المجلس القومي للثقافة والفنون والبديل الثقافي: عودة إلى الذاكرة

 


 

 

 

أضحت كلمة ثقافة مفهوماً مشحوناً كان وما زال يتهددنا خطره إن لم نُحسن الجلوس إليه والتدقيق في ما فعل (وما سوف يفعل) بنا منذ أن دفع به الساسة الجنوبيون عشية الإستقلال حجةً قوية، ضمن حجج أخرى، تدعم مطلبهم السياسي حول هيكل الدولة الوليدة ووجودهم فيها، وقبل ذلك نصح بدائه ودوائه بيان سديد للجبهة المعادية للإستعمار (1954) حول قضية الجنوب وسبيل حلها. ومنذ ذلك الوقت تناول سياسيون وكتاب ودارسون نبهاء قضية الثقافة وأزمتها في كل أبعادها وتذاكروا حول أفضل السبل لمواجهتها، ولكن لم يكن من المأمول أصلاً إصلاح أمرها على يد نظام سياسي هو في ذاته معوج. أما وقد تخطت هذه الثورة مرحلة الشرعية إلى مستوى القرار والفعل فقد تهيأت كل السبل لوضع قضية الثقافة في ميزانها المستحق ضمن جذور الأزمة، وقد رأينا بوادر ذلك في تعيين أمين عام للمجلس من لدن القوى الحية في النشاط الإبداعي الثقافي. وفي هذا المقال نعود إلى البدايات الأولى لإنشاء هذا المجلس ورصد ومناقشة بعض الوقائع المتعلقة بأولى المحاولات لتنفيذ مهامه وما إعترض هذه المحاولة من عوامل سياسية وبنيوية لازمت فكرة وتكوين هذه المؤسسة في طور نشأتها، وذلك من واقع تجربة عملية لهذا الكاتب بحكم عمله كأمين لدائرة الفنون، إحدى أقسام المجلس، في الفترة من 1977 إلى 1979 ثم من 1982 إل 1984. وكنت قد أشرت بإختصار لهذه العوامل في مقال نشر في الملحق الثقافي لصحيفة الأيام في العام 1988.

