الخرطوم في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي (2 /2)

 


 

 

 

 

بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الثاني والأخير من ترجمة لما جاء في الفصل الخامس والأربعين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م).
ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ الخرطوم في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري.
ومن المقالات المترجمة ذات العلاقة بتاريخ الخرطوم مقال بقلم سي. وويكلي نشر بعنوان: " قصة الخرطوم"
https://www.sudaress.com/sudanile/38906
ومقال مترجم آخر لهنريكا كوكليك بعنوان: "الخرطوم: إعادة بناء مدينة استعمارية صحية 1899 - 1912م".
https://www.sudaress.com/sudanile/100942
المترجم
******* ****** ******
يعد شارع فيكتوريا (القصر الآن. المترجم) الذي يبلغ عرضه 180 قدما هو أجمل الشوارع وأوسعها. وهو يبدأ شمالا من حدائق القصر ويتجه جنوبا، وتحيط به الأشجار. ويعطي جمال منظر الشارع بالمباني الحكومية الأنيقة حوله، ومبنى الكاتدرائية بجواره، منظرا بديعا آسرا.
أما شارع الخديوي (الجامعة الآن. المترجم) فهو يسير على زوايا قائمة، ويُعد من أجمل الشوارع في الخرطوم. ويبلغ عرض ذلك الشارع 150 قدما. ومن أهم معالمه تمثال جميل لغردون يقع عند تقاطع شارع فيكتوريا (القصر الآن) مع شارع الخديوي (يمكن النظر في مقال لبروفيسور أحمد إ. أبو شوك عن تاريخ تمثال غردون، وما يمثله ترحيل ذلك التمثال لبريطانيا في عهد الفريق عبود عام 1959م. المترجم) https://www.sudaress.com/sudanile/103371
وكان عرض الشوارع الرئيسة والشوارع الثانوية الأخرى حوالي 80 قدما. أما في أحياء الأهالي فقد كان عرض الشارع في المتوسط نحو 12 قدم. وأطلقت أسماء وأعداد مميزة على معظم الشوارع بالخرطوم. فالشوارع التي تسير موازية للنهر أعطيت أرقاما فردية، وتلك المتعامدة على مسار النهر أعطيت أرقاما زوجية، وتبدأ من ناحية المدينة من الناحية الشرقية. وأعطيت الشوارع القطرية (المائلة) أسماء مميزة مثل (أم درمان) و(أتبرا) وغيرها.
وزرعت أشجار الدوم الفارعة في كثير من المساحات الفارغة، وكان الغرض من وجود تلك المساحات الواسعة الخالية من المباني هو توفير بيئة صحية مناسبة خاصة في الأحياء التي يقطنها الأهالي. وتعمل الحكومة على إبقاء تلك المساحات خالية من المباني تماما. وزرعت على جانبي الشوارع الرئيسة الكبيرة أشجار زينة وظل مثل شجر اللبخ (Albizzia lebbek) السريعة النمو. وتمتاز هذه الشجرة بأوراق لامعة الخضرة وأزهار طيبة الرائحة. وتمت تجربة زراعة أنواع أخرى من الأشجار على جانبي شوارع المدينة مثل التين البنغالي (Ficus benghalensis) والجميز (Ficus sycomorus) والكجلة (kigelia aethiopica)، غير أن تلك الأنواع لم تصب نجاحا مثل ذلك الذي أصابه شجر اللبخ، التي تنمو بسرعة وتغدو ضخمة وظليلة في زمن وجيز نسبيا. ولكن لهذه الشجرة عيب واحد، وهو أنها شجرة مُعْبِلة (أي تساقط أوراقها موسميا)، وعندما تحت تلك الشجرة أوراقها، فإنها تجعل ما تحتها حول الشوارع كثير الأوساخ. وكانت كل شجرة على الشارع تزرع في حوض معمول من الطين والتراب، ويملأ ذلك الحوض بالماء يوميا في شهور الجفاف حتى تبلغ جذور الشجرة عمقا مناسبا داخل التربة يتيح لها امتصاص الماء الذي تحتاجه دون سقاية يومية.
