بغض النظر عمَا إذا كان انحياز المؤسسة العسكرية فرية أو حقيقة فالثابت أننا لم نخسر عبر تلك التسوية فقط استيلاد سلطة من طينة زخم الثورة الشعبية العارمة، بل أكثر من ذلك أننا أضعنا روح الثورة ووهجها. كلما نتج عمًا دار في غرف التفاوض لا يشبه غير جنين مشوه لزخم الحراك الجسور النبيل. أبعد من ذلك أننا أجهضنا كذلك فرصة إستبدال ثقافة رثَة بالية بثقافة زاهية بدأ شباب الثورة في نسج قماشتها. ربما جاء فض الإعتصام الشجاع صادماَ كما هو مباغت لكنما ذلك لا يبرر المحاق قاصم ظهر طموح الجماهير في إنجاز أنتصار إستثنائي حاسم على غير جبهة واحدة..
ربما كانت السلطة الوليدة متسقة مع هشاشة هيكل الثورة التنظيمي لكنها أبعد ما تكون عن إرادة الجماهير ونهمها إلى التغيير. نحن نلج الشهر الثالث وليس في أيدينا باقة إنجاز تحرَضنا على الزهو.نعم ،كثير من الأماني يتم التعبير عنها بصوت جهور لكن ليس على الأرض زرع يبشر بدنو موسم قطاف. مع ذلك عوضا عن نشر التيئيس والهزيمة ينبغي تهيئة البيئة لبث الوعي وزرع الآمال بقدرتنا على الإنجاز. تلك هي روح الحراك الجماهيري إبان توقده. غير أن ذلك يستوجب تحقيق شرطين من أجل فض الإشتباك مع حالة اليأس؛ أولهما الإعتراف ثم إستيعاب مدى التباين بين السقوف العالية لطموحات الجماهير وتدني مستوى غالبية الجالسين في كابينات القيادة المتعددة. ذلك إعتراف لا يقدح في مؤهلات القيادات الحالية لكنه يعري افتقارهم إلى خوض معارك نضالية عجمت عيدانهم على نحو يلائم مجابهة بل تعدي التحديات الماثلة عند المنحنى التاريخي الراهن. كما يبدو ضعف مخزون بعضهم من تجارب العمل القيادي الجسور المبدع.
ذلك قد يبدو حكما قاسيا ، ربما يعتبره البعض تعميما جائرا لكنما نظرة متأنية متأملة موضوعية متعمقة في الواقع المنبلج عن الثورة تكشف دونما عناء جوهر مسببات ما يكتنف الأجواء من الإحبا ط الرابض فوق الأعناق. هي نظرة تعززها نوبات التردد من قبل قيادات تفتقد إلى الصلابة في المواجهة والجرأة على الحسم فتلجأ إلى التأويلات الملتبسة . ضد من امتشقت الجماهير أسلحة الجسارة نحوا من أربعة أشهرإن لم يكن هناك من استحلب الدولة لغير الصالح العام مما يقتضي ذهابه دونما وحساب ؟
أما الشرط الثاني فهو الإعتراف ليس فقط بوجود أعداء للثورة في مواقع تتيح لهم عرقلة تقدم السلطة الوليدة بل وجود ثورة مضادة تتمظهر في أشكال متباينة لأ ينقصها غير الإنقضاض بغية استرداد نفوذها غير منقوص. بلى ، انتصار الحراك الجماهيري حسم معركة مع القوى الظلامية الجاسمة على صدر الشعب ثلاثين عاما، لكن ذلك الإنتصار لم يحسم قضية الصراع على السلطة بين قوى التقدم وجيوش التخلف.هي جيوش ليست في طور الكمون بل في حالة تربص تتصيد لحظة الإنقضاض المواتية.
لهذا من غير المنطقي حديث البعض عن عدالة متوهمة تبقي أعداء الثورة في مواقعهم المكتسبة بغير حق .لهذا لايستقيم الحديث عن عدالة مثالية خارج أطر الصراع المكشوف والمستتر على السلطة . لهذا لاتبدو عقلانية المناداة بالمصالحة بينما موازين الصراع لم تقرر بعد أي المعسكرات أشد قوة وأصلب عودا. النداء يوجه إلى سارقي السلطة وأقوات الشعب وناهبي خيرات الوطن بالإعتذار العلني المغلظ عن كل الجرائم المقترفة على مدى ثلاثة عقود عجاف إعتاش فيها الشعب على سنابل يابسات بينما انفرد أهل المؤتمر وأذنابهم بالبقر السمان.
لابد من إبقاء جذوة دروس الثورة مشتعلة بغية فض الإشتباكات الراهنة. أبرز تلك القيم المستقاة يتجسد في وحدة فصائل الثورة متماسكة متحدة من أجل الخلاص. كل محاولة للتخذيل والتثبيط والتجزئة من داخل معسكر الثورة تصب بالضرورة لصالح أعدائها . نعم تتباين الرؤى لكنما الوحدة تظل أكثر أسلحة الثورة مضاء بحيث ينبغي الإحتفاظ اليقظ بها والحفاظ الدائم عليها .
من غير المسموح إحداث أي خرق في أطرها أو فتح أي ثغرة للخروج عليها . على مستوى الوعي تأتي قدرة القيادات المتمرسة على إبقاء قدرات الجماهير وحماسها متأهبة في سبيل فض الإشتباكات الماثلة ثم عبور عقبات عقبات العمل الوطني ونكسات البذل الثوري.
نعم ، ثمة رخاوة في الأداء الحكومي فيما يتصل بأماني الثورة وشعارات الحراك الجماهيري. بلى، هناك عدم رضاء تجاه هيمنة العسكر على المشهد السياسي. هذا بالضبط ما يجعلنا نقرع أجراس الإنذار قبل الإصطدام بعقبة تبدو كأداء. ففي ظل التعثر خارج الروزمانة الزمانية لمهام السلطة الجديدة من غير المستبعد إتخاذ الجنرالات موقفا مباغتا يلج بنا نفقا من الإرباك يستنزف منا الجهد والوقت. أكثر مفاصل الأداء الحكومي هشاشة يتمحور حول تصرف السطة وكأنها تعيش أبدا بينما عمرها مؤطر بسنوات ثلاث .
لعل توقيت الإستبدال في كابينة المجلس السيادي يمثل فرصة لإختبار مدى صدقية إنحياز العسكر للثوار. هو إنحياز ملتبس بالشك والريبة لا يزال .ربما يأتي موعد الإختبار الحقيقي قبل ذلك الأوان. هذا ليس افتراء أو فرضية معزولة فوق مجرى الأحداث الظاهر منها والباطن. هو مصدر توجس داخل معسكر الثورة مثلما هو ورقة رهان في جيوب الثورة المضادة. معركة فض الإشتباكات أو كسر العظم قضية حتمية .عبر وحدة معسكر الثورة فقط يمكن الخروج إلى الأفق الوطني الأرحب.