مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في مقدمة وتمهيد مؤلف كتاب (السودان في طريق التطور) The Sudan in Evolution الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، بقلم المؤلف البريطاني بيرسي أف. مارتن Percy F. Martin (1861 – 1941م). المترجم *********** ********** *********** تمهيد "هذه أفضل حكومة ترغب بالفعل في إسعاد الشعب، وتعرف كيف تسعدهم" البارون توماس بابينجتون ماكولي (1800 – 1859م) ***** ***** ***** على الرغم من أن الجنود البريطانيين ورجال الدولة الذين قاموا بعمليات الإصلاح السياسي والاجتماعي في مصر، كانوا هم نفس الذين شكلوا مصائر السودان، إلا أن المشاكل التي واجهتهم في السودان كانت مختلفة جدا، وإلى حد ما أكثر سهولة. كانت الحضارة الغربية قد سبق لها تحقيق الكثير من التقدم على أرض الفراعنة، بينما كان الوضع مختلفا في السودان (ذلك البلد، قليل السكان، الواسع المترامي الأطراف الذي تبلغ مليون ميلا مربعا) إذ كان لا يزال يرزح في حالة متأخرة من البربرية. وكان أقوى ما أعاق مسيرة التقدم في مصر هو وجود مؤسسات شبه دينية بها، وهو ما لم يكن له تأثير أو حتى وجود بائن في السودان. وبينما كان الوضع السياسي في القطر الأم (مصر) هو محط اهتمام كبير ومراقبة شديدة من الإدارة البريطانية، لم يكن بالسودان أي نشاط من ذلك النوع. ففي على سبيل المثال كانت هنالك في مصر معارضة هدامة، تارة خارجية، وتارة أخرى داخلية (وأحيانا معا) تتطلب المواجهة والكبح. أما في السودان، فلم يكن هنالك بين أوساط سكانه البسطاء أي جماعات تجد في مقاومة مسيرة التقدم، أو في معاكسة أو تعطيل عمل الإدارة. وكانت هنالك الكثير من العوائق الطبيعية في السودان التي لم تكن موجودة بمصر. وضاعف فقر سكان السودان وبؤسهم من مسؤولية حكامهم (الجدد)، إلا أنه أطلق سراح أيديهم في العمل واتخاذ ما يجدونه مناسبا في مجالات العدل والتجارة والاقتصاد والحكومة المحلية، إذ لم تكن هنالك أعراف مستقرة أو سوابق مزعجة في تلك المجالات. سأل الامبراطور الروماني فسبازيان ذات مرة الفيلسوف بليناس: "ما الذي أسقط حكم نيرون؟، فرد عليه الفيلسوف بإجابة إرشادية مفيدة مفادها أن "نيرون كان ماهرا في العزف على القيثارة وفي دَوْزَنَة / ضبط أوتارها، غير أنه كان يسرف في الأفراط في دَوْزَنَة أوتار حكمه أحيانا، وفي التفريط فيها أحيانا أخرى". ولعل ذلك الفعل عند نيرون هو من أخطر الأمور المتعلقة بحكم أعراق الشرق المختلفة. وانتهجت الإدارة البريطانية – بتوفيق كبير – سياسات قويمة ومارست سلطات منصفة على كل طبقات وطوائف الأهالي، وفي مختلف أحوالهم. وثبت أن ذلك كان من أهم العوامل المفيدة في الإدارة البريطانية للسودان. وبالقطع، لم يكن من السهل قط إدارة شؤون السودان وفقا لتلك القواعد المذكورة، خاصة وهي بلاد واسعة مترامية الأطراف، تنعدم فيها وسائل الاتصالات والمواصلات. ويعزى نجاح تلك الإدارة في إنجاز الكثير بالبلاد في فترة قصيرة نسبيا لكل حاكم عام تولى في الماضي، أو يتولى الآن، إدارة دفة حكم البلاد، ولمعاونيهم وبقية موظفيهم. غير أنه لا يجب أن ننسى الأدوار التي أداها أفضل زعماء قبائل الأهالي في سبيل تحقيق ذلك النجاح. فقد تحلى أولئك الزعماء (الذين نجوا من استعباد شنيع وظلم فادح أوقعه عليهم المهدي وخليفته) بصفات حسنة، وحس وفطرة سليمة وقدرة متميزة على حفظ النظام بالبلاد. ويصعب تخيل أن الأهالي الذي ينعمون بحالة مزدهرة الآن، هم نفس الأهالي الذين ظلوا لسنوات طويلة يكابدون شظف العيش وانعدام الأمن وسوء الأحوال. لقد استجاب هؤلاء الأهالي بحماسة كبيرة لجهود إدارتهم الجديدة التي أنقذتهم من اليأس ومما كان يهدد وجودهم نفسه! ولعل في هذا التحول المميز عرفان وإجلال وثناء لكل من ضحوا - في شهامة وحماس وكرم - بأنفسهم وأوقاتهم لست عشرة سنة من أجل إنقاذ هذه البلاد وأهلها، ولسنوات أخرى من أجل تنمية وتطوير هؤلاء التعساء. وكان كرومر - رجل الدولة القوي الحكيم الذي جلب لمصر النظام بعد أن سادتها الفوضى، وأقام العدل والسلام والازدهار في ربوعها – قد شد من أزر كتشنر في تصميمه الشديد على استعادة السودان وسكانه الذي قاسوا من نظام حكم المهدية، وفي ذات الوقت استعادة شرف إنجلترا. وكان وينجت هو "الذراع الأيمن" لكتشنر فيما قام به، وكان يشغل منصب كبير ضباط الاستخبارات. ووينجت جندي شجاع وإداري حاذق ولغوي بارع، صرم من عمره أربعين عاما في خدمة مخلصة وعظيمة القيمة للإمبراطورية البريطانية. وستضيئ صفحات التاريخ للأبد بسجلات كتشنر في تنظيم وإدارة حملة تحرير السودان، ثم إعادة تعميره فيما بعد. وكان جيشه الصغير والظافر دوما بقيادة شباب من الضباط البريطانيين تدربوا في "مدرسة كتشنر القوية". والجدير بالذكر أن غالب الضباط البريطانيين الذي أصابوا الكثير من النجاح في العالم كانوا من "رجال كتشنر". وعقب استعادة السودان، أنجز كتشنر وكرومر ووينجت، وبمساعدة قلة مختارة من رجال تشبعوا بنفس الروح والوطنية، أعمالا عظيمة تشابه المعجزات في إعادة إيقاظ وإعادة تشكيل وتطوير هذا البلد الذي كان يُعد ميؤوسا منه. ورحل عن دنيانا الآن كتشنر وكرومر، وبقي وينجت ليتابع عمله في خدمة الملك والبلاد. وكان هدفي من تأليف هذه الكتاب هو رصد التحولات غير العادية التي أُحدثت بالسودان منذ أن أحتل البريطانيون أرضه في عام 1898م، وتوضيح الأسباب المباشرة التي عملت على توطيد دعائم الأمن والسلام والاستقرار والازدهار الذي ساد به عقب إزاحة المهدويين عن السلطة. وشملت تلك الأسباب قيام إدارة قوية وحكيمة تعمل على تطوير عام لاقتصاديات البلاد، وتضع وتنفذ بعض القوانين البسيطة المتميزة بالعدل والنَّصَفَةُ، وتتوسع في استصلاح الأراضي وريها وزراعتها، وإدخال وسائل موصلات حديثة كالبواخر وقطارات السكة حديد، وإدخال تعليم حديث، وتشجيع التجارة الداخلية والخارجية. وشملت موضوعات الكتاب أيضا العادات القبلية الاجتماعية، والحرف والممارسات الشعبية، وسبل كسب العيش بالبلاد وغير ذلك. وبالنظر إلى اتساع رقعة السودان، وصعوبة نشر القوات فيها بسرعة، وصغر عدد القوات المتوفرة في أي وقت من الأوقات، فإنه من الأمور التي تلفت النظر استباب الأمن والسلام بين القبائل العديدة بالبلاد التي لطالما عرفت بالتحارب المستمر بينها وبين القبائل الأخرى، وفيما بينها. ورغم ذلك تنشأ أحيانا بعض الاضطرابات الأمنية بين بعض القبائل، وعلى الحدود السودانية – الحبشية، وفي أجزاء البلاد النائية التي لم تخضع بعد لإدارة لصيقة وفعالة. وكانت أكثر منطقة خطورة ولم يستقر الأمن فيها بعد هي المنطقة الواقعة بين نهر أتبرا، عند دخوله منطقة الأمهرا، وبين الأودية التي يجري فيها النيل الأزرق والأنهار الجنوبية عبر الحدود الحبشية. ويقطن في هذه المنطقة خليط من الزنوج والعرب، ويصعب التعامل مع هؤلاء، إذ أنهم لا يدينون بالولاء لأي حكومة معترف بها. وظل رجال تلك الجبال لسنوات طويلة يغيرون على السكان العزل وينهبوهم ويقتلونهم متى وكيفما شأوا دونما خشية من أي رادع. وتقوم السلطات الآن بتسيير حملات في تلك المناطق الحدودية لكبح جماح تلك العصابات الخارجة عن القانون. وستستمر تلك الحملات حتى تقوم الحكومة الحبشية بالعمل مع حكومة السودان للقضاء المبرم على تلك "الألوية الشيطانية" المؤذية. وسيُلقي ذلك بالطبع أعباءً مالية ضخمة على إدارة البلدين. وبعد مرور أربعة أشهر على بدء الحرب الأوروبية (العالمية الأولى. المترجم)، ازدادت الأوضاع خطورة بإعلان تركيا الانضمام لألمانيا والنمسا ضد بريطانيا العظمى. وكان الافتراض، على وجه العموم أن ذلك سيثير اضطرابا سياسيا بالسودان سيفضى إلى أن يتحول أهله عن مناصرة بريطانيا. غير أن السلطات فوجئت بأن افتراضها كان خاطئا، إذ أن العكس هو ما حدث فعلا. وكان أن تبخرت آمال ألمانيا العريضة، وخابت محاولات تركيا الهمجية ضد بريطانيا لأحداث اضطرابات في وسط أفريقيا. وكانت تلك واحدة من تجارب الحرب المرضية. وكان من أسباب وقوف السودانيين المثير للإعجاب إلى جانب بريطانيا في مثل تلك الظروف والأوقات العصيبة هو الأثر الطيب الذي تركه الحكم البريطاني على عقول وأَفْئِدَة المسلمين في غضون عقدين من الزمان حكموهم فيها بالعدل، وللثقة التي منحوها للبريطانيين الذين تحملوا عبء إدارتهم دون أنانية أو ظلم. وعلى عكس ما كان يشتهيه الأعداء من العثمانيين، لم تجد دعواتهم الحاضة على التعصب الديني والتطرف و"الجهاد" أي أذان صاغية من غالب السودانيين. وعوضا عن الثورة على حكامهم المسيحيين "الكفرة"، قام كل زعماء السودانيين الدينيين والعلمانيين والقبليين في كل مديرية ومنطقة بالتعبير عن تقديرهم وامتنانهم لكل ما قدمه لهم الحكم البريطاني، بل وتنافسوا مع بعضهم البعض في إظهار مشاعر الإخلاص والتأييد القوي للحكومة البريطانية. وقد يتساءل المرء، بكثير من الفخر، إن كان هنالك شعب آخر يبدي مثل ذلك الولاء والتأييد لحكامه الذين يختلفون عنه في الديانة واللغة والعرق والعادات والاهتمامات المادية؟ ويجب أن نضع في الاعتبار أيضا أنه لا يوجد أي رابط في دول المشرق بين حكامها المسيحيين ومحكوميها المسلمين سوى تلك الاهتمامات المادية. وكانت حكومة السودان قد اتهمت في بادئ الأمر بتغولها على حقوق الأهالي بإلغائها لتقليدهم القديم بتملك الرقيق والاتجار بهم. غير أن الغلبة الغالبة من السودانيين تفهوا موقف الحكومة من هذه المسألة وقدروه، وعرفوا مدى النفع الذي جره ذلك المنع على جميع أفراد المجتمع. ورويدا رويدا خفف المعارضون لتلك السياسة من رأيهم إزاء الموقف الصارم والحازم لحكومة السودان من مسألة الرق بالبلاد. وأيد المحمديون – والمحمدية هي دين الأهالي الأكثر استنارة بالسودان – وكل زعمائهم الدينيين، في حكمة، خطوات الحكومة بشأن الرق بالبلاد، مما دعم موقف الحكومة. وكانت أخطر التخوفات والتحديات أمام حكومة السودان تتعلق بمدى إخلاص وولاء السودانيين، والذي وُضع عند الاختبار مع اندلاع الحرب ضد المانيا وتركيا. وجاءت نتيجة ذلك الاختبار نصرا مؤزرا للحكومة. غير أن الإدارة لم تترك أي احتمال أو فرصة لحدوث أدنى اضطراب في تلك الفترة الحرجة، وأخذت حذرها وظلت متيقظة ترصد كل تحرك من شأنه أن يخل بالأمن والنظام العام بالبلاد. فالسودان بلاد واسعة مترامية الأطراف، وقد لا يخلو من عصبية دينية متطرفة من بقايا العهد الماضي. وكما ذكرنا، فقد كانت استجابة السودانيين للنداء الذي وجهه لهم الحاكم العام (سير ريجلاند وينجت) للوقوف في صف الحكومة استجابة فورية ومثيرة للإعجاب، وتقف كشهادة لا يمكن دحضها على مهارة وقدرة الحكومة على ممارسة سطوتها كسلطة مُستَعمِرة. وإن كانت ثمة بقايا شكوك عن حقيقة مشاعر السودانيين الحقيقة (تجاه الحكومة وبريطانيا)، فقد زالت تلك الشكوك تماما عند وقوع اضطرابات ديسمبر 1914م (المقصود هو إعلان بريطانيا الحماية على مصر في 18 ديسمبر 1914م، وفرضها على خديويها عباس حلمي الثاني التنازل عن عرش مصر مقابل تعويض مادي. المترجم). فقد كان من تخطيطات عملاء الألمان والأتراك بالمنطقة اختراق المجتمع بكل طبقاته، وبصفة خاصة الجيش المصري وتحريض ضباطه على التمرد على السلطة. ونُقلت كل تلك المعلومات لمسؤولي المخابرات بالخرطوم، وأحيطوا علما بما كان يجري سياسيا بمصر. ولم تُحدث تلك الأحداث بمصر أي أثر على الأهالي بالسودان، ولم يرصد في أيام الأزمة تلك أي نشاط هدام بالسودان من قبل العناصر المعادية. وكانت الأحوال الاقتصادية بالبلاد عقب ثلاث سنوات من القحط والجفاف قد أفضت لركود اقتصادي وتجاري كبير. وكان ذلك سببا كافيا لجعل أي محرض مدفوع ينشط في بث سموم تحريضه للأهالي للتمرد على الحكومة. غير أن شيئا من ذلك لم يحدث نتيجةً لولاء الأهالي الشديد واخلاصهم العميق للإدارة على مدى السنوات الماضية، وامتنانهم لها لإخراجها البلاد وسكانها من حالة البربرية والمجاعة إلى المدنية والازدهار النسبي. وأكد ذلك موقف السودانيين الثابت والراسخ في البقاء مخلصين لحكومة السودان حتى في ساعات العسرة. ووثقت الحكومة من أنها تحظى بدعم يمكن الاعتماد عليه من البريطانيين والمصريين والسودانيين والعرب. وقام الحاكم العام في نهاية أكتوبر 1914م بخطوة حكيمة تمثلت في تطوافه على غالب أجزاء البلاد، بدأها بزيارة مديرية البحر الأحمر، وهي المديرية التي كان قد عمل قبل عقدين من الزمان حاكما لها لفترة قصيرة. وكان وينجت محبوبا لدى سكان البحر الأحمر، مثله مثل حاكمها السابق، اللورد كتشنر، الذي ترك بتلك المديريات العديد من الإنجازات المهمة. وكان رجال الدين (العلماء الرسميين)، وزعماء الطوائف المختلفة (مثل الميرغنية / الختمية) والنظار وشيوخ القبائل العربية وغيرهم من كبراء البلاد قد أبدوا الكثير من مشاعر الود والامتنان والتعضيد لحكومة السودان المستنيرة، والتأييد القوي للإمبراطورية البريطانية (أورد المقال المترجم بعنوان "السياسة البريطانية حيال الأنصار" طرفا من ذلك. https://www.sudaress.com/sudanile/49205 المترجم). ونشرت حكومة السودان في يوم 16 نوفمبر من عام 1914م إعلان الحاكم العام بالجَرِيدَة الرَسْمِيّة عن تطبيق القوانين العرفية بالبلاد، على الرغم من أن الحرب (العالمية الأولى) كانت قد بدأت فعليا منذ أغسطس من ذلك العام. وكان القصد من الإعلان عن تلك القوانين هو أن تكون بمثابة إضافة وتكملة للإدارة المدنية، وليس بديلا عنها. فقد ظل الموظفون والمسؤولون يمارسون مهام وظائفهم كالعادة، ويصدرون أحكامهم في المخالفات والجرائم العادية كما كان في السابق. وفي الواقع كان السودان الإنجليزي – المصري يحكم دوما بقوانين عرفية، وذلك بحسب ما ورد في اتفاقية الحكم الثنائي بين الحكومتين البريطانية والمصرية الموقعة يوم 19 يناير و10 يوليو 1914م، والتي نصت على أن حكم السودان ينبغي أن يبقى عن طريق قوانين عرفية. غير أن تطبيق تلك الأحكام العرفية كان يتم برفق شديد، ولم يتم اللجوء إلا نادرا جدا لتطبيق قوانينها الصارمة. بل لم يكن الأهالي يعلمون شيئا عن وجود مثل تلك الأحكام والقوانين. وفي ديسمبر من ذلك العام تمت إزاحة الخديوي عباس حلمي من دست الحكم بمصر عقابا له على خيانته لبريطانيا طوال سنوات عديدة (جاء في مرسوم عزله: "يعلن وزير الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي السابق على الانضمام لأعداء جلالة الملك رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوي"، وتم كذلك إعلان أن الأمير حسين كامل باشا سيحل محل الخديوي المعزول، وسيمنح لقب "سلطان مصر". المترجم). وأقيمت بتلك المناسبة احتفالات بهيجة شهدها السردار في الخرطوم، وتبادل قصر عابدين بالقاهرة وقصر الحاكم العام التهاني البرقية. وجاء في برقية السلطان حسين كامل لحاكم عام السودان أنه يدعو الله ليديم نعمته على شعبي المنطقة، وأن يهبهما مزيدا من الازدهار والسعادة تحت سلطة السردار". وبذا أتى عام 1915م وهو يحمل للسودان وعدا متميزا، وهو وعد تشير كل الوقائع أنه سيتحقق لدرجة كبيرة. وإذا كانت الأحوال الاقتصادية بالسودان الآن، وفي المستقبل القريب، لا تبدو جيدة جدا، فهذا حادث في كل بقاع الأرض بسبب الحرب الأوروبية التي أحالت العالم إلى معسكر حربي كبير، ولم يكن السودان لينجو من غوائلها دون سائر الأقطار. ثم تم في 22 مايو من عام 1916م التخلص من حكم علي دينار، سلطان دارفور المثير للمشاكل، الذي خان البريطانيين وتحالف مع تركيا. وبذا لم يعد هنالك أي تهديد من جهة تلك السلطنة. ومع مرور السنوات سيزداد السودان الإنجليزي – المصري تحت الحكم البريطاني ثراءً وقدرةً شرائية، وهو موعود بتوسع كبير في مجال الأعمال التجارية التي ستجتذب رجال الأعمال والتجار والشركات البريطانية إن كان بمقدورهم التأقلم على أحوال وعادات ومتطلبات هذه البلاد، وإن شُيدت مخازن كافية بالخرطوم والمراكز التجارية الأخرى بالبلاد. ووجد الكثير من التجار (الأجانب) أنه من الأفيد لهم تجاريا وأكثر ربحا أن يبادوا بضائعهم الأوروبية ببضائع محلية (سودانية). ويصدر السودان حاليا موادا أولية (تشمل الصمغ العربي والجلود والسنامكي والقطن والحبوب الخ) بما قيمته سنويا 5,000,000 جنيها استرلينيا. ويقدر الأهالي والأجانب الذي يعيشون بالسودان القيمة العالية للبضائع البريطانية. ويمكن للمصنعين البريطانيين أن يستحوذوا على نصيب الأسد من السوق السوداني إن تحلوا ببعد نظر ومهارة وجرأة ومغامرة منافسيهم الأجانب. وفيما عدا مصانع الغزل والنسيج في مدينة مانشستر، لم تكن هنالك بالأسواق السودانية أي بضائع بريطانية الصنع، إذ أن غالب المنتجات بهذه الأسواق والمحلات الصغيرة هي من صنع المانيا وإيطاليا وفرنسا. وغالب التجار ورجال الأعمال بالبلاد هم الأغاريق والإيطاليين والسوريين والشرقيين من مناطق مختلفة. ويبيع الكثير من التجار السودانيين كميات كبيرة من البضائع المستوردة. وينبغي أن يعمل المصنعون البريطانيون على أن يبعثوا بمندوبين عنهم للسودان، وينبغي أن يتحلى هؤلاء بقدرات لغوية عالية، وبمعرفة وإدراك لذائقة واحتياجات ومتطلبات الأهالي والأجانب بالبلاد، وبما لا يحبونه أيضا. ويجب عليهم أيضا أن يؤاموا ويكيفوا منتجاتهم لتناسب احتياجات السودان وسكانه. وكانت غالب البضائع المطلوبة عند غالبية السكان هي الحديد ومصنوعاته والأقمشة البيضاء والداكنة والبطاطين الصوفية. غير أن هنالك أيضا بالبلاد من الأثرياء من يشترون البضائع الكمالية والأقمشة الغالية والثياب المفتخرة. وكما هو الحال في غالب الدول الشرقية، ينبغي أن توضع على كل البضائع ذات الجودة العالية علامات تجارية بارزة وملصقات مميزة توضح بلد المنشأ واسم الشركة. وغالب السكان بالسودان من الأميين، ولكنهم على دراية بالأسماء التجارية ونوعياتها ومدى جودتها، ويميزونها عن طريق الصور الموضوعة على المنتجات. وخير مثال على ذلك هي مختلف أصناف السجائر مثل " Camel" و " Palm tree" و "Sword". وينبغي الاهتمام بتصميم مميز للصور الموضوعة على المنتجات حتى يجذب المستهلكين ويرسخ في ذاكرتهم. ويحسن بكل صاحب منتج أن يراقب الأسواق ليكتشف أي عمليات انتحال أو تزوير في علامته التجارية المميزة. وأخيرا، يواجه كثير من الكُتَّاب صعوبات جمة في كتابة الأسماء السودانية باللغة الإنجليزية، إذ ليس هنالك قاعدة ثابتة لتهجئة هذه الأسماء. وقد حاولت دار نشر "وزارة الحربية" بالقاهرة حل هذه المشكلة فأصدرت في عام 1901م كتيبا بعنوان: Orthography for native names of places, person, etc., in Egypt and the Sudan. غير أن ذلك الكتيب لم يجد اهتماما كبيرا عند الكثيرين، فما زلنا نقرأ كلمة (السودان) تُكتب Sudan وأحيانا Soudan، وكلمة (الخرطوم) تُكتب Khartoum وأحيانا Khartum، بل حتى Kartum. وتُكتب كلمة شيخ هكذا Sheikh، وتُكتب أيضاً Sheik. وكذلك تُكتب كلمة جبل Jebel وأيضاGebel، وتُكتب كلمة خور Khor وأحياناKor . وذات الشيء عند رسم كلمة سد، والتي تُكتب تارةً Sudd وSud تارة أخرى. وهنالك أمثلة عديدة أخرى مثل هذا النوع. ولحسن الحظ بدأ هذا النوع من الخلط في الترجمة (ونقل كلمة بأحرف لغة أخرى) في الاختفاء مع تنامي اهتمام دور النشر بالشأن السوداني. وأرى أنه من الأوفق أن تُكتب الكلمات السودانية بحسب نغمة صوت الكلمة كما تُنطق محليا. وهذا من الأمور المهمة خاصة وأن النطق المصري للكلمات السودانية مختلف بعض الشيء عنه في السودان. وأرى كذلك أن الكتابة الصحيحة للكلمات السودانية يتطلب أن تُكتب الحروف المتحركة vowels كما في الإيطالية، والحروف الساكنة consonants كما في الإنجليزية. ويجب أن تقتصر الكتابة على الحروف التي تُنطق فقط، ولا يجب زيادة حروف زائدة لا تُنطق. ********** ********* مقدمة الكاتب زرت السودان الإنجليزي – المصري لأول مرة في شتاء عام 1907 – 1908م. وكنت قد توقفت في مصر وأنا في طريقي لأداء مهام صحفية بالهند، حيث أسعدني الحظ هناك بمقابلة السير الراحل ايلدون قروست، الذي كان قنصل بريطانيا بمصر. وكان الرجل ينصحني بشدة بانتهاز فرصة وجودي في مصر لزيارة السودان ورؤية الخرطوم وبعض مناطق البلاد الأخرى. وبالفعل تبنيت ذلك الاقتراح وزرت السودان. وجعلتني تلك الزيارة أكثر اهتماما بالسودان وأهاليه، وبالأدلة على التطور الذي حدث فيه في مختلف جوانب الإدارة في خلال فترة قصيرة نسبيا منذ بدء الاحتلال البريطاني له. وقررت أن أزور تلك المحمية البريطانية مرة أخرى بأعجل ما تيسر لأتعمق قليلا في دراسة أحوالها الاقتصادية الحالية والمستقبلية عن كثب. واجتمعت لعدد من المرات بسير ريجلاند وينجت (الحكم العام السابق) وعدد مقدر من كبار الإداريين بحكومة السودان، وتناقشنا حول دراستي هذه عن السودان. وخرجت من كل تلك النقاشات وأنا أكثر اقتناعا بأن موضوع كتابي عن السودان سيكون أصيلا في تناوله، وسيقدم معلومات لم يسبق تقديمها للقراء من قبل، إذ أن السودان أقل ممتلكات بريطانيا في أفريقيا من ناحية المعلومات المنشورة. وكانت بعض الكتب قد نُشرت في السنوات الماضية عن رياضة الصيد والسياحة بالسودان. وبالفعل يمتاز هذا البلد بالغنى والتنوع في هذه الجوانب. غير أن به أيضا الكثير من الجوانب التي لم تحظ بالدراسة مثل موارده الطبيعية الهائلة، وطرق ووسائل إدارته، وتنميته بصورة عامة. لقد أعلن لورد كرومر من قبل أنه "من أجل تقدير الأعمال العظيمة التي يؤديها الموظفون بالسودان بكل حماس وذكاء، فإنه من الضروري ليس فقط قراءة ما يكتبونه من تقارير، بل القيام بزيارة كل تلك المناطق النائية الوعرة التي كانوا يعملون فيها". وقد عقدت العزم على أن أفعل ذلك. غير أنني لم أتمكن من تنفيذ ما عزمت عليه إلا بعد مرور عدد من السنين بعد ذلك. فقد أجبرتني مهمات مختلفة في مناطق متباعدة في العالم (أمريكا الوسطي والمكسيك والبلقان والشرق الأدنى)، ولم أستطع زيارة السودان للمرة الثانية إلا في خريف عام 1913م. ولا شك أن مسيرة التطور كانت قد تواصلت في تالك الفترة دون انقطاع. وكان العامة في بريطانيا قد بدأ يظهرون بعض الاهتمام الواعي بالأعمال العظيمة التي كان يؤديها أناس من بني جلدتهم في الخارج في صمت ودون ضجة إعلامية من أي نوع. فقد كان هؤلاء الرجال من الذين يمجون الكلام عن أنفسهم، وقلما تأتي الصحف لهم على ذكر. وتزامنت زيارتي الثانية للخرطوم مع كساد اقتصادي حاد بالبلاد، وانقطاع للمطر وانخفاض منسوب فيضان النيل. وكان اللورد كتشنر قد حدثني عن ذلك الوضع الصعب في (المحمية المجاورة) عندما قابلته في القاهرة وأنا في طريقي للخرطوم (حيث كان قد حل محل السير الراحل ايلدون قروست كقنصل بريطانيا بمصر). غير أنه أكد لي أن ذلك الوضع هو نكسة مؤقتة ستنجلي بلا ريب عما قريب، إذ أنه كان شديد الإيمان بأنه مما من شيء بمقدوره إيقاف مسيرة التطور الاقتصادي في السودان. ولعلها كانت نعمة مستترة أن قُدر لي أن أزور ذلك البلد في ظروف مختلفة عن تلك التي رأيتها فيه إبان زيارتي الأولى، وهذا مما من شأنه أن يفتح الباب لي واسعا من أجل عقد مقارنات بين حال البلاد في الفترتين. غير أني لم أكن جاهلا تماما بالمصاعب والعوائق التي كانت تنتظرني في زيارتي للسودان. فقد كنت مدركا تماما أن تكوين فكرة كاملة عن "السودان الحقيقي" يستلزم أن ألج لمسافات بعيدة في داخل البلاد، وفي مناطق لا يصلها قطار، وبعيدة عن الأماكن (العادية) التي يقيم بها الرجال البيض. ويتطلب أيضا اجتياز القفار والوديان على ظهور الإبل لمئات الأميال، وتحمل مشاق الحرمان والنَصَب والحر الشديد بالنهار، والبرد القارس ليلا (في الشتاء). غير أن كل ذلك لم يفت في عضدي، رغم أن كل النصائح التي تلقيتها من مختلف الجهات كانت متضاربة ومتناقضة (فالآراء متعددة بعدد الذين يعتنقونها Quot-homines-tot-sententiae). وهنا يجب أن أذكر – بمزيد من الشكر والعرفان – المساعدة الرسمية التي عرضها على الحاكم العام. والشكر موصول أيضا لكبار المسؤولين في مختلف المديريات الذين قدموا لي عونا عمليا في تحضير حملاتي التي تجوب مناطقهم، وترشيح بعض العمال الأكفاء الذين يمكن الاعتماد عليهم، وفي تحديد أقصر الطرق الموثوقة للوصول لمختلف مناطق مديرياتهم. ودون إفراط في النفي، أؤكد هنا أن هذا الكتاب لا يمثل بأي شكل من الأشكال آراءً رسمية لحكومة السودان. فهذه الآراء التي أوردتها في هذا الكتاب هي آراء المؤلف، التي آمل أن تكون بعيدة عن أي تحيز. غير أن الاحصائيات التي وردت في الكتاب مأخوذة من مصادر رسمية، إذ أنها المصادر الحديثة الوحيدة المتوفرة التي يمكن الاعتماد عليها والوثوق بها. وكان من المأمول أن يرى هذا الكتاب النور في خريف عام 1914م. غير أن نشوب الحرب (العالمية الأولي) غير من ذلك المخطط.