كان إسم المجلس عند تأسيسه في بداية السبعينيات المجلس القومي لرعاية الآداب والفنون، وفي عام 1991 غير نظام الإنقاذ إسم المجلس إلى الهيئة القومية للثقافة والفنون، ثم إستبدلوا هذا الإسم في عام 1999 بالمجلس القومي للثقافة والفنون. يعتبر هذا المجلس أول محاولة من جانب السلطة السياسية منذ الإستقلال لخلق جسم إداري وتشريعي معني بالنشاط الثقافي والفني في السودان. في عام 1976 أجاز مجلس الشعب، وهو "برلمان" النظام المايوي، قانون المجلس ووقع عليه رئيس الجمهورية. المادة الرابعة في الفصل الثاني من هذا القانون تبين رسالة المجلس كما تبدو من إسمه وتحدد بصورة واضحة علاقته بالسلطة السياسية القائمة. يقرأ نص هذه المادة كالآتي: "يعمل المجلس على تطوير الآداب والفنون وتشجيعها ونشرها والإتجاه بها إتجاهاً قومياً في نطاق السياسات التي يحددها التنظيم السياسي." والتنظيم السياسي وقتها كان تحت مسمى الإتحاد الإشتراكي السوداني. ويحدد القانون الهيكل التنظيمي للمجلس وآليات تحقيق أهدافه كما يلي:
أولاً، يعين رئيس الجمهورية أعضاء اللجنة العليا للمجلس والتي يرأسها وزير الثقافة والإعلام بإعتباره رئيساً للمجلس والذي يتبع إدارياً لهذه الوزارة. تضم اللجنة العليا وزراء التعليم والشباب والشؤون الدينية والأوقاف ووزير شؤون الجنوب والسكرتير الإعلامي للإتحاد الإشتراكي وعميد كلية الآداب في جامعة الخرطوم وجامعة أمدرمان الاسلامية ومدير دار الوثائق المركزية ومدير إدارة الثقافة في وزارة الثقافة والإعلام. ومهمة هذه اللجنة رسم السياسة العامة للمجلس ونظمه الإدارية.
ثانياً، يرشح رئيس المجلس أميناً عاماً للمجلس يتم تعيينه بمرسوم جمهوري لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. ويصبح أمين المجلس مسئولاً أمام رئيس المجلس واللجنة العليا حول إدارة المجلس وتحقيق أهدافه. وبحسب البند (13أ) يتلقى أمين المجلس توجيهات عامة أو محددة من رئيس المجلس متعلقة بمناشط المجلس كيفما تتطلبه المصلحة العامة في إطار السياسات التي يضعها التنظيم السياسي.
ثالثاً، يتكون المجلس من ثلاث دوائر متخصصة، وهي الفنون والآداب والثقافة ، ولكل دائرة أمين مهمته إدارة وتنسيق العمل داخل الدائرة وبينها وبين أمين المجلس. كذلك لكل دائرة لجنة خاصة بها ويُعين رئيسها بواسطة رئيس المجلس. لجنة دائرة الفنون مثلاً، تتكون من عشرة أعضاء يختارهم رئيس المجلس والذي يعين أيضاً عضوين معنيين بالنشاط الفني في الجنوب. هناك ثمانية أعضاء يُعينون لهذه اللجنة بحكم وظائفهم ومن بينهم عميدا كلية الفنون الجميلة والتطبيقية ومعهد الموسيقى والمسرح ورئيس إتحاد التشكيليين ورئيس إتحاد فن الغناء الشعبي. وتشتمل كل دائرة من دوائر المجلس الثلاث على أقسام تختص بأنواع الفنون التي تضمها الدائرة، مثال ذلك أقسام الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والسينما والغناء الشعبي والفنون الشعبية في دائرة الفنون. كذلك لكل من هذه الأقسام لجنة خاصة وسكرتير مسئول عن الجانب الإداري ومتابعة تنفيذ القررات التي تتخذها هذه اللجنة. وتتكون اللجان الخاصة لهذه الأقسام من الأشخاص الناشطين في مجالهم الفني المعني ويتم إختيارهم بالتشاور بين أمين المجلس وأمين الدائرة.
رابعاً، تتكون موارد المجلس المالية، بحسب البند رقم (15) من قانونه من المنح وما تخصصه له الدولة من ميزانية وما يأتيه من دخل مقابل ما يقدمه المجلس من خدمات وأعمال معينة أو ما يصله من هدايا وهبات. وللمجلس ميزانية خاصة لتغطية الفصول الثلاثة من مرتبات وخدمات ومهام. وهي ميزانية خاضعة لترتيبات مالية خاصة أصدرها رئيس المجلس بالتشاور مع وزير المالية والتخطيط والإقتصاد الوطني بحسب البند رقم (16).
