من تاريخ الري بالسودان في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي (1 – 2)

 


 

 

 


Percy F. Martin بيرسي أف. مارتن
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل الثاني والثلاثين من كتاب (السودان في طريق التطور) The Sudan in Evolution الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، بقلم المؤلف البريطاني بيرسي أف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م).
ويتناول المؤلف هنا تاريخ الري في السودان في غضون العقدين الأولين للحكم الإنجليزي – المصري للسودان.
ومن المقالات المترجمة التي تناولت تاريخ مشاريع الري بالسودان هنالك مقال بعنوان: " التنمية الاجتماعية في مشروع الجزيرة في العهد الاستعماري"1، ومقال آخر بعنوان "مشروع الجزيرة بالسودان والمزارع الجماعية (الكولخوزات) بروسيا: مقارنة تجربتين"2.
المترجم
******* ********** *******
ليس من الصعوبة فهم أو إيجاد العذر للمصريين على التقديس والإجلال الذي يحسون به تجاه النيل منذ قرون ساحقة في القدم. فقد كانوا يدركون تمام الادراك أن ذلك النهر العظيم – رغم جنونه أحيانا – هو مصدر عافيتهم وسعادتهم وثروتهم الطبيعية. ولم يسبق للرومان أن عبدوا نهر التيبر مثلما قدس المصريون (القدماء) نهر النيل، فهو عندهم "أب الآلهة"، كما كان يُسمى – إله بلغت قوته وجلاله قدرا هائلا لا يمكن تجسيده في نحت بحجر، أو رسم في صورة، أو أن يقدم كقرابين أو تصلي له صلوات شخصية، ولا يمكن (كما جاء في خطب شارلس سبيرقون) أن يخرج من مخبأه.
وأثبت لاحقا جيمس بروس (1730 – 1794م) خطل تلك الصفات الإلهية التي نسبها المصريون (القدماء) للنيل المقدس عندهم، باكتشافه أن النيل الأزرق ينبع من بحيرة تانا بإثيوبيا. وتتبع اسبيك وقرانت وبيكر النيل الأبيض حتى بلغوا بحيرتي فيكتوريا وألبرت نيانزاس، بينما اكتشف ستانلي أكبر مصدر للنيل الأبيض في أقصى الجنوب بمنابع سونا، وكشف عن خرافة (جبال القمر)، التي ذاب جليدها وغمر النيل بالمياه.
وإذا كان النيل (ولا يزال) يعني الكثير لمصر، فما الذي سيجنيه السودان من منفعة النيل لمصر؟ إن كل آمال السودان، ذلك البلد الشاسع المساحة (مليون ميلا مربعا)، معقودة على ما تعده به أنهاره، خاصة أنهار الرهد والدندر والسوباط وأتبرا. غير أن النيلين الأبيض والأزرق هما بكل تأكيد مصدر دماء الحياة للسودان، والحفاظ على شرياني حياة هذا البلد هي من أهم أهداف إدارته الحالية.
