الظروف القاهرة والإستثنائية المعينة التي من أهمها حقن دماء الشباب التي سالت في الشوارع،وغفلة وأخطاء من كانوا في موقع قيادة الثورة، فرضت شراكة العسكريين في سلطة الثورة بعد ولادة قيصرية عسيرة تمخضت عن المجلس السيادي،الجنين المشوه أو مجلس الأمر الواقع. نفس الظروف جاءت بالسيد الفريق عبدالفتاح البرهان على رأس هذا المجلس السيادي وفقا للوثيقة الدستورية وارتضي به وبزملائه العسكريين شركاء في الحكم رغم أن قدراتهم لا تؤهلهم مجتمعين لإدارة مصلحة حكومية أو حتى مدرسة ثانوية، فكل ميسر لما خلق له. تظل شهية العسكريين بحكم التعود مفتوحة لا تشبع للسلطة باي صيغة من الصيغ وبأي ثمن. تجسدت شهية الحكم هذه بوجهها القبيح في بيان أصدرت القوات المسلحة السودانية المؤيد لاجتماع البرهان إلى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في العاصمة اليوغندية كمبالا.هذا البيان الذي لا يليق ولا يصدر من جيش منضبط يعود بنا مرة اخرى لمتلازمة الإنفلات العسكري والتطفل على الشأن السياسي، وهو التطفل الذي اقعد البلاد وعطل مسيرتها وقدراتها وعقلها لأكثر من نصف قرن من الزمان، وهي سنوات الحكم العسكري في السودان التي لا تماثلها سنوات حكم عسكري آخر في عموم قارات الدنيا وليس افريقيا وحدها..لكن لنعد للبدايات.
الجيش السوداني منذ بداية العسكرية السودانية الحديثة،أي بعد الفتح الانجليزي المصري في 1898م، لم يسبق له أن أطلق رصاصة واحدة طوال تاريخه دفاعا عن الوطن. كانت كل حروبه ضد أبناء جنوب الوطن، وهي حروب عبثية ظالمة أفضت إلى إنفصال أبناء الجنوب وقيام دولتهم باسم جنوب السودان،وحروب إبادة أخرى ضد أبناء الوطن في دارفور وجبال النوبة والجزيرة ابا وود نوباوي. شارك الجندي السوداني في حروب خارجية لا ناقة له فيها ولا جمل. في 1863 شاركت كتيبة سودانية في الحرب ضد الفرنسيين في المكسيك بحوالي 400 جندي واستوطن من بقي من الكتيبة على قيد الحياة في المكسيك والذين يسكن أحفادهم اليوم في الحي الذي يعرف بالحي السوداني في العاصمة المكسيكية نيو مكسيكو. أصل الكتيبة جنود او رقيق جلبهم حاكم مصر محمد علي من السودان لدعم جيشه. البطولات التي حققتها الكتيبة السودانية في حرب المكسيك كما يحكي بعض المؤرخين وحرب المكسيك نفسها لا تضيف شيئا للوجدان السوداني . تماما مثل بطولة الزبير ود رحمة (الزبير باشا) في حرب القرم 1877م مع التي جاءها من سجنه في جبل طارق لينخرط جنديا في جيش السلطان العثماني في حربه ضد روسيا القيصرية. رتبة الجندي التي حملها الزبير ود رحمة لا تمكن من تحقيق البطولات التي رواها بعض المؤرخين عنه في تلك الحرب. شارك الجنود السودانيون في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء في حربهم ضد دول المحور(اليابان،ألمانيا وإيطاليا) مثل سائر جنود المستعمرات. من المستعمرات البريطانية شارك إلى جانب السودانيين وفي مواقع مختلفة الهنود، البورميون، الكينيون،الخ. وإلى جانب فرنسا قاتل الجزائريون، السنغاليون، الخ. كلهم،مثل السودانيين، قاتلوا بالوكالة في حرب لا تخصهم ولا تشكل مصدر فخر لهم في تاريخهم الشخصي ولا في تاريخ بلدانهم. جنودنا أدوا واجبهم كجنود محترفين في قوة دفاع السودان فقاتلوا الإيطاليين في كرن وقاتلوا الألمان في الكفرة، وانطلقت الأغاني التي تشيد ببطولاتهم في الحرب التي خاضوها نيابة عن المستعمر، فسمعنا أغنية (الفتحوا كرن يجوا عايدين يا الله).. و(الكفرة نيرانا زي جهنم). الحرب الخارجية ذات البعد الأخلاقي الوحيدة التي شارك فيها الجندي السوداني كانت حرب فلسطين 1948 ضد اليهود بغض النظر عن الاستعلاء الفلسطيني الكاذب الذي يمارسه بعض (إخوتنا) الفلسطينيين علينا عقب لقاء البرهان ونتنياهو.