تعرضنا في بداية المقال إلى المادة الرابعة في الفصل الثاني من قانون المجلس لأنها تبين، في الواقع، هوية هذه المؤسسة والغرض من إنشائها وما ترتب على ذلك. ويمكن القول بشكل عام أن العلاقة بين المؤسسات والتنظيمات الثقافية والفنية من جهة والسلطة السياسية المهيمنة على الدولة منذ الإستقلال من جهة أخرى إتسمت على الدوام بتعارض الأهداف cross-purposes تجاه الثقافة والفنون. ففي أوقات الديموقراطية وحكم حزبيْ النخبة شابت هذه العلاقة في كثير من الأحيان حالة من عدم الإنسجام ودرجة من الإختلاف والمخاشنة أحياناً، وفي أوقات الدكتاتورية وحكم الشريحة العسكرية تحولت هذه العلاقة إلى حالة من المواجهة. لكن في كلا الحالتين، بينما تحتضن السلطة السياسية سياسات معينة تخدم أجندتها الخاصة تظل المؤسسات والتنظيمات الثقافية والفنية في حالة مقاومة دائمة لفرض هذه السياسات بحكم طبيعة النشاط الثقافي والفني وشروطه وغاياته. فبينما إرتبطت سياسات النخبة بإستراتيجية أشمل، هدفها المحوري تحقيق هيمنة مستديمة على الدولة وفرض آيديولوجية عربوإسلامية على المجتمعات السودانية، أظهر تاريخ المؤسسات الثقافية والفنية تواصلاً تلقائياً وإستجابة متصلة لمطلب التطور الإجتماعي والثقافي وضرورة التحول والإصلاح السياسي. ورغماً عن هذه المسافة بين هذين المعسكرين إلا أن الخلاف بينهما ظل حتى إنقلاب الإنقاذ في حدود لم تتجاوز فيها السلطة السياسية عتبة البيت الثقافي والفني والعبث بموروث هو مستودع تاريخ ووجدان الشعوب السودانية وهو ما تجاسرت على فعله الحركة الإسلامية. ولقد ظل الجدل حول الثقافة والفن مترافقاً ومتداخلاً مع التطورات السياسية والإجتماعية منذ البدايات الأولى للحركة الوطنية في العشرينيات. ومع الأحداث السياسية العنيفة والتحولات الإجتماعية العميقة التي حدثت في العقود التالية للإستقلال تواصل هذا الجدل مضيفاً مادة جديدة ومداخل مستحدثة إلى المجرى العام للنقاش. لكن، ولأول مرة طرأ تحول نوعي في مجرى هذا النقاش بعد إستيلاء الحركة الإسلامية على السلطة في 1989، ذلك أنها المرة الأولى التي يشهد فيها المجتمع السوداني شكلاً متوحشاً من المصادمة بين السياسي والديني والثقافي والفني. هذا ولقد تطرقت للموضوع في مقالات بعنوان "أسلمة الفنون في التجربة السودانية" نُشرت في الميدان الثقافي وصحيفة حريات الإلكترونية في العام 2016.
من الواضح إذن، كما نصّت المادة المشار إليها، أن موافقة السلطة السياسية على إنشاء المجلس ليس بالأصالة عن قناعة بدور ومكانة الثقافة ومركزيتها، بل قُصد فيه أن يكون ذراعاً للسلطة السياسية ومحاولة خلق مواقع لها داخل المؤسسات والتنظيمات الثقافية والفنية بهدف إحتوائها وتجنيدها عند اللزوم لدعم سياساتها. بدا ذلك واضحاً في ملابسات تعيين أمناء المجلس وفي خطط وبرامج المجلس والميزانية المخصصة له. فعلى الرغم من إجازة قانون المجلس في عام 1976 إلا أن أمينه العام لم يحسم أمره إلا بعد ثلاث سنوات، في عام 1979. كان من المتوقع ذهاب المنصب إلى قيلي أحمد عمر بإعتباره الشخص المكلف بإدارة المجلس حتى صدور قانونه، لكن يبدو أن صناع القرار السياسي لم يكونوا في كامل الرضا عنه. في ذلك العام تم إنعقاد إجتماع لمجموعة من الأدباء، أغلبهم أو جلهم من الشعراء، في قاعة الإتحاد الإشتراكي أُنتخب فيه مبارك المغربي رئيساً لإتحاد الأدباء، وبعد وقت قصير تم تعيينه كأول أمين عام للمجلس. بنهاية فترته الأولى، أي بعد ثلاث سنوات، تم إستبداله بالسفير جمال محمد احمد. وكان مما رشح من تفسير وقتها لعدم تجديد فترة المغربي أن هذا لم يستطع تحقيق الهدف المرجو من المجلس، ومن رأي صناع القرار أن