وعكف المهندس المدني البريطاني سير ويليام قاريستن 3 أحد كبار خبراء الري في العالم (بل لعله أهمهم) دراسة السودان كما درس مصر على مدى سنوات طويلة. وداوم قاريستن على زيارة النيل الأبيض في عدد من المواسم المتتالية، وسجل نتائج دراساته العلمية في كثير من كبرى الدوريات العالمية (نعته دورية نيتشر Nature، أشهر مجلة علمية في العالم، في عددها رقم 115، الصادر عام وفاته في 1925م. المترجم). وبحسب مقترحات هذا العالم المهندس فإنه من الممكن زيادة وسريان أعالي النيل والتحكم فيه في خلال فصول الشتاء والربيع وبداية الصيف، وهذا ما يضمن، ليس فقط احتياجات مصر الكاملة (نحو خمس مليارات متر مكعب) من الماء، بل احتياجات كل حوض النيل شمال الخرطوم. ويبين المقال التالي الذي نشر في جريدة التايمز الفوائد الجمة التي يمكن أن يجنيها السودان من مياه النيل:
"يمكن تقسيم مشاريع الري بالسودان إلى ثلاثة أنواع منفصلة (ولكنها مترابطة). أولها مشروع النيل الأزرق. لقد ظل هذا المشروع موضع دراسة واعتبار منذ عشرين عاما تقريبا (أي منذ احتلال البريطانيين للسودان). ففي عام 1905م قدمت مصلحة الري المصري مشروعا أوليا للري. وعُد ذلك المشروع الأوّلي – حتى في ذلك الوقت الباكر - مشروعا قابلا للتنفيذ. غير أنه كانت هنالك بعض الإشكاليات المحيطة به، ولم تكن هنالك تجارب وسوابق تمكن الخبراء من إعداد وتأسيس حلول لمثل تلك الإشكاليات. وكان ذلك المشروع يهدف لري سهول منطقة الجزيرة الشاسعة (بين النيلين الأبيض والأزرق) جنوب الخرطوم. ولقيام ذلك المشروع كان من اللازم تشييد سد على النيل الأزرق، وقناة رئيسة على أرض الجزيرة. وبعد الكثير من الدراسات والنقاشات، رأى هذا المشروع النور في 1913م، عندما أقرت خطة محددة، قامت حكومة السودان بتقديمها إلى وزارة الأشغال العامة في القاهرة للدراسة وتقديم المشورة.
وبتفصيل شديد قُدمت تلك الخطط الموسعة الكاملة جزئي مشروع النيل الأزرق، وهما: سد مكوار، الذي يبعد أميالا قليلة جنوب سنار، وقناة تبدأ من السد لري 300,000 فدانا في الجزيرة. وكان ذلك المشروع هو إحدى بنات أفكار سير قاريستن إبان ترأسه لنظام الري بمياه النيل. ووضع سير قاريستن مشروعه في يد السيد سي. أي. دوبري الذي كان يعمل في تلك الأيام مفتشا عاما للري بالسودان. وكان يساعد السيد دوبري (وخلفه في وظيفته فيما بعد) السيد تي. ام. توتنهام، الذي عمل على إنضاج الجزء الأول من خطتي المشروع، وقام بدراسة إمكانيات ما يجري بالنهر من مياه بالنسبة للمساحة التي يمكن زراعتها بمحاصيل معينة.
وأبدى اللورد الراحل كتشنر اهتماما عظيما بمشروعات الري هذه، إذ أنه كان شديد الإيمان بأن تلك المشاريع ستعطي للسودان حياةً صناعية جديدة، وستخلق فيه رفاهية اقتصادية مستدامة. وبلغ من اهتمام الحاكم العام السابق للسودان بتلك المشروعات أن وجد لنفسه الوقت – وسط اهتماماته الكبيرة الأخرى – ليزور بصفته الشخصية موقع السد المقترح في مكوار ليتأكد بنفسه من صلاحية ذلك الموقع، وصحة كل ما كتب وقيل عن مزاياه. وفي يوليو من عام 1913م قام الوكيل الدائم لمصلحة الأشغال العامة المصرية، سير ميردوخ ماكدونالد، بتوجيه من لورد كتشنر، بالاجتماع في لندن مع مجموعة من الخبراء (منهم سير قاريستن وأحد مديري شركة أريدArid & Co.) من أجل بحث تفاصيل الخطط وتقويمها وإعطاء الرأي الفني حولها.
