من تاريخ العمل والرق بالسودان في عهد الحكم الثنائي Slavery in the Sudan بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الثالث والعشرين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution)، الصادر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه Constable & Company، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن (1861-1941) Percy F. Martin. ويتناول هذا الفصل تاريخ العمل والرق ومحاربته بالسودان في العقدين الأولين لعهد الاستعمار الإنجليزي – المصري. تناول الكثير من الكتاب الغربيين تاريخ الرق بالسودان، منهم، على سبيل المثال لا الحصر، تاج هارجي الذي قدم رسالة دكتوراه لجامعة أكسفورد عام 1981 عنوانها: "منع تجارة الرقيق في السودان بين عامي 1898 و1939م"، وهناك مقال لبيتر. ف. م. ماكلوقلين بعنوان:"النمو الاقتصادي وتراث العبودية في جمهورية السودان" ومقال لروبرت كولنز بعنوان: "من تاريخ الرق في السودان"، وآخر لهيذر شاركي عنوانه: "أهمية الرق وارتباطه بالرفاهية والمنزلة والمكانة الاجتماعية في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين". المترجم ************ ********** يعد الرق دوما في أفريقيا – كما في سائر أرجاء العالم – مظهرا وخاصية لازمت كل الحضارات القديمة. ومنذ أيام المنفى البابلي لليهود كان الناس يستعبدون الآخرين. بل كان البعض يعرضون أنفسهم للبيع – وبذا أبقى أفراد العرق العبري على حالة فقرهم الخاصة. وكان شراء وبيع الرقيق عادةً متأصلة في السودان من قديم. ومثلت تلك الممارسة التَالِدة معضلة أمام الاحتلال البريطاني بعد أن بدأ في حكم البلاد، ولم يكن من السهل عليه التعامل معها، وكان عليه أن يكون حكيما ومراعيا لعادات الأهالي، وفي ذات الوقت حازما وحاسما تجاه مسألة الرق، ولكن بصورة لا تثير نقمة الأهالي ولا تدعوهم للاحتجاج أو التمرد على الحكومة. وكان سير صمويل بيكر (ضابط رحالة وصياد مستكشف، عاش بين عامي 1821- 1893م، وحكم الاستوائية، التي كانت تضم جنوب السودان وشمال أوغندا. المترجم) قد قدر أنه كان هنالك نحو 15,000 سودانيا يعملون في تجارة الرقيق في عام 1867م. ولا بد أن عدد تجار الرقيق في سنتي المهدية الأخيرتين (1898 – 1899م) كان أكبر مما قدره بيكر في عامه ذاك. وفي السنوات التي تلت المهدية لاقت حكومة العهد الثنائي صعوبات جمة بسبب عملياتها الهادفة لمنع تجارة الرقيق. وكتب الرائد رافينسكروفت، أحد المفتشين البريطانيين العاملين في غرب السودان في عام 1906م أن العرب "ما زالوا يسرقون ويشترون الرقيق من النوبة. ويقوم النوبة أنفسهم ببيع بعضا من أولادهم ممن لا أولياء لهم ولا نصراء (مثل اليتامى الخ)، وأحيانا يسترقون من يأسرونه في حروبهم ضد قبائل الجبال الأخرى". وبالنظر إلى شيوع الرق وتجارته في السودان واستخداماته العديدة عند كثير من الناس، يمكن أن يُعد نجاح مجهودات الحكومة في منع الرق وكبح تجارته أمرا لافتا ومثيرا للإعجاب. وأنشأت الحكومة قسما خاصا (يتبع للسكرتير الإداري لحكومة السودان) اسموه "قسم الحرية" يختص بكبح تجارة الرقيق، وكان له عدد من المفتشين في مختلف أرجاء البلاد. وليس من العسير أن نفهم سبب سماح حكام السودان في السابق باسترقاق الناس، واعتباره أمرا طبيعيا، بل شيئا مثاليا محمودا. وقد سبق لفولتير أن قال بأن "العبودية قديمة قِدم الحرب، والحرب قديمة قِدم الطبيعة البشرية"، وهذا باب في الفلسفة يستحيل إنكاره. ويؤمن البعض بأن نوعا من العبودية "المعدلة" في بعض الأقطار ليس أمرا مستنكرا أو غير مرغوب فيه. غير أن ذلك بالتأكيد لا يصدق على نوع الاستبداد الوحشي الذي ساد في غضون سنوات حكم الأتراك والمهدويين، حيث انتشرت تجارة الرقيق، تلك التي وصفها القس البروتستانتي جون ويسلي (1703 – 1791م) بأنها: "جِمَاعُ كل الشرور المقيتة". وحال الخدم في السودان الآن ليس مختلفا عن حال الزنوج المسترقين العاملين في مزارع فيرجينا في سنوات القرن الثامن عشر. وعلى وجه العموم يعيش المخدمون والخدم (أرباب العمل والعاملين) معا في سعادة تامة وهم تحت ذلك النظام. وهذا بالطبع يختلف كليا عن حال من كانوا يُسمون بـ "العبيد" في ظل النظام الحالي، مقارنة بحالهم تحت حكم العرب، الذين ثبت أنهم ظلوا، منذ أزمان سحيقة القدم، يمارسون الرق وتجارته. أما الآن فليس على السوداني أن يظل مسترقا ليوم إضافي واحد (إلا إذا رغب في ذلك بنفسه). غير أن الحكومة تراقب وتغض الطرف عن نظام استرقاق منزلي "معدل وإنساني"، أو ما يمكن تسميته بـ "الخدمة المنزلية"، وتحرص دوما على أن يعامل "المُلاَّك" مسترقيهم معاملةً جيدة. وإن قام هؤلاء "المُلاَّك" في أي وقت من الأوقات بإساءة معاملتهم، فإنهم يفقدون خدماتهم (بحكم المحكمة). ولا شك بأن أي خادم منزلي أسود الآن يعلم عن القانون، وبمقدوره التقدم بشكوى لأقرب مكتب حكومي إن أساء "المالك" معاملته، وسيجد الإنصاف. أما المتاجرة في الرقيق، فقد غدت الآن من المستحيلات في الأجزاء المتمدنة من السودان، إلا إذا مارسها تاجر الرقيق في سرية بالغة تستعصي على الكشف. غير أن اليقظة والمراقبة اللصيقة التي تقوم بها السلطات الحاكمة الآن تجعل من المغامرة ببيع أو شراء الرقيق شديدة الخطورة والصعوبة، ولا يبدو أن هنالك الآن من يرغب في خوض مثل تلك المغامرة. غير أن أكثر حالات المتاجرة في الرقيق هي تلك التي تتكرر بوتيرة مثيرة للغيظ والانزعاج في المناطق الحدودية لدارفور. غير أن مركز تلك التجارة ما زال يقع في مناطق الحدود الحبشية، بدءًا من النقطة التي يدخل فيها نهر أتبرا مناطق الأمهرا إلى الأودية التي يعبر فيها النيل الأزرق والأنهر الجنوبية الحدود. وتقوم عصابات منظمة لقطاع الطرق في الحدود الحبشية بممارسة تجارة الرقيق، وليس هناك من سلطة مركزية فعالة بمقدورها منعهم. ويجوب هؤلاء مناطق السودان المتاخمة للحبشة - دون رادع - بحثا عن الغنائم والرقيق. وفي كثير من الأحايين تدور معارك صغيرة حادة بينهم وبين قوات الأهالي، مما ساعد على حفظ مناطقهم نظيفة وخالية نسبيا من