غنَّاينا مات … رحمهُ الله !!

 


 

 

 

 

Khaldoon90@hotmail.com

انتقل إلى جوار ربه مؤخراً ، الفنان الكبير ، والمطرب القدير ، ذو الطلعة البهية ، والصوت الشجي ، والأداء المُعجِب ، والحضور الأخّاذ ، الأستاذ عبد العزيز المبارك ، له من الله جزيل الرحمة وواسع المغفرة.
لقد كان عبد العزيز المبارك هو فنان جيلنا بامتياز ، ذلك بأنَّ نجمه قد بزغ في سماء الفن والإبداع ، في حوالي منتصف سبعينيات القرن الماضي ، ونحن آنئذٍ صبية أيفاع في المرحلة المتوسطة ، التي كانت تُعرف في عهد دراستنا بها بالثانوي العام ، ثم واكبنا مرحلة انطلاقه بقوة ، وازدهار عبقريته الغنائية الفذة ، طوال مدة دراستنا بالمرحلة الثانوية في أواخر سنوات السبعين من ذلك القرن ، عندما كان هو وصنوه الفنان الراحل " خوجلي عثمان " كفرسيْ رهان في التنافس الفني الحميم والمشروع ، الذي أفادت منه – بكل تأكيد – الساحة الغنائية آنئذٍ أيَّما فائدة ، وكانا بحق ، مُطربيْ بضعة مواسم متتالية غير مُدافَعيْن.
أما الفنان عبد العزيز المبارك ، فقد كان كوكباً ساطعاً ، وأيقونة مُبهرة ، تهفو الأسماع والقلوب إلى ألحان أغنياته وموسيقاها ، وإيقاعاتها الراقصة الطروبة ، وخصوصاً طريقة أدائه الخلاَّبة التي كان يضفي عليها المزيد من التألق والجاذبية ، سمت ذلك الفنان النجم بقامته الفارعة ، ووسامته الظاهرة ، ومظهره الشبابي المتوثب ، والمتناغم مع تقليعات تلك الحقبة ، بما في ذلك شعر الرأس الكثيف ( الخُنفُس ) ، والمُرجَّل – مع ذلك – بعناية ، دون أن ننسى حُسن هندامه وأناقته التي تجاوزت شخصه ، لكي ينداح تأثيرها على سائر شباب وفتيان تلك الحقبة في السودان ، فكأنَّ تأثيره على المجتمع في هذه الناحية ، ممن الممكن تشبيهه – إلى حدٍّ ما – بتأثير الفنان الذري ( إبراهيم عوض ) ، في شباب خمسينيات ومطالع ستينيات القرن العشرين.
وللتدليل على صحة ما ذهبنا إليه هاهنا ، فلعل الكثيرين من شباب ذلك الزمان الذين صاروا كهولاً اليوم ( تصوَّر ! ) ، ما يزالون يتذكرون تلك السهرة التلفزيونية التي استضاف فيها الأستاذ الراحل " متوكل كمال " الفنان الشاب آنئذٍ عبد العزيز المبارك ، وقد اعتلى خشبة الاستديو وهو يرتدي قميضاً إفرنجياً غير تقليدي التصميم ، ولافتا للنظر حينئذٍ ، إذ زانته حزمة من الخطوط الأفقية العريضة من أعلاه. وقد صادف أن ارتبط ظهور عبد العزيز المبارك بذلك القميص الجرئ التشكيل في تلك السهرة ، بأدائه لأغنية " تحرمني منك " لأول مرة. فما لبث أن أطلق الناس على ذلك النوع من الأقمصة ذات الخطوط الفريدة وغير المسبوقة في حينها ، اسم " تحرمني منك ".
وقد انتشر هذا الاسم لذلك القميص في سائر أنحاء السودان انتشار النار في الهشيم ، وطفق الشباب والصبيان في جميع مدن البلاد وقراها ، يحرص كل واحد منهم على اقتناء قميص " تحرمني منك " ، مهما كلفه ، أو بالأحرى مهما كلف والديه من ثمن ، وذلك من جرَّاء التأثير الطاغي لذلك الفنان النجم المتألق.
والشيء بالشيء يُذكر ، عندما كنا طلاباً بمدرسة خورطقت الثانوية في تلك الحقبة ، مرَّ علينا شتاء ذو برد قارس مثل هذه الأيام في السودان أو أشد. فاستنجد مدير المدرسة آنئذٍ ، أستاذنا المربِي الفاضل " إبراهيم آدم الدين " عليه رحمة الله ، وهو من الدفعات الأولى من خريجي طقت نفسها ، بابن دفعته بذات المدرسة ، ووزير التجارة والتموين عصرئذٍ ، البروفيسور محمد هاشم عوض طيب الله ثراه ، فتبرع لنا بألف بطانية لتقينا من شر ذلك البرد. وقد تصادف أن كانت تلك البطانيات حمراء اللون ، وعلى طرف كل منها خطان أسودان أُفقيان ، فأسميناها هي الأخرى: " بطانية تحرمني منك " أيضا.
لقد تجلَّت موهبة المطرب عبد العزيز المبارك في فن الغناء ، في الأداء الممتاز بالدرجة الأولى ، إذ لم يُعرف عنه أنه قد لحَّن شيئا من أغنياته. وقد شبهه الأستاذ الكبير والفنان الشامل السر أحمد قدور مُحقّاً ، عندما استضافه في إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني الرمضاني الشهير " أغاني وأغاني " على ما أذكر ، بأنه شبيه فنان مبدع آخر من أساطين فن الغناء الحديث في السودان ، هو المطرب ذائع الصيت عبد العزيز محمد داؤود ، الذي لم تُؤثر عنه ملكة التلحين هذه ، فاستعاض عنها بالأداء الرائع ، والصوت الشجي. وكذلك كان سميُّه عبد العزيز المبارك.
والحق هو أن ليس كل مغنٍّ مبدع ناجح ومشهور ، يلزمه أن يكون ملحناً لأغنياته ضربة لازم ، لا بين القدامى ولا المعاصرين. فهاهي سيدة الغناء العربي " أم كلثوم " – على سبيل المثال – لم تلحن أي عمل قدمته ، كما هاهو فنان الشباب المعاصر عندنا في السودان ، الراحل " محمود عبد العزيز " ، على ما كان يمتاز به من أداء مبهر ، وصوت طروب ، إلا أنه لم يقم بتلحين أي عمل من أعماله التي ظلت مسيطرة على الساحة الغنائية في السودان سيطرة شبه تامة ، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، وحتى تاريخ وفاته في عام 2013م.
وهكذا تنقَّل الراحل عبد العزيز المبارك كيعسوب نشوان بين أزهار ألحان متنوعة ، مختلفة الألوان ، وشذية الأريج ، ولكن أريجها ذاك ، قد تضوع وازداد ألقاً وبهاءً حقاً بفضل أدائه الرائع ، وإحساسه الجميل والشفيف ، بجرس الكلمات ومضامينها على حدٍّ سواء. فكانت – على سبيل المثال – أغنية " طريق الشوق " التي أهداها إليه الفنان الكبير الطيب عبد الله كلماتٍ ولحناً ، وأغنية " ليه يا قلبي ليه " من كلمات الدكتور علي شبيكة وألحان السُني الضوِّي ، وأغنية " يا عزَّنا ويا حبنا " من كلمات الشاعر الكبير إسحق الحلنقي وألحان الراحل الفاتح كسلاوي ، وأغنية " ما كنت عارف " من ألحان الأستاذ عمر الشاعر.
هذا ، وعندي أن بيت القصيد اللحني والموسيقي والأدائي في أغنية " ما كنت عارف " بالذات ، هو ذلك الحوار المدهش بين آلة البيز جيتار وسائر آلات الجوقة ، الذي يأتي بعد قول المغني: الذكرى تبقى أمل يعيش .. الخ. وهنالك أيضاً أغنية: " بتقولي لا " للشاعر الرقيق الراحل " عثمان خالد " من ألحان " ود المك " ، تلك الأغنية التي قطَّعت نياط قلوب شباب ذلك الزمان ، بمثلما كانت أغنية " إلى مسافرة " لذات الشاعر ، والتي أداها الأستاذ حمد الريَّح ، قد فعلت الأفاعيل في شباب أواخر الستينيات من القرن الماضي ، وبين الأغنيتين تناصٌّ واضحٌ لا يتسع المجال هاهنا للتوسع فيه.
وقد لحّن ود المك أيضاً لعبد العزيز المبارك ، أغنية " حلوة الصدفة البيك جمعتنا " ، وهي لعمري أغنية " حداثية ومتجاوزة " ، كلمات ولحناً وأداءً وإيقاعا. كما لحّن له قريبه الموسيقار الراحل " أحمد المبارك " أغنية " ليل الغريب ".
ثم إن عبد العزيز المبارك قد افتنَّ أيضاً في أداء أغنيات " الحقيبة " وغيرها من الأغنيات الكلاسيكية أيما افتنان ، ولفت إليها انتباه المستمعين ، وخصوصاً من الأجيال الجديدة. فمن بين تلك الأغنيات التي أداها باقتدار مدهش وإحساس بديع: أغنية " صابحني دايما مبتسم " للفنان الرائد إبراهيم الكاشف ، وأغنية " أنا بيك سعادتي مؤكدة " التي كان يؤديها الثنائي أولاد الموردة عطا كوكو ومحمود عبد الكريم ، وأغنية " يا نجوم الليل اشهدي " التي كان يؤديها الثنائي ميرغني المامون وأحمد حسن جمعة.
وأخيراً ، فإن عبد العزيز المبارك قد كان سفيراً حقيقياً للفن السوداني وللأغنية السودانية خارج الحدود ، وقد حقق خاصةً مع زميله ورفيق دربه الفنان الكبير: " عبد القادر سالم " متعه الله بالصحة والعافية ، اختراقات باذخة داخل عدد مقدر من بلدان العالم ، من خلال مشاركاتهما في جملة من المهرجانات والمناشط الفنية ، فصارا من بين المطربين السودانيين القلائل الذين لديهم تسجيلات على أقراص مدمجة منتشرة عالميا. ويجب ألا ننسى بهذه المناسبة ، الشعبية العالية التي كان يتمتع بها الفنان عبد العزيز المبارك داخل بعض الدول المجاورة للسودان ، وخصوصاً دول القرن الإفريقي الكبير ، وإثيوبيا على نحو أخص ، حيث تمكن من أداء الأغنية الإثيوبية: " نانوناييه " باللغة الأمهرية على نحو غاية في الروعة والإدهاش. ألا رحم الله الفنان الكبير الأستاذ عبد العزيز المبارك ، وغفر له ، وجعل الجنة مثواه مع الأبرار. والعزاء موصول من بعد لأسرته المكلومة وجميع آله وذويه وزملائه ومعجبيه حيثما كانوا.

 

آراء