وعقد بلندن أيضا في عام 1913م اجتماع مهم للمهندسين المختصين لدراسة تلك الخطط. وأعقب ذلك ببضع شهور زيارة لسير ميردوخ ماكدونالد وسير آرثر ويب والسيد ماك ليور إلى السودان من أجل مزيد من الدراسة لموقع المشروع المقترح. وبعد فحص دقيق لكل مشاكل الإنشاءات اللازمة لإكمال مشروع بناء السد وحفر القناة وتوفير مواد البناء الضرورية وضيق الزمن وغير ذلك من الأمور، تقرر – بصورة نهائية – أن تكون القناة الشرقية جافة في موعد معين، والاستمرار في التحضيرات اللازمة التي أقرت سلفا. ونقلت تلك القرارات للورد كتشنر (وكان يعمل يومها قنصلا لبريطانيا بمصر) ولسير ريجلاند وينجت، حاكم عام السودان. وكانا يومها في زيارة تفقدية لموقع السد المقترح في مكوار. ووافق الرجلان على ما قدمته لجنة الخبراء، واقترحوا أيضا خططا أخرى لإنشاء السد. وقدم سير ميردوخ ماكدونالد لهما تقديرات تكلفة قيام السد، التي بلغت 1,420,000 جنيها مصريا. وأضاف لهذا المبلغ تكلفة إنشاء القناة التي تنقل المياه لري نحو 120,000 فدانا، وبلغت تكلفتها 580,000 جنيها مصريا. وبذا بلغت التكلفة الكلية لهذا الجزء من المشروع 2,000,000 جنيها مصريا. ثم قدم ذلك المشروع لمجلس العموم البريطاني، الذي أجازه ليغدو ضمن من مشاريع وزارة الخزانة البريطانية، وليكون ضمن القرض الذي قدمته الحكومة البريطانية للسودان، وقدره 3,000,000 جنيها استرلينيا، بفائدة مقدراها 3.5%.
ولم يكن أمر ذلك القرض لحظة مهمة (للسودان) من ناحية إنتاجية فحسب، بل كان أيضا دليلا بينا على أن السودان قد انتقل بالفعل من كونه دولة بربرية إلى دولة على وشك أن تصبح مستقرة الازدهار. وكان ذلك اعترافا واضحا من أعلى وأهم مؤسسة ببريطانيا، يؤكد أن السودان يسير بثبات واستمرار على طريق التقدم، وأنه قد بدأ في التخلص من الاعتماد اقتصاديا على الدولة المصرية الأم.
وفي السنين الثلاث أو الأربع التالية لم يتم تنفيذ أي شيء مما كان مقررا نسبة لقيام الحرب الأوروبية، واستحالة الحصول على المواد المطلوبة أو نقلها للسودان. غير أن المهندسين لم يقفوا مكتوفي الأيادي. ففي غضون سنوات "الخمول القسري" تلك، عمل سير ميردوخ ماكدونالد على دراسة متعمقة لمسائل مهمة تتعلق بالري منها تدفقات المياه ومستوياتها، والممرات المائية، والمواد التي ستستخدم في بناء السد، وغير ذلك من الأمور الهندسية التي لم تكن هنالك معلومات كافية متوفرة عنها، إذ لم تتم دراستها من قبل عند وضع الخطط الأصلية، مما استدعى مراجعة الخطط الموضوعة سلفا، والميزانيات التي كانت قد عُدت نهائية. وأثبتت تلك الخطط النهائية للمشروع أن سد سنار – كما كان متوقعا منذ البداية - هو عمل في غاية الأهمية والقدر، ويمكن مقارنته بسد أسوان أو أي منشأة مشابهة أقيمت على نهر النيل حتى الآن. وقدر الخبراء أن سد سنار لا بد أن يتحمل ضغطا قدره 16 مترا من الماء، وأن يسمح بمرور 15,000 مترا مكعبا من الماء في الثانية، خاصة في نهر مثل النيل الأزرق عُرف بتذبذب تدفق المياه فيه بصورة كبيرة وفجائية.