هؤلاء المعتدين (الأحباش). غير أن بعض رجال القوات السودانية يقتلون في تلك المعارك. وبين وقت وآخر نسمع عن ضابط بريطاني عمل لأكثر من عامين في تلك المناطق البعيدة عن أي لمسة حضارية يقع ضحيةً وهو يؤدي واجبه في دفع رجال تلك العصابات. ولا يزال هنالك عدد كبير من المسترقين السودانيين يقبعون في أسر تلك العصابات الحبشية، ولا أمل في انقاذهم في ظل استمرار تلك العصابات في تعديها على السودانيين في المناطق الحدودية. وقامت حكومة السودان مؤخرا بإخلاء مساحات واسعة من تلك الحدود مع الحبشة من السكان، وبذا أضطر رجال العصابات الحبشية للتوغل في داخل مناطق السودان الإنجليزي – المصري بحثا عن الرقيق والغنائم. ********* ******* *********** كان السودان عند بدايات حكم الإدارة البريطانية – المصرية يعاني من قلة اليد العاملة المهارة. ورغم أن الوضع قد تحسن بعض الشيء مع مرور السنوات، إلا أنه ما زال بعيدا عما هو مطلوب. ويلزم السلطات أن تولي هذا الجانب قدرا أكبر من الاهتمام. وكتب الحاكم العام في عام 1906م في هذا الشأن ما مضمونه: "لا زالت أعداد العمال المهرة بالبلاد قليلة، وهذه مشكلة عويصة بالفعل. لقد بذلنا جهودا للتغلب عليها تمثلت في فتح مدارس فنية للأولاد، زودناها بالورش والآلات المناسبة. وهذا مما خفف من الأزمة بعض الشيء. غير أن احتياجات البلاد لخدمات مثل أولئك العمال تزداد باستمرار مع تطور البلاد، مما يجعل محاولاتنا لحل المشكلة تبدو وكأنها قليلة القيمة". وتبدو مشكلة قلة العمال المهرة أشد حدةً في الخرطوم، رغم الزيادة التي حدثت في الأجور بالمدينة. وأقيم مكتب للعمل، استفاد من خدماته بعض المخدمين الذي يرغبون في تشغيل عمال، غير أن ذلك المكتب لم يستطع قط أن يضبط سوق العمل والأجور فيه، وربما لن يقدر على ذلك أبدا. وكان سبب ذلك في الماضي هو توفر عدد كبير من التعاقدات الحكومية، غير أنه قد يعزا في الأيام الحالية للاستنزاف المستمر والمتواصل للعمالة غير المدربة في العاصمة. ولإنجاز كثير من المشاريع الكبيرة بالبلاد (مثل إنشاء خزان سنار على النيل الأزرق) اضطرت الحكومة للاستعانة بعمالة غير ماهرة من خارج حدود السودان. ووجدت الحكومة ضالتها في المساجين المصريين. ففي ديسمبر من عام 1913م جلبت الحكومة 1080 من المساجين المصريين في سجني طرة وأبو زعبل للعمل في أعمال الري بمشروع الجزيرة في سنار. ورغما عن بعض المشاكل التي أثارها نفر قليل من هؤلاء السجناء، إلا أن الغالبية العظمى منهم عملوا في هدوء ودون مشاكل تذكر. بل بدا هؤلاء في غاية الاستمتاع بعملهم (الجديد)، الذي كان يتضمن حفر الأرض وتنظيف المجاري والقنوات يوميا. وفي غضون السنوات القليلة الماضية لم تستخدم إلا قليلا خدمات مكتب العمل المركزي (وهو يعمل بمثابة وكالة توظيف للعمال). وعدت السلطات ذلك إشارة حسنة، إذ أن الاستعانة بخدمات مكتب العمل المركزي لم تكن تحدث إلا إذا شَحّت أعداد العاملين في سوق العمل، الذين كانوا يعينون عادة بالطرق التقليدية. وكانت أكثر خدمات