بأنه "من السابق لأوانه تشويش / هز المجتمع السوداني مجددا بعد 18 سنة من حكم المهدية". وابتدع هؤلاء الحكام تصنيفات ومسميات جديدة لتعكس قرب انتهاء الرق (والذي كانوا يرونه حينها لا يزال أمرا مستحيلا)، فصار الحكام البريطانيون يسمون المسترقين بغير اسمهم، ويطلقون عليهم أسماء مثل: "الخدم السريين / المستترين crypto – servants" ، أو "عمال السخرة indentured laborers"، أو "الأرقاء المتطوعين volunteer salves" أو "الزنوج المنبتين قبليا detribalized negroids". وكانت الرسالة التي تلقاها أعضاء جمعية مكافحة الرق (الغاضبون من تلكؤ البريطانيين في إلغاء الرق) من وزارة الخارجية البريطانية وحكومة السودان وغالب أعضاء البرلمان البريطاني هي "الصبر"، بالطبع تحت مسمى "السيطرة العملية".