وبالإضافة إلى الصعوبات الفنية المتعلقة بالتعامل مع القناة الشرقية العميقة للنيل الأزرق، كانت هنالك صعوبات أخرى ينبغي العمل على حلها. وكانت من بين تلك المشاكل الفنية:
1. طبيعة الأساسات التي سيقوم عليها السد
2. الكمية القصوى للمياه التي سيسمح بتدفقها (عند الفيضان)
3. المجرى المائي (waterway) في ممرات السدود، والمُفِيضات (spillways) التي تصرف الفائض من المياه
4. توفير معلومات أولية وعامة عن أجزاء مختلفة من السد وصلابتها وثباتها
5. مستويات عتبات Sills صرف المياه وقنوات التصريف
6. جوانب السد، وأخيرا
7. أدنى تصريف لمياه النيل الأزرق
وتم تناول كل نقطة مما سبق ذكره بصورة منفصلة، وبتوسع ودقة وحرص من قبل سير ميردوخ ماكدونالد (أول من قدم الخطة) وسير آرثر ويب، وسير ويليام قارستن. وسجل المهندسان الأخيران رأيهما في الخطة بالقول: "بعد دراستنا لهذا المشروع المقدم، نؤكد أن كل ما ورد فيه يتطابق تماما مع آرائنا".
وتمت مراجعة تكلفة سد سنار فصارت 1,750,000 جنيها استرلينيا. وتُجري الآن مراجعة أخرى لهذا الرقم الجديد بسبب ارتفاع أثمان المواد وتكلفة الأيادي العاملة. وزيدت مساحة الأرض التي سيقام عليها المشروع من 120,000 إلى 300,000 فدانا لجعل المشروع أكثر فائدة وجدوى من الناحية التجارية. وعند المقارنة بين تكلفة إقامة سد سنار والمشاريع المشابهة له التي أقيمت من قبل نرى أن تكلفة سد سنار كانت معقولة جدا. وعلى كل حال، فقد كان من وضع تلك التقديرات هو سير ميردوخ ماكدونالد، وهو من أعظم الخبراء في هذا المجال، ولا تقتصر خبرته السابقة على مصر وحدها (رغم أنه عمل بها لسنوات طويلة في صيانة وتعلية سد أسوان، وإنشاء خزان إسنا).
وهنالك بعض الأمور الأخرى التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، رغم أنها لا تتعلق مباشرة بالأمور الهندسية الخاصة بمشروع النيل الأزرق. ومن تلك الأمور نطاق وامكانية المشروع الحالي، وإمدادات المياه لمصر في فصل الصيف، وزراعة القطن، وهي من أهم الأمور لمصر والسودان من أجل تقدمهما الاقتصادي.
وسيقوم سد سنار، الذي يمثل الجزء الأساس لما صار يعرف بـ "مشروع النيل الأزرق" بتوفير الماء لري تلك المساحة الشاسعة من الأرض الممتدة من الخرطوم إلى المناطق المطيرة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق. وتشابه تلك المنطقة في الشكل والامتداد شكل الدلتا المصرية (مقلوبا)، وتتشابه المنطقتان أيضا في طريقة ري محصول القطن. وعلى الرغم من أن المنطقتين تبعدان عن بعضهما أكثر من ألف ميل، إلا أنه يمكن التمييز بينهما بموسمي الإنتاج المختلفين في كل منهما.
وتروى الزراعة الآن في منطقة الجزيرة طبيعيا بواسطة الأمطار النادرة وغير المنتظمة. وتأتي هذه الأمطار – إن أتت – في بداية فصل الخريف، ويستفيد منها رجال القبائل الرحل الفقراء في زراعة الذرة في مساحات قليلة. وكان يُعتقد في بداية الأمر أن الذرة هي المحصول الوحيد الذي يمكن زراعته في هذه المنطقة. غير أن العديد من التجارب العملية التي امتدت لثمان سنين أثبتت بأن الجزيرة (أو على الأقل أجزاء كبيرة منها) مناسبة جدا لزراعة محصول آخر أكبر قيمة وهو محصول القطن.