ومن المباني الجميلة بالخرطوم، بالإضافة لمبنى القصر، مبنى كلية غردون التذكارية الواقع على ضفاف نهر النيل الأزرق، ومبنى المستشفى المدني (الملكي)، والمحاكم، ومكتب البريد والبرق، والجامع الكبير، والكنيسة الاغريقية، والكاتدرائية، ومصلحة الأشغال العامة، وثكنات القوات البريطانية، ومصلحة المخازن بالخرطوم بحري. وسيتم بناء مبنى للمكتب الحربي سيفوق – عند اكتماله – جمال كل المباني المذكورة.
ويتميز الإمداد المائي لمدينة الخرطوم بالوفرة والنقاء. وكانت الفنادق ومكاتب الحكومة وجميع منازل الأوربيين (وبعض المتاجر الراقية وقليل جدا من منازل الأهالي) مربوطة بشبكة توزيع المياه. أما معظم الأهالي فكانوا يُمدون بالمياه من محطة مياه في الشارع بها مقياس للكمية المعطاة، ويقوم عليها غفير يتحصل مبلغا بسيطا عما يضخه من ماء لكل من يريد / تريد شراء الماء. وفي الماضي كانت أعداد كبيرة من النساء يمشين لمسافة طويلة، وبصبر شديد، مرتين أو ثلاثة مرات يوميا لملء مواعينهن من النهر. وكان مشهد مسيراتهن وهن في ثياب (الزراق) من أحياء الأهالي من وإلى شاطئ النهر ليوردن الماء، وهن يضعن باتزان شديد جرار المياه على رؤوسهن، مشهدا يوميا مألوفا. وكانت فرادة منظر أولئك النسوة الصامتات وهن يسرن في تُّؤْدَةُ وهدوء عبر شوارع مدينة الخرطوم الحديثة والمفعمة بالضوضاء والمضاءة بالثريات الكهربائية وعلى رؤوسهن الجرار شيئا لافتا بالنسبة لي، وربما للآخرين أيضا.
وعندما يتوفر لمدينة الخرطوم نظام تصريف فعال (عوضا عن الجداول trenches) فإنها ستبدو بلا شك مدينة مثالية تقريبا – والأفضل في أفريقيا، من ناحية الصحة العامة على الأقل. وإلى ذلك الحين، تواصل الحكومة في استخدام نظام حفاظ وصيانة متواصل (للبيئة). وكان ذلك النظام قد أُدخل في عام 1907م، وظل يُحسن بالتدرج مع مرور السنوات. وكانت مياه المجاري تعالج بالقدر المتاح عن طريق مدمرة ميكانيكية (mechanical destructor) مقامة على بعد مسافة بعيدة عن المدينة بحيث لا تؤثر روائحها أو منظرها سكان المدينة.
ولا بد أن نذكر هنا أن بلدية الخرطوم (التي أقيمت عام 1901م) كانت – ولاتزال – تقوم بعمل جيد في تنظيف المدينة وإضاءتها وحفظ النظام والأمن بها. ويرجع الفضل في كل ذلك للرائد أي. آي. استاتون الذي كان أول من تولى رئاستها، ووجد الخرطوم عبارة عن نقطة صغيرة موبوءة، وتركها مدينة لطيفة ونظيفة وصحية. وخلفه على رئاسة بلدية الخرطوم السيد آر. أي. مور (الذي يعمل حاليا بالقاهرة كوكيل للسودان في القاهرة)، وكانت له خبرة 18 عاما في مجال الإدارة بالسودان. وواصل السيد مور فيما بدأه الرائد استاتون من عمل مجيد في إدارة بلدية عاصمة البلاد.
وكانت هنالك بالمدينة مشاكل في مسألتي الإسكان والفنادق بالخرطوم بالنسبة للمقيمين والوافدين الجدد للسودان. وقد بُدئ بالفعل في حل مشكلة الإسكان بالتدرج. فقبل خمسة أعوام كان من العسير جدا العثور على بيت مناسب (حتى لعائلة صغيرة)، ومن المستحيل العثور على منزل يصلح لعائلة كبيرة. أما الآن فقد حلت هذه المشكلة جزئيا. ولكن لا تزال الإيجارات مرتفعة. غير أن السكن جماعيا يمثل للعزاب حلا اقتصاديا مناسبا لتلك المشكلة. وكان كثير من الضباط وقليل من المدنيين يقيمون في "نادي الخرطوم" بصورة شبه دائمة.