الأمين الجديد شخصية أدبية مرموقة وذات وزن ثقافي ولعله يروق لغالبية المتشككين من المجتمع الثقافي والفني تجاه المجلس ودوره، كما يقال أن جمال قبل بالمنصب بعد إلحاح من عدة جهات. لكن تم إستبدال جمال محمد احمد قبل إكمال فترة الثلاث سنوات المقررة له في منصبه بحسب قانون المجلس، وتم تعيين التشكيلي أحمد شبرين في المنصب. يعود السبب في هذا الإستبدال إلى التطورات السياسية التي حدثت في العام 1983 والحلف السياسي الذي نشأ بين نميري والحركة الإسلامية بزعامة الترابي وما إستتبع ذلك من ترتيبات طالت المجلس، إذ أصبح أحد المواقع التي آلت للحركة بإعتباره أحد أذرع الدولة في الحراك الثقافي. لكن، إلي جانب هذا السبب الرئيسي، يبدو أن صناع القرار لم يكونوا من ناحية أخرى على وفاق تام مع جمال محمد احمد، فقبل إقالته من منصبه روى لهذا الكاتب أن مؤسسة أديناور (مستشار دولة ألمانيا المعروف) عرضت عليه تشييد مبنى للمجلس من أربع طوابق في مساحته الحالية إسهاماً منها في دفع حركة الفنون والآداب في السودان. ولما عرض الأمر على المسؤولين أتاه الرد بعد فترة من الوقت بأن طلبوا منه أن يقنع المؤسسة بأن "تتكرم" بدفع تكلفة هذا المشروع نقداً وستقوم الجهات المعنية بتنفيذه. لكنه أقنع المؤسسة، بحسب قوله، أن يصرفوا النظر عن الموضوع، فقد وضح ما كان مبيتاً من جانب أولئك المسؤولين.
كذلك يتضح الغرض السياسي من إنشاء المجلس في الميراث الذهني التاريخي للسلطة السياسية والذي أورثته لنظام مايو وفي مردود مجازفة فطيرة بادر بها هذا النظام في المعترك الثقافي والفني. فمن منظور تاريخي عام لم تتمكن السلطة السياسية السودانية منذ توليها مقاليد الحكم من تأسيس علاقة مع الفضاء الثقافي تتسق مع طبيعته، ويعود ذلك إلى ضيق التكوين الفكري وضعف البنية الثقافية التي منعت قادتها من أن تنتبه إلى أهمية وخطورة البعد الثقافي والفني في حياة الشعوب. أضف إلى ذلك هذا التوجه الآيديولوجي الإسلامي بضيقه وتشككه في عالم الثقافة، وخاصةً مكون الفن، والذي أفصح عن نفسه في الفعل والخطاب السياسي مع إزدياد حدة الصراع وتفاقم الأزمة الوطنية مع تحالف نميرى والإسلاميين. وأي إلتفات من جانب السلطة السياسية، في وجهها المدني أو العسكري، إلى ما يجري في الحراك الثقافي لا يخرج عن محاولتها معالجة أزمتها التي طالت مع هذا الحراك، وهذا ما ينطبق على محاولة النظام المايوي. لم يكن العديد من أركان هذا النظام يرون في المجلس الذي أنشأوه خياراً مثالياً لإنجاز مهام إختراق وإحتواء النشاط الثقافي والفني. ومن هنا كان تأسيس المجلس أقرب إلى تجريب وتمرين سياسي منه إلى إلتزام صادق ومؤمن بضرورة ودعم النشاط الثقافي في المجتمعات السودانية، وكانت الرغبة في تحقيق المكسب السياسي من خلال نافذة المجلس أكثر من الحرص على تحقيق أهدافه الفنية والثقافية المعلنة. ونتيجة لهذه الذهنية السائدة لدى السلطة ظلت إدارة المجلس، منذ تأسيسه في بداية السبعينيات، في حالة من الإنتظار والترقب لإصدار وتنفيذ قرارات أساسية لبداية عمل المجلس في تحقيق أهدافه وأولها تعيين أمينه العام وتوفير الميزانية المناسبة، وهذا لم يتم إلا في آخر عقد السبعينيات. ولكن إتضح بوار المشروع المايوي الثقافي بعد تعيين الأمين العام وأصبح من اللازم وضع ميزانية جديدة لمسار المجلس.