وكما ذكرنا آنفا، فقد اختيرت سنار كموقع لإقامة السد على النيل الأزرق بعناية فائقة، وأن اللورد الراحل كتشنر وسير ريجلاند وينجت حاكم عام السودان السابق قد أقرا ذلك الاختيار عند زيارتهما الرسمية لها في يناير من عام 1914م. وكانت المنطقة المحيطة بسنار مناسبة تماما لإنشاء كل أشغال الري الضرورية، فهي سهل واسع يميل قليلا شمال وغرب النيل الأزرق نحو النيل الأبيض.، وستعمل إقامة سد النيل الأزرق على رفع مستوى المياه بالنهر لحد ابتدائي كافٍ، وستنقل المياه إلى الأراضي المراد ريها عبر نظام قنوات وبتدرجات طبيعية. ولنقل المياه إلى تلك القنوات يجب أن يبقى منسوب الماء على ارتفاع قدره 16 مترا من خلال بوابات السد لتكون له قوة الاندفاع الكافية. ولتحمل ذلك القدر من الضغط ينبغي أن يقام السد على قاعدة من الصخور. وكل تلك الخواص متوفرة في أرض موقع السد بمكوار. وتقع سنار على بعد يبلغ 180 ميلا من الخرطوم، وهي أقرب نقطة مناسبة للعاصمة. ومن تلك المسافة جنوب الخرطوم يمكن الوصول بيسر لشمال أفريقيا. وتعد سنار معبرا من مناطق الشمال الصحراوية الشاسعة عديمة المياه نحو مناطق الغابات الاستوائية حيث الأمطار الغزيرة. غير أن هنالك بالمنطقة بين الخرطوم وحدود المنطقة التي تكثر بها الأمطار "منطقة وسطى" في البلاد تعرف بـ "الجزيرة".
ومن بين كل مساحة الجزيرة عُدت نحو ثلاثة ملايين من الأفدنة صالحة تماما للاستزراع. ويفترض أن التجربة المكتسبة من المزارع القائمة تبرر الثقة في أنه يمكن زراعة القطن باستمرار ونجاح في ذلك الجزء من الجزيرة. أما بقية أنحاء الجزيرة فزراعة القطن بها لا تعد خطوة آمنة الآن، إلى أن تقوم محطات أبحاث زراعية باختبار صلاحيتها للاستزراع. وقد أقيمت بالفعل على النيل الأزرق في واد مدني محطة أبحاث للزراعة بالمضخات (الطلمبات) لري ألفين من الأفدنة. وأثبتت تلك التجربة نجاح زراعة القطن كمحصول شتوي، على عكس ما هو ممارس في مصر، حيث يُزرع القطن صيفا. ولا يستطيع المرء أن يغفل الأهمية القصوى لهذه الحقيقة على التطور الاقتصادي في مصر والسودان. فالاختلاف في موسم نمو القطن في القطرين يعني الفرق بين النجاح والاخفاق. فلو كان محصول القطن في مصر والسودان ينمو ويستهلك المياه في ذات الوقت فلابد أن مسألة توزيع مياه النيل في فصل الصيف ستظهر بشكل بالغ الحدة، حين يقل مستوى تدفق مياه النيل، ولا يكفي حتى لمصر وحدها.
واختيرت من بين المساحة الكلية التي يمكن زراعتها (التي تبلغ كما ذكرنا 3,000,000 فدانا) مساحة قدرها 300.000 من الأفدنة لبدء زراعة القطن على الفور. وستتم زراعة كل أراضي المشروع عندما تصلها القنوات. ومن عوائق زراعة كل أراضي المشروع أنه ينبغي أن تكتمل أولا الأشغال الخاصة بتخزين المياه قبل أن يكون منسوب المياه كافيا للاندفاع في القنوات في فصلي الربيع والشتاء، ويعتمد هذا بالطبع على منسوب المياه في النيل الأزرق في هذين الفصلين. وعندما اكتمال حفر القناة الكبرى بالمشروع سوف يمكن إيصال المياه لمساحات واسعة يمكن زراعتها، مما يضاعف من الجدوى الاقتصادية للمشروع. ويمكن على مدار كل عام ترك جزء من أرض المشروع بورا، بينما يزرع جزء آخر بمحصول أخضر، ويزرع الباقي بالقطن.