إنتهت هذه الحرب مثل سائر حروب العرب ضد إسرائيل بهزائم عربية متكررة. يذكر التاريخ،ولكن باستحياء شديد، البطل السوداني الأميرألاي سيد محمود طه الملقب بالضبع الأسود وضبع الفالوجة والذي كان قائدا للجيش الرابع المصري والذي صمد أمام الحصار الإسرائيلي في الفالوجة وصمد حتى توقيع اتفاقية الهدنة بين العرب واليهود. كان الضبع الأسود السوداني النوبي قائدا لجمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وزكريا محي الدين، ولكنهم عادوا بعد الحرب ونسبوا إليه الجنسية المصرية واختفى أسمه أو كاد أن يختفي من اضابير التاريخ. يرتبط تاريخ العسكرية السودانية الحديثة ببداية الحكم الانجليزي المصري في سبتمبر 1898. بدأ الأمر بقوة صغيرة من عناصر سودانية كانت ملحقة بتلك القوات الفاتحة،ولكن لم تفتتح مدرسة حربية لتخريج ضباط أكفاء إلا عام 1905. ظلت هذه المدرسة تخرج الضباط حتى قامت ثورة 1924 ضد حكم المستعمر، وكان العنصر الأوضح والأهم في تلك الثورة السودانية المسلحة هم ضباط جيش عاملين ومتقاعدين، فقرر حاكم السودان العام يومذاك إغلاق الكلية الحربية عقاباً وإرهاباً، وبهذا توقف باب تأهيل المزيد من السودانيين. وبعد عامين أو نحو ذلك أعيد افتتاح الكلية في 1925 وأنشئت قوة دفاع السودان. الاستيعاب للكلية الجديدة كان من بين أبناء الطبقات الوسطى والثرية والقبلية. اتخذت الكلية الحربية نهجا جديدا من حيث شروط الإستيعاب والمناهج، بهدف إعادة تكوين وغسل دماغ طالب الكلية الحربية حتى لا تتكرر تجربة ثورة 1924. يبدأ غسل الدماغ بعزل الطالب الحربي من مجتمعه لعدة أشهر، يضخ خلالها في مخيلته تصنيف مجتمعه ل(عساكر) و(ملكية)، وأن العساكر بالضرورة متميزون فطريا عن الملكيين أيا كانت قدرات ومؤهلات هؤلاء الملكيين، وانتشرت التعابير السالبة التي ترسخ هذا الانفصال المجتمعي. وسرعان ما انعكس ذلك في المذكرة المطلبية التي رفعها كبار ضباط الجيش السوداني لأول حكومة سودانية في 1954 وقد أورد الكاتب المؤرخ محمد خير البدوي في كتابه عن العسكرية السودانية نص هذه المذكرة والضباط الموقعين عليها وكانوا يمثلون قيادة الجيش. كانت تلك المذكرة المطلبية كارثة حقيقية ونذير شؤم بأسوأ قادم،وقدم فعلا، لا محالة. تصرفوا كمرتزقة وليس كعسكريين مهنيين منضبطين في جيش نظامي فالجيش المنضبط لا يعرف المذكرات المطلبية مثل النقابات. هو ليس نقابة مسلحة. طالبت تلك المذكرة المتعجلة الخالية من روح الانضباط والجاهلة بطبيعة المرحلة، طالبت الحكومة الانتقالية الجديدة والتي لم يتجاوز عمرها الأسابيع، بزيادة رواتب الضباط وتحسين شروط خدمتهم لأن الضباط لهم وضع خاص يفرض عليهم المحافظة على مظهر نظيف متميز وإلى آخر ذلك من المبررات التي اختار مقدموها توقيتا سيئا لتقديمها وكأنما غيرهم من أبناء وطنهم المعلمين والاطباء والمهندسين وغيرهم غير مطالبين بالمظهر النظيف المتميز. عملية العزل وغسل الأدمغة تلك كان لها دورا كبيرا في تضخيم الذات عند بعضهم كنموذج عبدالماجد حامد خليل، وإفراز نوعية من الضباط قليلة الذكاء كالتي طغت على المشهد في أيامنا هذه.لا شك أن الانقلابات العسكرية المتكررة وسنوات الحكم العسكري الطويلة (52 سنة منذ مطلع الاستقلال) قد أضرت كثيرا بالعسكرية السودانية من حيث الإخلال بقواعد الإنضباط وانغماس الجيش في السياسة من خلال ممارسته الفعلية للحكم، وإفراغ الجيش من الكفاءات والخبرات العسكرية.