كانت ميزانية المجلس حتى لحظة تعيين الأمين العام لا تتعدى المائة وخمسين ألف جنيه شاملة لفصول الصرف الثلاث. وكان المقصود منها تسيير المجلس دون أعباء مالية تذكر على أن يجري البحث في مدى فعاليته في تحقيق الغرض منه، ذلك أن أي إستثمار فعلي فيه مرهون بتحقيق هذا الغرض. وبعد تعيين الأمين العام طلب رئيس المجلس، أي وزير الثقافة والإعلام، إعداد مقترحاً شاملاً ومفصلاً لبرنامج عمل المجلس وميزانيته لتقديمه للجهات المسئولة. وبحسب قراءة المادتين "21 ب" و"21 ف" من قانون المجلس واللوائح المنظمة لعمل دوائر المجلس الثلاث وتكوين لجانها المتخصصة وأسلوب نشاطها، فقد أوكلت مهمة إعداد هذا المقترح وميزانيته للجان الأقسام المتخصصة في كل دائرة. في دائرة الفنون مثلاً، باشرت لجان التشكيل والموسيقى والمسرح والسينما،إلخ، كل على حده، صياغة مقترحها في ضوء تصورها لأهداف المجلس، وذلك من خلال رصد الإحتياجات الأساسية في كل حقل فني وتحديد أسبقيات التنفيذ على مستوى القطر. أخذ أعضاء هذه اللجان المتخصصة هذه المهمة مأخذاً جاداً وقدموا برنامجاً تضمن مشاريعاً وميزانية إستهدفوا بشكل رئيسي البنيات التحتية المطلوبة للنهوض بالفنون السودانية في أنواعها الرئيسية، مثل تأسيس أوركسترا سودانية قومية ومسارح حديثة في العاصمة وعواصم الأقاليم وصالات عرض للفنون وبينالي للفن الأفريقي وتأهيل مؤسسة الدولة للإنتاج السينمائي، إلخ. وكان التقدير الأولي لميزانية الدائرة التي قدمتها اللجان المتخصصة في حدود الأربعمائة وخمسين ألف جنيه لسنة مالية توظف بناءً على دراسات مفصلة للمقترح ومطلوبات تنفيذه أو بعض جوانبه. لكن، بما أن هذه المشاريع والبرامج وميزانياتها لم تكن لتتطابق مع مفهوم السلطة السياسية لهذا المجلس والغرض منه فقد تجاهلها صناع القرار باعتبارها "غير واقعية". وبدا جلياً أن هذه المشاريع سوف تكلف السلطة السياسية قدراً من المال هم أحوج إليه في مهام ومواقع أخرى "أهم وأجدى" من الشأن الثقافي والفني. وفي الواقع، لا يمكن لسلطة سياسية أهم مقاصدها مرْكزة هذه السلطة والهيمنة الدائمة على الدولة، وغاية أجندتها الثقافية إخضاع الثقافات السودانية الأخرى وقولبتها أن تنشىء مؤسسات قومية بالمعنى المقصود في هذه الكلمة. لم يتغير الحال بالطبع في فترة الديموقراطية الثالثة، أما في عهد الإنقاذ فقد تحول المجلس إلى خرابة ضمن جموع الخرائب التي خلفها حكم الحركة الإسلامية، فالإستثمار في الثقافة عندها، في أفضل ظنها، رجس من عمل اليسار والعلمانيين، وفي أسوأ ظنونها مجال كاسد لا يعرف مداخل المال ومخارجه.
والآن، من البديهي أن تشير قوى الحرية والتغيير في برنامجها الإسعافي حول الثقافة إلى تغيير قانون المجلس، فأي قانون للمجلس يصبح "دستوراً" يؤسس لقومية المؤسسات الثقافية ويحدد رسالتها ويحصّنها من سطوة السلطة السياسية. وربما المطلوب من المجلس في ظل الوضع السياسي الراهن وحدثه المتحرك تنظيم سلسلة من الورش بدايتها وضع أجندته للفترة الإنتقالية وعلى رأسها تحديد المحاور والأسئلة الأساسية في قضية الثقافة والخطوط الرئيسية في الإجابة عليها بما في ذلك وضعية المجلس ومهامه كمؤسسة قومية، وبذلك تتوفر مادة مرتبة لمداولات المجلس التشريعي المرتقب والذي يهيئ، إذا صح إفتراضنا، مثل هذه القضايا الكبرى للبت بشأنها في المؤتمر الدستوري، فإدارة الشأن الثقافي والتشريع له ليس بمعزل عن هوية الدولة السودانية وهيكلتها. وللمجتمعات السودانية، حضَرها وريفها، حظ تاريخي وافر في إدارة شأنها الثقافي وترقيته رغم ضنين الدولة بل وتعديها على إرثهم، لكن في ظل متغيرات العصر والتحولات الجارية على المستوى القومي والعالمي يلزم أن تقوم الدولة بدورها في رفد المنظومة الثقافية في مجملها بكل ما يسهم في إثرائها. أن تسهم في خلق وتدعيم مؤسسات وقنوات ومنصات النشاط الثقافي في كل ميادينه في كل ربوع البلاد وتترك فعل الثقافة ومزاولته لأهله، كل في داره، عندئذ فقط سيطمئن الجميع إلى أنهم شركاء أصلاء في هذه الدولة.

abusabib51@gmail.com
////////////////

 

آراء