لقد أثبتت التجارب الميدانية أن القطن ينمو بصورة ممتازة في فصل الشتاء بأرض الجزيرة. وهذا يعني أن مشروع النيل الأزرق لن يستهلك المياه بصورة كبيرة إلا في فصل الشتاء، وهذا مما شأنه أن يؤمن لمصر احتياجاتها المائية دون إضرار. وكان أكبر تصريف للنهر (River discharge) مطلوب لإقامة مشروع النيل الأزرق المقترح يقل عن أدنى تصريف طبيعي مسجل لذلك النهر حتى في أحرج الأوقات. وهذا يعني أنه من الممكن الاستمرار في الامداد المائي الاصطناعي حتى إذا انخفض منسوب النهر بصورة كبيرة. ومع تيار مثل تيار النيل الأزرق (الذي تتسبب غزارته في حدوث اختلافات شديدة في منسوبه على مدار كل عام)، يمكن أن نفترض أن الفشل المطلق في توفير المياه سيكون حالة طارئة، رغم أن هذا لم يحدث قط. وحتى إذا افترضنا أن ذلك حدث فعلا لفترة استمرت لشهرين مثلا، فإنه من الممكن جدا مواجهة تلك التأثيرات على كل حال. ووضعت كل تلك الاعتبارات والحقائق عند تصميم سد سنار. فارتفاع السد يكفي لمقابلة أعلى فيضان متصور في النيل الأزرق. ورغم أن تخزين المياه لم يكن أحد أهداف بناء السد، سيكون من الممكن (قبل تاريخ حدوث فشل الفيضان) أن يقوم جسم السد المرتفع بحجز كمية من الماء تكفي لمقابلة احتياجات ري، ليس فقط الـ 300,000 فدانا المذكورة آنفا، بل مساحات أكبر دون اعتماد على مياه النهر في غضون ذَيْنِكَ الشهرين. ولا يُعد فشل (فيضان) النيل الأزرق بصورة كاملة من الأمور المتوقعة أو الممكنة، ولكن إذا حدث ذلك بالفعل فإن سد سنار سيواجه ذلك الوضع المستبعد. وسيوفر تخزين السد للمياه زيادةً في المساحة التي يمكن زراعتها في مشروع الجزيرة إلى 660,000 فدانا، حتى في السنوات التي يكون فيها منسوب النهر منخفضا جدا.
_____ ____ _____ ______ ___
أما المشروع الثاني من ناحية الأهمية فهو مشروع النيل الأبيض، الذي كان يهدف بصورة خاصة للتعامل مع مسألة تخزين المياه في فصل الصيف. وخلافا لما كان يجري من عمل في إنشاء مشروع النيل الأزرق، فقد كان الغرض الأساس من إقامة سد على النيل الأبيض هو التحكم في مياه أعالى النيل لمصلحة مصر، بينما كان الغرض من إقامة سد سنار على النيل الأزرق، كما ذكرنا آنفا، هو فائدة السودان في المقام الأول. ولم يتحقق الكثير من التقدم في مشروع النيل الأبيض بسبب عوائق ومشاكل هندسية عديدة لم تواجه أو تُحل، رغم إنها لم تكن، على أَيَّةِ حال، عصية على الحل.
ولم يقع الاختيار على مكان ما لإقامة سد على النيل الأبيض حتى عام 1915م، حين أجريت عدة تجارب ثاقبة لتحديد مكان مناسب لتشييد ذلك السد. وكانت من أهم معايير اختيار مكان مناسب على النيل الأبيض هو تفادي وجود نتوءات صخرية في النهر نفسه، وأيضا البعد عن منطقة السدود. ومنطقة السدود هذه هي منطقة واسعة من المستنقعات تبدأ من ملتقى نهر السوباط مع النيل الأبيض، وتمتد جنوبا لمسافة تبلغ 200 من الأميال. وتعمل تلك المستنقعات بحسبانها خزانات طبيعية بالغة الضخمة.