تم إبعاد أعداد كبيرة من الضباط من الخدمة العسكرية وإلحاق أعداد كبيرة منهم بوظائف مختلفة في الخدمة المدنية بعضها وظائف قيادية، فأصبح الضرر مضاعفا، حرمان البلاد من خدمة وخبرة الضابط الذي أنفق الوطن الكثير على تأهيله العسكري على مدار السنين في مجاله العسكري وهو الذي الذي يحسنه،وقيمة المرء فيما يحسنه.من جهة أخرى ألحق ضرر كبير مستمر بالخدمة المدنية بتوظيف الضابط في وظيفة مدنية لا يحمل أدواتها ولا يحسن القيام بواجباتها بطبيعة الحال.عملية العزل وغسل الأدمغة هي التي تجعل بعض العسكريين يرددون أنهم يخاطرون بحياتهم من اجل الوطن تبريرا ما يوفر لهم من تميز وظيفي وكأن هذه المخاطرة بالأرواح مقصورة على العسكرية السودانية وحدها .كل مهنة لها مخاطرها.الطبيب الذي يؤدي عمله وسط الأوبئة والأمراض، الطيار الذي يظل محلقا معظم ساعات حياته المهنية في الجو، المهندس، الخ. الإنقلابات العسكرية المتكررة وسنوات الحكم العسكري الطويلة خلقت من جهة أخرى تمايزا بينا في راتب ومخصصات العسكري وراتب مخصصات غير العسكري أو (الملكي) كما يسمونه فأصبح، على سبيل المثال لا الحصر، طالب الكلية الحربية يركب في الدرجة الأولى المجانية في السكة الحديد بينما كان معلمه الشاب في المدرسة الثانوية قبل أشهر قليلة، يركب الدرجة الثانية على نفس القطار، وقس الأجور على هذا النهج. كل حكم عسكري يقوم برشوة العسكريين من أجل التمكين والبقاء. وامتد شراء الولاءات لتمليك العسكريين المساكن والبيوت المحمية الزراعية، وانفتح باب الفساد واسعا أمام ضعاف النفوس،وهم كثر، من كبار العسكريين في ظل نظام الإنقاذ. وكل مرة تتكشف وقائع جديدة من عمليات الفساد الذي غمر المؤسسة العسكرية. أسوأ ما فساد العسكريين أنه فساد مسلح. وتبقى الفشقة وحلايب وشلاتين دائما خارج الحسابات. حذر بعض العسكريين أكثر من مرة من استفزاز الجيش. الاستفزاز يقود للقتل كما حدث في مذبحة ساحة الاعتصام التي تقع مسؤوليتها على الجيش والمن وكتائب الظل والدعم السريع. كل له نصيب قل أو كثر. عجبت لهم! يستفزهم مجرد كلام (الملكية) ولايستفز فيهم شيئا العلم المصري الذي يرفرف في حلايب وشلاتين ولا يستفزهم الإستيطان الاثيوبي في الفشقة. هذه الخلفية هي التي دفعت السيد الفريق عبدالفتاح البرهان أن يتجاوز كل صلاحياته وواجباته ويجتمع برئيس الوزراء الإسرائيلي ويركب مكنة رئيس جمهورية ومكنة زعيم ويركب ايضا مكنة الخليفة عبدالله ود تورشين كما ذكر احد الصحافيين الشرفاء ويتصرف وفقا لذلك في تحد مباشر لشركائه في الحكم وللثوار واستنهاض للجيش ليصبح حزبا مسلحا من جديد. من يقرأ الواقع الماضي والحاضر جيدا ويقرأ المستقبل بعقل مفتوح وعيون بصيرة لا بد وأن يصل إلى الإقرار باستحالة وجود حكم عسكري في السودان وأن تكلفة المحاولة ستكون أنهارا من دماء (الملكية) والعسكريين. الجيش السوداني،وغني عن القول أنه يتكون من أبنائنا وإخوتنا وأبناء وطننا، يحتاج بالضرورة وأكثر من أي وقت مضى،ولكي لا يتحول لنسخة من جيش ميانمار، يحتاج لإعادة هيكلة وإعادة تأهيل عسكري وأكاديمي وقيمي، ويحتاج على وجه الخصوص لبناء عقيدة جديدة ليصبح جيشا منضبطا خادما وحاميا للشعب، وليقوم بدوره الأساسي والوحيد وهو حماية الوطن وأمنه وحدوده والحفاظ على سلامة المواطنين،وهي ثوابت وبديهيات ظلت مغيبة طوال سنوات الحكومات العسكرية الطويلة. قبل الختام: يمين يا بلدي تنتصري وتبقي عظيمة تزدهري (عبدالله علقم)