إن رواية موسم الهجرة إلى الشمال، حبل وريد وتغذية لم يُفطَم أدباؤنا منها إلى اليوم. وأنا واحد، ليس من الأدباء ولكن من القطيع الذي عندما يشعر بالعطش، يرتوي من نبعها، مثل كثيرون يقرؤونها كل فترات متقطعة من الزمان وكأنها رواية جديدة في كل مرة، بل كأنها معدنا نفيسا، يبرق في كل اتجاه، يتزوّد بها الوجدان خصوّبة. أما أهلنا فيعانون غرابة الهوّية وبعُسرتها على التصنيف. بدأ السؤال عند "جمال محمد أحمد" عندما قرّب إلينا موائد إفريقيا الأدبية، ثم تلت ذلك مدرسة الغابة والصحراء، إلى جاء جون قرنق بتصالح الهويات.
وانكفأ القِدر بما حوى، وانفضّت الموائد ببؤس الحركة الإسلامية، وتغييرها التصالح إلى التصادم، وفرضت رؤاها ثلاثين عاما، تريد أن تغيّر هويّة السكان وما استطاعت، ولم تزل تتشبّث بالحكم سرا وعلانية. وتركب موجة الحروب الإرهابية، بل تموّلها في السودان، وفي العالم. إنهم لا يقرءون التاريخ ، ولا يدركون عِبَره.
(2)
كتب الطيّب صالح على لسان الراوي، واصفا رحلته في عرس الجّن الصحراوي، في الطريق غير الممهد في زمن الرواية من الشمالية إلى أم درمان. فيه اجتمع الناس، ولم يذكر فئة بعينها ( صلّوا وسكروا)، في تصالح بين العادة والعقيدة. (رجال تزغرد كالنساء )، في تماهي بين خصال الجندر، لم تعرفه مذاهب البتر والجلد والقطع. اختلط رقص البنات والنساء برقص الرجال وهم يضربون أرجلهم ويحمّحموا بحلوقهم. صورة روائية كاملة البيان عن التصالح الذي كان في السودان أيام عصر الاستعمار، مع فشل الكثيرون من الساسة الذين جاءوا بعدهم في حماية البرعم الذي خلّفه الاستعمار، إلى أن جاءت أجناس استئصالية، نزعت البرعم من جذوره.
في لغة هيّنة ولكنها بليغة، يستمر السّرد، دون أن يغوص في لجّة فقه اللغة، ودون التقعّر، بل سلاسة وتعابير بسيطة ولكنها بليغة: (قوم لا تراهم بالنهار كأنهم يذوبون تحت ضوء الشمس)
أو (وردّد الليل والصحراء أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجّن)، (كالأعاصير الصغيرة التي تنبع في الصحراء). لغة لا تُربك سلاسة القراءة الروائية، وبلاغة على جرعات، كالرتل ، تنبهك ولا تكسر موسيقى الرواية بأصوات نشاذ، في لغة حيّة أضافت للغة العربية مرونة الرواية وزخّمها. لقد سرّب الطيّب صالح لنا طبيعة الحياة البراغماتية بحذافيرها، التصالح مع المعتقدات، التصالح مع المرأة، التصالح بين الناس.
كنت أنت تذهب إلى القرى النائية البعيدة، ولكنك تتلمّس هيبة الدولة. أنت آمن في كل بقاع السودان حين تسير. في تصوّر روائي سرّب لنا الراوي مشهدا من مشاهد الحياة الحقيقية، كخلفية للعمل الروائي، الذي أنجزه الطيّب صالح في ستينات القرن العشرين. فاستحقّت الرواية عددا لا يحصى من المقالات وأبحاث ودراسات الدكتوراه والماجستير، في كل أنحاء العالم.
(3)
منْ ينسى مقولة هدم أصنام الغرب التي يصرخ بها قادة الحركة الإسلامية في كل منبر: (جامعة الخرطوم، والسكة حديد، ومشروع الجزيرة، ودور نوادي الخريجين، والنظام التعليمي)، وأحالوا البلاد إلى موطن الجهالة الجهلاء. باعوا الوطن، أرضه وثرواته، واستثمروا في تعليم قادة التطرّف والقتل والإرهاب، من زعيم تنظيم بوكو حرام إلى زعيم تنظيم الشباب الصومالي، وتخرّج أمثال هؤلاء الأجسام الغريبة على السودان وأهله، من المركز الإسلامي الأفريقي بالخرطوم، الذي يشيعون بأن تمويله من مكوّن أجنبي، واتضح أنه يصرف من مال الدولة أكثر من 450 مليار جنيه سوداني سنويا!!.
من ينسى أن قادة انقلاب 1989، قد انتدبتهم الحركة الإسلامية سابقا من القوات المسلحة لتجنيدهم، بمنحهم دروس في التنظيم والتجنيد لمدة عام في المركز الإسلامي الأفريقي.!
(4)
النص كما جاء في الرّواية على لسان الراوي:
{ هكذا وكل سيارة تمر بنا طالعة أو نازلة، تقف، حتى اجتمعت قافلة عظيمة، أكثر من مائة رجل طعموا وشربوا وصلوا وسكروا. ثم تحلّقنا حلقة كبيرة، ودخل بعض الفتيات وسط الحلقة ورقصوا كما ترقص البنات. وصفّقنا وضربنا الأرض بأرجلنا وحمّحمنا بحلوقنا، وأقمنا في قلب الصحراء فرحا للاشيء. وجاء أحد بمذياعه الترانزستور، وضعناه وسط الدائرة، فصف السواقون سيارتهم على هيئة دائرة وسلطوا أضوائها على حلقة الرقص، فاشتعلت شعلة من الضوء لا أحسب تلك البقعة رأت مثلها من قبل. وزغّرد الرجال كما تزغّرد النساء وانطلقت أبواق السيارات جميعا في آن واحد. وجذب الضوء والضجة البدو من شعاب الوديان وسفوح التلال المجاورة، رجال ونساء، قوم لا تراهم بالنهار كأنهم يذوبون تحت ضوء الشمس. اجتمع خلق عظيم ودخلت الحلّقة نساء حقيقيات، لو رأيتهن نهارا لما أعرتهن نظرة، ولكنهن جميلات في هذا الزمان والمكان. وجاء اعرابي بخروف وكأه وشوى لحمه على نار أوقدها. وأخرج أحد المسافرين من السيارة صندوقين من البيرة وزّعهما وهو يهتف " في صحة السودان. في صحة السودان". ودارت صناديق السجائر وعلب الحلوى، وغنّت الأعرابيات ورقصن، وردّد الليل والصحراء أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجّن. عُرس بلا معنى، مجرد عمل يائس نبع ارتجالا كالأعاصير الصغيرة التي تنبع في الصحراء ثم تموت. وعند الفجر تفرقنا. عاد الأعراب أدراجهم إلى شعاب الأودية. تصايح الناس: مع السلامة. مع السلامة. وركضوا كل إلى سيارته. دارت المحركات، وتحولت الأضواء من المكان الذي كان قبل لحظات مسرح أنس، فعاد إلى سابق عهده، جزء من الصحراء.}
عبدالله الشقليني
15 أبريل 2020
alshiglini@gmail.com