مكتب العمل المركزي فائدةً هي توفير العمالة المنزلية للموظفين وغيرهم، وجلب عمالة لفرق رحلات السُيّاح والصيادين. وكان المكتب يحرص على الاحتفاظ بخدمات الرجال من ذوي الأخلاق العالية والخلق القويم والخبرة الشخصية. ويجب أن أقر هنا بما يبذله موظفو مكتب العمل المركزي من جهد في عمليات التحري عن المتقدمين للعمل، وحماستهم وذكائهم في التعامل مع مجموعة غير متجانسة (كثيرا ما تحوم حولهم بعض الشكوك) قدمت أنفسها للتسجيل في قوائم الباحثين عن العمل. وكان خدم المنازل ينالون أجورا أعلى (بصورة متناسبة) من الأجور التي ينالها الأوروبي في بلاده. فخدم المنازل السودانيين يقتاتون دوما مما يجدونه في منازل مخدميهم دون مقابل، أو يأخذون منه بالقدر الذي لا تحرمه عليهم عقيدتهم المحمدية. وكان العاملون وأرباب العمل يستفيدون من السجل المحفوظ في مكتب العمل المركزي للعمالة المنزلية. غير أن سوق العمل بالنسبة لهؤلاء كان في حالة بائسة من عدم التنظيم، بسبب أن بعض السُيّاح العاديين يوظفون – في مخالفة بينة للنصائح التي تقدم لهم – طباخين أو نُدُل لمجرد أنهم يعرفون بعض الكلمات الإنجليزية، أو لخبرتهم في الأسفار عبر مناطق البلاد المختلفة، بل ويمنحونهم، دون ضرورة، مرتبات عالية جدا. وقد تقود قلة الأيادي العاملة بالبلاد – خلا في فصل الشتاء – إلى التفكير في جلب عمالة من خارج البلاد. ورغم أنه هذا يبدو اقتراحا معقولا، بل جذابا، إلا أنه محاط ببعض المشاكل العملية العويصة. وقد تم بالفعل جلب عمال من صعيد مصر للعمل بعقود في السكة حديد بأتبرا، والكثير من الحمالين من اليمن للعمل في ميناء بورتسودان. وكان غالب من جلبوا للعمل بالسودان مجيدين لعملهم، ويتميزون بلين العريكة والأخلاق الحسنة، رغم أن السلطات وجدت أنه من العسير إغرائهم بالبقاء في السودان بصورة دائمة. وتتوقع الحكومة أن تحل مشكلة النقص في الأيادي العاملة تلقائيا في مقبل السنوات مع زيادة السكان، الذين يزداد عددهم بالفعل بصورة مرضية. وفي هذا الأثناء يقوم مكتب العمل المركزي بتحسين طرق عمله، خاصة بعد أن ثبتت مبررات وجوده raison d'etre. ويتوقع أن تزداد الاستفادة منه أكثر فأكثر مستقبلا. وكانت العمالة العادية موجودة بسهولة خارج العاصمة بأكثر مما هو متوفر فيها. فعلى سبيل المثال يكثر العمال في مختلف المهن في مديرية بحر الغزال، رغم أن بعض المشاريع التي أقيمت بتلك المديرية (مثل شركة المطاط) لا تزال لا تجد العدد الكافي من العمال في المديرية والمديريات المجاورة لها. ويتوقع أن تفضي زيادة الأجور إلى حل تلك المشكلة إلى حد ما. أما في مديرية بربر فقد كان بها عدد معقول من العمال، وفي مديرية النيل الأزرق كان عددهم عاديا. وليست في مديرية كسلا أي حاجة لعمالة إضافية من أجل مقابلة ما تعتزم الحكومة إقامته من خط للسكة حديد ومشاريع مروية. وغالب سكان هذه المديرية من ميسوري الحال من ثمار عملهم في الزراعة، وليسوا في حاجة ملحة لبيع خدماتهم. وزادت الأجور في مديرية بربر، مثلما حدث في مناطق أخرى. وكثير من سكان هذه المديرية (خص منهم "البرابرة Berberines". المترجم) يعملون في مجال الخدمة المنزلية في مختلف أرجاء السودان. وكان يعدهم الذين عاشوا في أوساطهم (مثل الرائد سير هنري م. هيل مدير مديرية بربر في عام 1906م) "قوم شرفاء يعتزون بأنفسهم، وهو أمر مثير للغرابة ويصعب فهمه عند الغربيين". وزاد في السنوات القليلة الماضية بكردفان، تلك المديرية الواسعة الممتدة، الطلب على العمالة منذ أن وصلت قطارات السكة حديد لعاصمتها الأبيض. وهذه المدينة هي مركز كبير لتجارة الصمغ العربي، وغالب الطلب على العمالة في المنطقة ينشأ بسبب هذا المنتج. وكان هنالك أيضا طلب أيضا على عمال في مهن أخرى كالبناء والصناعات الأخرى للحد الذي دعا لجلب العمال من الخرطوم، التي كانت تعاني هي الأخرى من قلة الأيدي العاملة. وكانت هنالك عمالة في مديرية منقلا (الواقعة في أقصى جنوب البلاد) بأكثر ما يمكن الاستفادة منهم. فقدمت إليها للعمل مختارةً أعداد كبيرة من الدينكا ورجال القبائل الأخرى من منطقة بور، بعد أن ازدادت ثقتهم في الرجل الأبيض، وعرفوا قيمة النقود التي توفر لهم الكماليات (التي لم يسبق لهم التمتع بها إلا مؤخرا). غير أن عددا قليلا فقط من هؤلاء القادمين أفلح في التأقلم على الأحوال في منقلا. فكان معظمهم يبقى لشهور قليلة، لا تزيد عن ثلاثة، ثم يغادرها عائدا لمنطقته. ثم تأتي مجموعة أخرى للعمل، وتغادر بسرعة وهكذا دواليك. وفي بعض الأحايين يعود الذي غادر منقلا سريعا، ليطلب العمل فيها مرة أخرى. وجدت مصلحة الأشغال العامة أن رجال الدينكا يصلحون للعمل في مهن الرعي والبستنة والأعمال اليدوية المختلفة. وكان الدخل الذي يجنيه الواحد منهم من هذه الأعمال قليلا (قرشين يوميا في المتوسط، يعطى العامل منها قرشا ونصف نقدا، ويعطى الباقي (نصف قرش) على شكل مادة عينية مثل رطلين من الذرة (الطعام الأساس لهؤلاء الناس). والمواد الغذائية زهيدة الثمن في هذه المديرية، وباستطاعة الرجل منهم أن يوفر أكثر من قرش ونصف من دخله اليومي، الذي يمكن أن يصل في بعض الحالات (عند عمال الطرق مثلا) إلى أقل من القرشين المذكورين. لم تنشأ في جبال النوبة مديرية منفصلة إلا في السنوات القليلة الماضية، إذ أنها كانت حتى عام 1912م جزءًا من مديرية كردفان. ولعل مديرية جبال النوبة هي من أكثر المديريات غِنًى بالأيدي العاملة غير الماهرة. غير أن النوبة والعرب الهُجُنٌ فيها يكدحون بشدة في سبيل كسب عيشهم. أي أنهم على استعداد دوما للعمل في أي عمل ينالون عليه أجرا. فالواحد من النوبة يمكنه العمل لساعات طويلة في المزارع وفي رصف الطرق مقابل قرشين في اليوم. وتتوافر في هذه المديرية الأيدي العاملة بلا شك. غير أن الرجال في هذه المديرية (من النوبة والعرب الهُجُنٌ) لا يعملون دون ملاحقة أو ضغط - والضغط وحده لا يجدي، على كل حال. ولكن يعمل هؤلاء بصورة جيدة عند الضغط مع المراقبة والاشراف المناسبين. وكانت العمالة في مديرية البحر الأحمر (التي يوجد فيها ميناء