وكان يُعتقد في سنوات ماضية (أي قبل توفر المعلومات المحددة التي تم الحصول عليها مؤخرا) أنه من المعقول افتراض أن شق قناة في هذه المنطقة أو التحكم في أحد فروع النهر الذي يعبرها سيسمح لكل المياه من التدفق شمالا في فصل الصيف، وسيمكن مصر من تقليل الاعتماد على مصادر مياه متباينة عبر سنوات مختلفة. غير أن دراسات حديثة حول هذا الأمر أثبتت أن عدم انتظام حجم المياه يحدث في الجانب الآخر للسدود بمعدل يفوق ما يحدث الجانب المتجه لمصر. ولذا فلو تم تنفيذ أي من المقترحين المذكورين أعلاه (شق قناة في هذه المنطقة أو التحكم في أحد أفرع النهر...) فسوف يفضي ذلك إلى نتيجة واحدة وهي خلق عدم انتظام في حجم المياه شبيه بما يحدث في الجانب الآخر للسدود. غير أنه يمكن التحكم في مياه النهر فيما وراء منطقة السدود عن طريق بناء سد صغير عند مخرج بحيرة ألبرت4، إذ أن لتلك البحيرة قدرة على تخزين المياه. وببناء مثل ذلك السد، إضافة لأعمال أخرى في منطقة السدود وغيرها يمكن تأمين قدر كافٍ من المياه يكفي لمقابلة كل احتياجات مصر المائية التي تتيح لها زراعة أقصى حد ممكن من أراضيها.
وقريبا سيكون لمشروع النيل الأبيض بعض العناصر التي تحتاج لمزيد من الحماية ضد الفيضانات العاتية. ولتوفير مثل هذه الحماية ينبغي تعلية وتقوية ضفتي النيل بمصر. ويمكن توفيرها أيضا، على الأقل جزئيا، عن طريق إيقاف مياه الفيضان بالسودان. وسيسمح للمياه الواردة في الفيضان بالتدفق مجددا للنهر عندما تنخفض مناسيب ومعدل سريان المياه.
سيكون سد النيل الأبيض هو المنشأة الرئيسة في ذلك النهر وذلك لتحقيق غرضين أساسين: تقليل الفيضان، وزيادة كميه المياه في فصل الصيف. وتزداد الحاجة للماء في مصر صيفا لضمان ري المحاصيل التي تزرع في الصيف (مثل القطن)، خاصة في السنوات التي يقل فيها منسوب النيل، وأيضا لضمان التوسع في الزراعة، خاصة مع الزيادة المستمرة في عدد السكان. وكان من المقترح الاستمرار في تحويل ما تبقى من أراضٍ في حوض النيل إلى نظام ري دائم عن طريق بناء سد أو توسيع السماح باستخدام المضخات لسحب الماء من النيل، وزراعة المزيد من أراضي الصعيد غير المستزرعة، بالترافق مع تصريف منطقة الدلتا، وهو عمل كان قد بدأ قبل عدد من السنوات، ولا زالت الحاجة لاستمراره قائمة.
ولن يكفي مشروع واحد لمقابلة كل الاحتياجات المائية اللازمة للاستصلاح الزراعي والتنمية. وستكون إمكانية النيل الأبيض على تخزين المياه كافيةً لعدد من السنوات المقبلة، غير أن الحاجة قائمة لبناء مزيد من المنشآت من أجل زيادة تلك الامكانية. غير أنه سيأتي يوم لا بد فيه من تنظيم مياه واحدة من البحيرات الأفريقية العظمى والتحكم بها.
وقام السيد سي. أي. دوبري والسيد بي. أم. توتنهام أعمال تحضيرية أخرى. وتم استخدام اسطول لجرف الوحل، وكان ذلك عملا قليل التكلفة، ولكنه عظيم الفائدة. واستخدمت في ذلك العمل بنهر الزراف جرافات الغطس dipper dredger (وهي مجارف كهربائية مثبتة على صندل تستخدم في جرف الأشياء من تحت الماء. المترجم). واستخدمت أيضا جرافات الإمساك grab dredger في تعميق وتحسين قناة بيكر حتى نقطة التقائها ببحر (نهر) الجبل. وتوقف عمل الجرافات مرة أو مرتين لانخفاض مستوى الماء. ولكن تم في أثناء ذلك التوقف استخدام طائرة لنقل الفحم الحجري وغيره من المواد من الخرطوم إلى ملكال عاصمة مديرية أعالي النيل، وكانت مركزا مهما لنظام البرق بالمديرية.
ومن أعمال الري الأخرى على النيل الأبيض إكمال مسح شامل لبحر (نهر) الغزال من بحيرة نو (عند التقاء نهري "بحر الجبل" و"بحر الغزال") إلى عرديبة. وستكون لهذه المعلومات قيمة كبيرة في المستقبل القريب.
وقُدمت الكثير من الاقتراحات لإنشاء سد على النيل الأبيض لتخزين الماء، من بينها حفر قناة تربط بين النيلين الأبيض والأزرق. غير أن الرأي استقر أخيرا على حل عملي للمشكلة قدمه سير ويليام أي. قاريستن وسير آرثر إل. ويب، وهو حل يجمع بصورة فعالة بين أشغال "الري" و"الحماية". وعبر عن ذلك سير ميردوخ ماكدونالد بالقول بأنه من الممكن القيام بمشروع متكامل، لا يوفر لمصر، لعقود عديدة قادمة، كمية كافية من المياه في فصل الصيف فحسب، بل سيوفر أيضا ضمانا مهما (ولكنه قد لا يكون مستداما) ضد الفيضانات الغزيرة. وشمل المشروع عنصرين: الأول هو بناء سد لتخزين المياه في "جبل أولياء" بمقدوره توفير كمية كافية من المياه لمصر صيفا على مدي سنوات عديدة قادمة، ويكون أيضا مشيدا بارتفاع كافٍ على حجز مياه فيضان النيل الأبيض عندما يكون عاتيا، ومنعها من الاندفاع نحو نهر النيل. ويتم خلف ذلك السد حجز المياه لمدة قصيرة في مستودع جديد، يستخدم منه بحسب الحاجة في فصل الصيف وعندما يقل مستوى الفيضان. وهذا مما من شأنه تقليل تأثيرات أوج موجة الفيضان على مصر. أما العنصر الثاني لمشروع النيل الأبيض فهو عمل قناة من النيل الأزرق (بعد منطقة سد سنار) لنقل مياه الفيضان الزائدة إلى مستودع في النيل الأبيض بعد سد جبل أولياء.
ويعد هذا المشروع بذاته مشروعا كاملا متكاملا، سيقوم بنجاح بحل مشكلة الري لعقود عديدة قادمة، وسيقلل من التأثيرات الضارة للفيضانات المفرطة بصورة مستدامة. ولن يتداخل هذه المشروع سلبا مع أي مشاريع ري أخرى يمكن القيام بتنفيذها في المستقبل على النيل الأزرق بالسودان أو مصر. بل سيكون إنشاء أي مشروع أو مشاريع أخرى من هذا النوع إضافة محمودة تتكامل مع مشروع النيل الأبيض وتدعمه (لم يبدأ العمل في تشييد سد النيل الأبيض بجبل الأولياء إلا في نوفمبر من عام 1933م، واكتمل في أبريل من عام 1937م، تحت إشراف الحكومة المصرية. المترجم).
********* **************
الإحالات المرجعية
1. http://www.sudanile.com/64122
2. shorturl.at/jmMPY
3. ويليام قارستن هو مهندس بريطاني مولود بالهند، عمل مديرا لمصلحة الري ثم مصلحة الأشغال العامة بالحكومة المصرية، ثم مديرا لشركة قناة السويس.
4. بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبديا فإن بحيرة ألبرت كانت تُعرف سابقا باسم بحيرة موبوتو سيسي سيكو، هي واحدة من البحيرات الافريقية العظمى، وهي سابع أكبر بحيرة بإفريقيا، والسابعة والعشرين من حيث المساحة على مستوى العالم ويقه مركزها بيت أوغندا والكنغو الديمقراطية.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء