صحيحٌ أن تجمّع المهنيين قاد تخطيط الثورة، لكنّ ثقله كان أنّه جاء من خارج المنظومات السياسيّة المعروفة، اكتسب ثقةً وفي الظروف الشعبيّة الناضجة، الشخص المناسب في المكان المناسب، إذ أن كلّ من سيأتي بجديد في تلك المرحلة سيتبعه الشعب حتّى الموت، كما حدث ورأينا وعشنا.
لكن حقيقته أنّه تجمّعٌ سياسيّ، مكوَّن من ذات التنظيمات والأحزاب التي تتشاجر على المستوى السياسي الصرف، ذات آليات العمل، ذات حقل الصراع، وكلّ ذلك منقولٌ مباشرةً من عالمٍ قديمٍ مضى واندثر، بث مباشر حي، كما كنا نُشاهد – مُندهشين- في الماضي الحرب العالميّة الثانيّة بعد أن لوّنتها التقنيات الحديثة.
جيّد جدّاً، كان ذلك هو المُتوقَّع والمرجو، ما الذي كنّا نتوقّعه؟ لماذا يصيبنا ذلك بأيّ إحباطٍ حتَّى؟ وكأننا لم نَرَ ذلك مُقبلاً؟ من أين نأتي بسياسيين؟ أهم ديل قدرتنا وتجربتنا، وأفضل ما يمكن أن يزيل كل همّ هو أننا نستطيع أن نُعبّر بحريّة عن كل ذلك، أن تُوجَّه الانتقادات وتنتشر الكتابة الذكيّة، وتُدار الحوارات الخلاقة بين الجميع.
سؤال آخر، أصلاً: من أين نأتي بجَوهرٍ أخلاقيٍّ لسياسة عالم اليوم ككل؟ إن ما يحدث في السودان، مقارنةً بما يحدث ما بين الحكومات والشعوب في كل الإقليم والمنطقة، لهو مُميّز وجديد وخلاق، وسيستمر باستمرار الثورة والتي نحمد استطالة طريقها والتوائه، ونتمنى أن لا ينتهي أبداً بتحقيق أهداف الثورة المعلنة، بل أن يَخلِقَ التحقيقُ أهدافاً ثوريَّةً جديدة وخلاّقةً أخرى، إلى أن تمتدّ بثورتنا –أحلمُ- لتلتحم أكثر مع نضال الإنسان الأصيل، والذي تنتمي ثورتنا لتاريخه الغريزيّ المتأجّج في رفض الظلم منذ أن خُلِق.
يعلم الجميع أنّ العمليّة الجراحيّة الجارية حالياً في الحقل السياسي قد تمّ تفاديها بكل الطرق الممكنة، للدرجة التي أصبح به المشهد في خلال العام الماضي أشبه بدراما عجيبة، التكرار المريب للتأكيد على وحدة قوى الثورة. يا ناس انتوا جنيّتوا؟ هو السودان ذات نفسو لم يتوحّد من قبل أبداً، ولم يكن دولةً واحدة في حياته سوى مرة واحدة، نادرة، في اعتصام القيادة العامّة بالخرطوم ومدن السودان، القرى البعيدة النائية؛ مرة واحدة بنبض ثورة ديسمبر. وإنّ الحوار الفكري والثقافي الذي بَنَى نَفسَهُ من روح الاعتصامات، تحطَّم بضربةٍ ذابحةٍ بفض الاعتصامات، فإن لم ينتبه العسكريون والسياسيّون أن الصدمة الجماعيَّة -التي لم تحدث في تاريخ السودان من قبل- لم تتم مواجهتها بعد، وأنها باقية حيّة لن تندمل؛ تمزّقت خلالها علاقات وتناثرت دماء وجُنَّ من جُنَّ وساح في أرض الله الواسعةِ من ساح؛ إن لم ينتبهوا أنها خندق فاصل بين تاريخين لذات البلد المُكتَشَف حديثاً، وبتصوّراته الثوريّة الجديدة حتَّى من قبل أبنائه الذين لم يعرفوه من قبل قط إذ وُلدوا وعاشوا في حيواة أهاليهم المنفيين.
لم يعد تفادي كل ذلك ممكناً، ومن يظن أن الثورة من الممكن أن تعمل كعصى موسى –بتعبير السياسيين الشائع- لتغيير الحركة السياسيّة السودانيّة جوهريّاً وجذريّاً بين يومٍ وليلة، فالثورة داخل هذه الكيانات السياسيّة لم تحدث بعد، لا فكريّاً ولا تنظيميّاً ولا عضويّاً، كيف لهم أن يلتحقوا بثورةٍ (فايتة الكبار والقدرها)؟ كانت تبريرات الهروب من الثورات الداخليّة دائماً يصبّ في مجرى الجمل المستهلكة من شاكلة "العدوّ المُشترك"، وقد تبخّرت هذه الأشباح مع بيوتها. والآن، حتّى وإن صُنعت ملايين الشياطين الجديدة، كيف الهروب من عيون الثوّار؟ وماذا عن قيادات الثورة التي أصبحت شعلة الثورة بتقديمها الروح والدم؟.
لأكن متشائماً وأقول أن تجديداً ثوريَّاً حقيقيّاً داخل جميع الأحزاب السياسيّة السودانيّة أمرٌ مُستبعد في واقع اليوم وعالمه المترابط. لقد طَرحت الشعوب السودانية قضاياها ونقاطها واضحة خلال ثورة ديسمبر، ولم يعد من داعٍ لوجود من يتحدّث باسم المهمّشين أو الفقراء في الجانب السياسي أو المسلَّح، لم تعد التنظيمات، بحداثة وقديمها، بقادرة على استيعاب قدرة النقد الفرديّ وحريّة التعبير الفرد.
لماذا التشاؤم؟ لا تزال أحزابنا طائفيّة، قوميّة، آيديولوجيّة. فبدلاً عن النظر إلى ما تحتاجه الثورة العالميّة، وما في الثورة السودانيّة من قيم عظيمة يمكن أن تُهدي العالمين، تتمترس الحركة السودانيّة حول ماضٍ قاسٍ ومرير، ولا تريد أن تُجيب حتّى عن أي أسئلةٍ حساسّة تتعلّق بوجودها، بذات أدواتها وتفاكيرها وقوانينها الاجتماعيّة والثقافيّة.
كذلك لم يعد تفادي الصدام بين المجتمع والأجيال الثائرة الجديدة مُمكناً، فهو لم يتوقّف عن الحدوث وتصاعد خلال سنوات حكم الكيزان الأخيرة، وهذا قد أفرزنا له حيّزاً موسّعاً في كتابةٍ نُشرت بمجلة الحداثة في العام 2018م بعنوان (ديباجة خياليّة حول الثورة: حول الزمن الثقافي والأعين المشعة)، والنص متوفّر على الإنترنت.
أقول، إن الحريّة قد اقتُلِعت، ولم يتنازل الشعب بجميع فئاته عن سقفها أبداً، وهذا هو الإنجاز الأكبر للثورة إلى الآن، وهو الأخطر على أهل عالم السودان ما قبل خندق الاعتصام، لا تنازل عنه، ولا إمكانيّة في يد أي سلطةٍ أن تُصادره –الإنجاز- مرةً أخرى، إذ أن الوعي بالحريّة ارتفع إلى مستوى البديهيّات والحقوق الأساسيّة، فإن كان السلام مُعرقلٌ في المفاوضات، كذلك العدالة بأشكالها المتعددة، وتحديداً تحقيقات مجزرة فض اعتصام القيادة العامّة، نسبةً للكثير من الحيثيات القانونيّة والحقوقيّة وقضايا الحرب والتهميش والنزوح المعقّدة؛ فذلك يكشف أنّهما الأصعب تحقيقاً، والأشد تخويفاً للقوى المضادّة للثورة، فبتحقيقهما سيخرج السودان سالماً من أزماته الاقتصادية والثقافيّة والاجتماعيّة، وحلّ هذه الأزمات بالتحديد، في ظل سلامٍ وديموقراطيّة وحريّات، يتطلب جهداً أشد بأساً من جهد الثورة ذاتها، فهو جهدٌ فكريٌّ وبدنيٌّ وروحي ووطني. عرقلة هذه الملفات هو ما يحدث، والرعب من مستقبل الديموقراطيّات بعد عشر سنوات مثلاً، وإمكانيّة الوصول إلى دولة حديثة علمانيّة ديموقراطيّة متعددة كبداية وتمهيد لنضالٍ طويلٍ وأصعب.
eltlib@gmail.com
////////////////////