بورتسودان ومشروع طوكر لزراعة القطن) متوافرة طوال العام تقريبا. غير أن الطلب على العمال يزداد بعد سبتمبر من كل عام (أي بعد انتهاء بذر بذور القطن وانخفاض مستوى الفيضان). وفي "موسم القطن" هذا يصعب الحصول على أعداد كافية من العمال لنظافة الأرض من الحشائش الغزيرة وتحضيرها للزراعة. ويلجأ المسؤولون في المديرية إلى مكتب العمل المركزي بالخرطوم للمساعدة في توفير أعداد معقولة من العمال. وعادة ما تكون الأجور في "موسم القطن" عالية جدا، وقد تصل ما بين 10 و14 قرشا في اليوم. ويمارس العمل في ذلك الموسم الرجال والنساء والأطفال. وبإمكان العامل المتوسط الأداء أن يلتقط ما بين 40 إلى 50 رطلا من القطن. وعند تشغيله لزوجه وأطفاله، يمكن للرجل أن يجني نحو 10 إلى 15 قرشا في المتوسط. وكان أفضل العمال لمثل هذا الشُّغْل هم العمال المحليون، وهم يبزون العمال الذين يأتون من خارج المديرية، الذين كانوا لا يجيدون التقاط القطن، ولا يُشغلون إلا كملاذ أخير un dernier ressort. تبدو مديرية سنار للزائر الذي لا يعلم الكثير عن السودان واحدة من أهم المديريات التي تضم أكثر شعوب السودان همةً وكدحاً. وإن قُدر للزائر في عام 1912م أو العام التالي له أن يبلغ معسكر السيد هنري اس. ويلكم في (جبل موية) على سبيل المثال، فسيرى نحو 3,000 رجلا وصبيا سودانيا، مع مئة رجل أوروبي أو مصري من الإداريين أو الفنيين، وهم يعملون بجد واجتهاد لمدة نصف عام كامل. وسيرى الزائر أيضا على بعد 28 ميلا من تلك المنطقة، نحو 1,080 من المسجونين المجلوبين من مصر وهم يحملون على أكتافهم التراب من أعمال الحفر التي كانوا يقومون بها على ضفاف النيل الأزرق ضمن عملية بناء مشروع مروي حكومي ضخم سيقام بالمنطقة. غير أن الحرب الأوروبية في عام 1914م، وما خلفته من آثار اقتصادية وغيرها أوقفت العمل في المعسكرين المذكورين. وسيستأنف العمل فيهما بلا شك عندما تضع تلك الحرب أوزارها. وليس في سنار نفسها عدد كافٍ من العمال. فرغم ارتفاع الأجور، إلا أن الأهالي لا يجدون العمل في المدينة جاذبا، فهم يؤثرون الرعي أو الزراعة والحصول على ما يسد رمقهم فحسب، وليس لهم طماح في كسب المزيد من المال. وُجد على مر السنين الماضية أن سوق العمل بمديرية أعالي النيل كان ضعيفا، ربما بسبب تذبذب الأجور. غير أن هذه المشكلة قد حُلت الآن بتثبيت السلطات للأجر اليومي للعامل. وأغلقت مصانع شركة سودايت (Suddite) أبوابها بسبب نقص التمويل. وهذا مما جعل هنالك فائضا في العمالة بالمديرية يفوق الطلب. ولا يمكن أن يُعد العمال في هذه المديرية عمالا مجيدين لعملهم، وقلما يمكن الاعتماد عليهم. وغالبا ما يأتي للعمل في هذه المديرية عمال من الخرطوم أو المديريات البعيدة الأخرى. لقد أجبر فشل موسم الحصاد في مديرية النيل الأبيض (الذي أدى لارتفاع أسعار المواد الغذائية) الأهالي بالمديرية على طلب العمل، ولم يكونوا يطلبونه من قبل، والطلب على العمالة يساوي تقريبا المعروض منها. غير أن نوعية العمالة هنا ضعيفة أيضا.