وليس بالسودان أي فنادق سوى في الخرطوم وبورتسودان. وليس هناك طلب على الإقامة في الفنادق يسوغ إنشاء فنادق بالبلاد كما هو الحال في مدن كالقاهرة والمنتجعات المصرية. وقد يستمر الوضع بالسودان هكذا لسنوات قادمة. ويوجد الآن (1919م) بالخرطوم ثلاث منشآت فندقية، لا تخلو جميعها من عيوب ومناقص. غير أنه من الواجب تقدير صعوبة الولوج في عالم الفندقة في بلد جديد مليء بسلبيات مادية عديدة، وأخرى تتعلق بالطقس وبمن به من الأَعْراقِ البَشَرِيَّة (!؟ المترجم). ويجب أن نتذكر أن "موسم السياحة" بهذا البلد قصير جدا، ولا يزيد عن ثلاثة أشهر في أحسن الأحوال (من نهاية نوفمبر إلى بداية مارس)، وهذا من العيوب الاقتصادية التي لا تخفى. ولا يزال توافد الزوار الدائمين (مثل السيّاح وهواة صيد الحيوانات الوحشية) متقطع وغير مضمون. فسفرهم للسودان يعتمد على الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة في العالم (ومصر بخاصة) في أي وقت معين. ويعتمد كذلك على توفر سبل المواصلات والنقل في السودان نفسه. فانخفاض منسوب النيل يعطل الملاحة عبره، ولا يشجع السياح على السفر أبعد عن الخرطوم جنوبا.
وتجد إدارات فنادق الخرطوم الثلاثة صعوبات جمة في الحصول على حصص يومية منتظمة من المواد الغذائية الطازجة. وأهم من ذلك، كان الحصول على عمال مناسبين من الأهالي للعمل في الفنادق أمرا بالغ العسر، وهي صعوبات تواجه أيضا الفنادق في مناطق كثيرة بأوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وأماكن أخرى من العالم.
ويقوم بالخدمة في فندق أو فندقين بالخرطوم عمال أوربيين. وحتى هؤلاء لا يمكن أن نعدهم من المجيدين لمهنتهم. ومن جانب آخر، يجب أن نذكر أن العمال المحليين ينقصهم التدريب الدقيق، فبعض هؤلاء كانوا قد أتوا من بيئات كانوا يعيشون فيها كالمتوحشين، أو على الأقل تختلف أفكارهم عن أفكار الأوربيين فيما يتعلق بالمدنية والحضارة.
ولا شك أن تدريب هؤلاء الأهالي في أمور مثل السلوك والتصرف والملبس هي من الأمور التي أصاب فيها القائمون على الحكم نجاحا مذهلا. ولا ريب أن التطور (الطبيعي) عند الأجيال التالية من الأهالي (ممن يعملون في مجال الخدمات المنزلية) سينجب لنا عمالا مجيدين لمهنتهم.
ومن بين الفنادق الثلاثة في الخرطوم، يتميز (الفندق الكبير) عن غيره بجودة الخدمات. وكان ذلك الفندق يحمل اسما مختلفا عند افتتاحه، وظلت إدارته توسع فيه باضطراد بين كل فترة وأخرى، وتحسن في الخدمات التي يقدمها. ولا شك أن ضعف خدمات فنادق الخرطوم يظهر بصورة أوضح عند مقارنتها بتلك التي تُقدم في فنادق القاهرة. غير في أن هذه المقارنة ظلم بَيِّنُ، إن أدركنا الظروف المختلفة كليا التي قامت فيها فنادق المدينتين.
يسع الفندق الكبير ما يزيد قليلا على مئة نزيل، غير أنه من النادر أن يكون هنالك مئة من هؤلاء بالفندق في ذات الوقت. وتفوق التكلفة الأساسية للإقامة في هذا الفندق تكلفة الفنادق المماثلة في مصر. غير أن التكلفة الإضافية لبعض خدماته تعد مماثلة لغيرها في البلدان الأخرى. وربما يعجب المرء من كثرة ما تضيفه الفنادق من "خدمات إضافية" في فاتورة الحساب الأخيرة!
وهنالك فندق آخر بالمدينة هو "لوكاندة غردون". وكان ذلك الفندق الصغير قد تعرض لكثير من التقلبات، بعد أن فشل أكثر من واحد من ملاكه في إدارته. وتقوم إدارة الفندق الحالية بالكثير من المحاولات لجعله فندقا مرغوبا عند الكثيرين. فقامت بإدخال تحسينات في بناء الفندق، وفي ديكوره الداخلي ووسائل الراحة فيه، وأدخلت كذلك تعديلات كثيرة في خدمات الطعام والشراب المقدمة للنزلاء والزوار، مما ساهم في زيادة شعبية ذلك الفندق.
أما الفندق الثالث والأخير بالخرطوم فهو فندق (رويال)، وهو أقرب ما يكون إلى كونه "بنسيون عائلي". وهو نُّزُلُ صغير يسع لاثني عشر نزيلا فقط. وغرفه صغيرة ومستواه يقل كثيرا عن مستوى "الفندق الكبير" المواجه للنيل الأزرق، و"لوكاندة غردون" التي تقع أمام ساحة كبيرة في أحد جوانبها مبنى المحاكم الرائع البناء.
ويبدو أنو حركة البناء والتعمير قد توقفت في الخرطوم في الفترة الأخيرة، سوى بعض المباني السكنية القليلة وبعض دكاكين الأهالي. غير أن العثور على مسكن مؤثث أو غير مؤثث للاستئجار في الخرطوم ما زال أمرا عسيرا. لذا فقد تواصلت الإيجارات في الارتفاع.
وانخفضت أسعار الأراضي المعروضة للبيع في الخرطوم مقارنة بأسعارها في الماضي. ففي عام 1901م (أي قبل حسم مسألة الأراضي) كان سعر الياردة المربعة من الأرض يبلغ 1 – 2 بنس. ثم ارتفعت أسعارها ارتفاعا جنونيا متصاعدا إلى أن بلغت نحو جنيهين إلى ثلاثة جنيهات للياردة المربعة. وحدث في 1907م ما كان حتميا أن يقع، حيث هبطت أسعار الأراضي بالخرطوم هبوطا حادا. وأصاب ذلك الكثيرين في مصر والسودان بصدمة لم يفيقوا منها بعد.
وكانت من أكثر المواقع المرغوبة في الخرطوم المبني الذي كانت تحتله شركة قديمة (لم تعد موجودة الآن) اسمها "شركة تطوير واستكشاف السودان المحدودة". وحل محلها الآن في ذلك الموقع "الشركة المصرية الجديدة المحدودة". وقد تزداد قيمة أرض ذلك المبنى مع بدء مشروع ري الجزيرة، وبناء خزان النيل الأبيض. وبعد ذلك قد يفكر مالك المبنى في أن يتخلص منه بمبالغ كبيرة.
ويبلغ طول الشوارع التي أقيمت بالخرطوم الآن حوالي 50 – 60 كيلومتر، أقل من نصفها من الطرق المرصوفة. وتجعل الرمال المتراكمة فوق الشوارع غير المرصوفة السير عليها عسيرا بعض الشيء، وتجعل العواصف الرملية التي تهب في شهور معينة من السنة الرؤية متعذرة. وتستخدم الآن مادة أفضل لرصف الطرق، ويؤمل أن تحسن تلك المادة من حالة الطرق. غير أن تراكم الرمال على الشوارع هو مما لا يمكن تجنبه بصورة نهائية أو مستدامة.
ومع نهاية شهر أكتوبر يبدأ الطقس في التغيير التدريجي. ويحس الناس في كل أنحاء السودان بذلك التغير. وتبدأ حرارة الصيف (التي قد تصل لنحو 45 مئوية لأيام متصلة) في الانخفاض، وتبدأ الحرارة في الانخفاض ليلا، بينما تبقى الحرارة مرتفعة نهارا، ولكنها تنخفض بصورة تدريجية حتى أول أيام نوفمبر حيث تبدأ بعض الرياح في الهبوب، وتغدو الحرارة في الظل في حدود 27 مئوية.
وتثير تلك الرياح الباردة عند سكان الخرطوم شعورا مختلطا بالبهجة وبعض العنت. فمن ينام على سطح منزله (أو في الحوش) يجد الحرارة مناسبة جدا للنوم ليلا، ولكن عند الفجر تنخفض الحرارة ويبرد الجو، مما يجعل النوم أمرا عسيرا. أما في شهري فبراير ومارس فهنالك الرياح الحاملة لذرات الرمال المتناهية الصغيرة، التي تستطيع النفاذ عبر الأبواب والنوافذ المغلقة إلى داخل المنزل. وعادة ما تثير تلك الرياح الكثير من الفوضى في المنازل إذا فتحت الأبواب، إذ أن الريح ستقذف بكل الأشياء الخفيفة الوزن أو تلك الموضوعة على الموائد أو الطاولات.
ولا تحدث الرياح المغبرة (الهبوب) في السودان التي تهب في شهري مايو ويونيو الكثير من الأضرار، مقارنة بالرياح المحملة بالرمل الخشن والحصى التي رأيتها في جوهانسبرج وكيمبرلي (في جنوب أفريقيا)، وفي كولقاردي وكالقوريلي (في غرب استراليا) أو مدن النترات (في شيلي)، إذ لا تخلف رياح السودان المغبرة سوى طبقة خفيفة من الغبار على الأسطح (والأجساد)، وقليل من الازعاج.
لا شك في أن من أفضل ما فعلته السلطات – حتى الآن - بخصوص تحسين وجه الخرطوم، خاصة بقرب النهر في ذلك الجزء الذي يسكنه الأوربيون كان هو إقامة جدار داعم / سد على جانب النهر لصد المياه embankment، يجري لمسافة طويلة على جانب النيل الأزرق، مع طريق جميل على جانب النهر يمكن أن تسير عليه المركبات والسيارات والدراجات. وبدأت الأشجار المزروعة على جانبي ذلك الطريق في النمو وتوفير ظل ظَلِيلٌ ومريح للمشاة. وزادت المباني الجميلة والبيوت ذات الحدائق المقامة في تلك المنطقة من جمال شاطئ النهر.
وتم مؤخرا توسيع ورصف الطريق المؤدي لمحطة المعدية بالمقرن. وحرص بناة الطريق على أن يكون بعيدا بما يكفي من النهر (لتفادي ما قد يحدث له من تآكل في موسم الفيضان). ووضعت مقاعد اسمنتية وخشبية أمام النهر في تلك المنطقة لمن يرغب في الجلوس والاستمتاع بمنظر النهر. وصارت تلك المنطقة قبلة المتنزهين الباحثين عن نسمة هواء لا يجدونها في داخل بيوتهم، خاصة في ليالي الصيف المقمرة.
وقد يتوقع المرء أن تكون عدد أيام العطلات الرسمية والشعبية كبيرة في بلد كالسودان له وضع جغرافي معقد وطقس قاسٍ. غير أن عدد أيام العطلات بالسودان قليل نسبيا. فالحكومة تعترف بعشرة عطلات في كل العام (عدا يوم الأحد للمسحيين). وتفاصيل الأيام العشرة هي كما يلي:
8 يناير: وهو يوم تنصيب الخديوي السابق عباس (تم تنصيبه في 8 يناير من عام 1892م)
13 فبراير: وهو يوم مولد النبي محمد (معروف أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) مولود في ربيع الأول، وهذا التاريخ الهجري يتغير سنويا في التاريخ الميلادي. المترجم)
28 أبريل: يوم شم النسيم.
6 مايو: عيد تنصيب الملك جورج الخامس (عام 1910م) و7 مايو: عيد ميلاد الخديوي (سيتم إيقاف العمل بتلك العطلة بعد عزل ذلك الخديوي؟).
3 يونيو: عيد ميلاد الملك جورج الخامس (المولود في 1865م).
أربعة أيام في أغسطس أو سبتمبر: العيد الصغير بعد رمضان. (انظر التعليق أعلاه عن المولد. المترجم)
ستة أيام في أكتوبر، 8 -12: العيد الكبير أو الأضحى (انظر التعليق أعلاه عن المولد. المترجم)
السنة المحمدية الجديدة.
وأخيرا: يوم في ديسمبر للاحتفال بعيد الميلاد
وكان للمحمديين (الذي يمثلون الفئة الدينية الأكبر بالبلاد) ثلاثة عشر يوما مقدسا في العام، لا يقومون فيها بأداء أي عمل (خلط الكاتب في تفاصيل ما أورده خلطا مريعا، كما سيتبين القارئ. المترجم).
وهذه الأيام هي: ليلة عاشوراء (ذكرى مقتل الحسين)، وعودة المحمل من مكة والمدينة، والمولد النبوي، ومولد الحسين، ومولد السيدة زينب، ومولد الأمام الشافعي، وليلة المعراج، ورمضان، والعيد الصغير، وموكب الكسوة الشريفة، ومسيرة المحمل من مصر إلى العباسية، ويوم بدء سير المحمل إلى مكة، والعيد الكبير (حيث تقوم كل عائلة محمدية بذبح كبش كأضحية، لتخليد ذكرى تقديم إبراهيم لابنه إسماعيل (اسحق) للذبح.
ولا شك أن عدد هذه الاحتفالات المحمدية يماثل (أو حتى يقل) عن ذلك العدد الذي يصعب حصره من أيام القديسين في التقويم الروماني الكاثوليكي، والذي يجد الكثير من الاهتمام من المسيحيين، خاصة في أمريكا اللاتينية والدول الكاثوليكية الأخرى، ولكن لا يصاحب تلك الاحتفالات أي مساس بالأعمال اليومية المعتادة.
وقام الدكتور أندرو بالفور ومن خلفوه بعمل مجيد ومشهود في محاربة البعوض والحشرات العاضة الأخرى (للمزيد عن هذا الجانب يمكن الاطلاع على المقال المترجم بعنوان: "الخرطوم: إعادة بناء مدينة استعمارية صحية 1899 – 1912م. المترجم)، وأصاب نجاحا كبيرا يماثل النجاح الذي حققه الجنرال قورقاس في بنما، الذي أقام قناة بنما بفضل استخدام طرق شبيهة بالتي استخدمها بالفور. وكانت الخرطوم مرتعا لأنواع شرسة من البعوض الناقل للملاريا، إلى أن أتى بالفور وكون فرقا خاصة للقضاء على البعوض، قضت على أطوار تكوينه الأولى وأماكن توالده. وتمكن بالفور وفرقه من التغلب على الكثير من العوائق التي واجهت حملات المكافحة تلك. غير أن الاستمرار في المراقبة والإجراءات الدفاعية والهجومية من أهم الأمور الضرورية لمكافحة الحشرات، خاصة في مدنية كالخرطوم. فوضع المدينة الجغرافي يسهل غزوها بجيوش من الحشرات الصارة، إذ أنها تقع عند ملتقى نهرين، وتأتيها العديد من البواخر والمراكب القادمة من مناطق مؤوبة، خاصة في مواسم معينة، مما يوفر أماكن مناسبة لتوالد البعوض والإصابة بأمراض مثل الملاريا وغيرها. كذلك تشكل المناطق الزراعية حول مدينة الخرطوم بؤرا لتوالد البعوض، وهذا مما يمثل مصدر قلق للمسئولين عن الصحة بالمدينة. غير أن غالب سكان الخرطوم لم يعودوا يستخدمون الناموسيات الحامية من البعوض، وهذا قد يعد دليلا عمليا على نجاح حملات مكافحة البعوض.
وهنالك حشرات البراغيش (الهاموش Midges) التي يجذبها الضوء، وهي لا تعض ولا تنقل أي مرض ولكنها مزعجة جدا، خاصة للساكنين بقرب النهر، وليس من السهولة القضاء عليها. وفي بعض أوقات العام قد تكثر الذبابة الرملية، وهي ذبابة مزعجة وقد تنقل "حمى الذبابة الرملية"، ولكنها مرض غير شائع (من الأمراض التي تنقلها الذبابة الرملية داء الليشمنيات Leishmaniasis. المترجم).
وليس هنالك مثال أفضل لعمل يسهل إقامة واستيطان الرجل الأبيض في المناطق الاستوائية مثل عمل دكتور بالفور ومن خلفوه في مجال الصحة العامة بالسودان.
ورغم كل ما ذكرناه من صعوبات، فالخرطوم غدت الآن مدينة مشهورة بجوها الصحي (بفضل جهود بالفور ورفاقه). وصار معدل الوفيات بالمدينة نتيجة للأمراض أقل من أي مدينة أفريقية أخرى، ويماثل المعدلات المسجلة في كثير من المدن الأكبر في أجزاء كثيرة من العالم.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء