موهوك كندا ضد دراويش السودان: مواجهة مستبعدة الوقوع بين أفريقيا وأمريكا Mohawks vs. Dervishes: An unlikely encounter between Africa and America Eric Taladoire إيرك تالاود ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص لمعظم ما ورد في مقال بقلم إيرك تالاود عنوانه الأصلي: "الموهوك ضد الدراويش: مواجهة مستبعدة الوقوع بين أفريقيا وأمريكا"، ورأيت أن أضيف "كندا" و"السودان" إلى عنوان المقال المترجم من باب التوضيح. نُشر المقال إسفيريا في موقع https://www.academia.edu/ وكاتب المقال، إيرك تالاود (1946م - ) هو كاتب وطبيب ومؤرخ من أمريكا الوسطى، ويعمل الآن أستاذا فخريا لعلم الآثار في جامعة السوربون بباريس. والموهوك (بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبديا) هي قبيلة من الأمريكيون القدماء في أمريكا الشمالية كانت تعيش في وادي الموهوك، بالقرب من بحيرة أونتاريو. ويعيشون الآن في سانت ريجيس بنيويورك، وجنوب شرق كندا (كويبيك وأنتاريو). سبق لنا ترجمة مقال عن "قصة بناء خط السكة حديد عبر الصحراء" ورد فيه ذكر مهندس كندي اسمه إيدوارد جيروار، Edouard Girouard كان هو مستشار كتشنر في الأمور الفنية المتعلقة بمد ذلك الخط (https://www.sudaress.com/sudanile/28558). المترجم ********** ********** ********** لم يكن لروائي (مفرط الخيال) أن يتخيل مقابلةً على النيل في عام 1884م لرجل كندي من قبيلة الموهوك مع ضابط سوداني في الجيش البريطاني – المصري وهو في طريقه لإنقاذ الخرطوم التي كان الدراويش (أي أنصار المهدي. المترجم) يحاصرونها. غير أن هذا هو ما حدث فعلا. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع الآن توثيق حقيقة حدوث مثل ذلك الاجتماع، إلا أنه ليس هنالك أدنى شك في أن الموهوك والجنود السودانيين قد عملوا سويا في الحرب ضد أنصار المهدي. الموهوك على النيل عرض الخديوي محمد سعيد باشا في عام 1884م على الجنرال غردون قيادة الحامية المصرية بالسودان وتنظيم عملية إخلاء مدينة الخرطوم التي كان يهددها المتمردون المسلمون المتعصبون (أنصار محمد أحمد المهدي). وكان هؤلاء الأنصار قد هزموا من قبل الجيش المصري في عدة مواقع واستولوا على عدد من المدن (كان منها مدينة الأبيض في عام 1883م، بعد هزيمتهم لهكس باشا)، وبذا صاروا مصدر تهديد لسيطرة بريطانيا على مصر. وأرسلت القوات البريطانية – المصرية فرقة استكشافية بقيادة الجنرال سير قارنت ولسيلي لفك الحصار عن الخرطوم، ومساعدة غردون في إخلاء الخرطوم. وتجاهلت السلطات البريطانية كل المؤشرات الدالة على قوة جيش الدراويش وقللت من شأنه وأبطأت في تحركاتها. واستغرق تنظيم حملة إنقاذ غردون وقتا أطول مما كان ينبغي لها. وكان ولسيلي مهموما بكيفية عبور جنده الصحراء للوصول إلى الخرطوم، ونقلهم مع مؤونهم ومهامهم في مراكب عبر النيل مع ما فيه من شلالات. وكان الجنرال ولسيلي ضابطا مخضرما، سبق له ولعدد من مرؤوسيه القيام في عام 1870م بعمليات عسكرية في مانتوبا بكندا ضد المتمردين من البيض والهنود وذوي الأصول الهجينة. ولا شك أنه كان قد لاحظ وقدر مهارات وقدرات المدنيين المتطوعين الكنديين الذين كانوا يعملون لتأمين عمليات النقل على البحيرات والأنهار (وكانوا يُسمون بالمسافرين travellers). وكان هؤلاء خبراء في التعامل مع القوارب والزوارق الطويلة الخفيفة (canoes) المستخدمة في نقل الرجال والعتاد. وكان الجنرال ولسيلي يذكر جيدا هؤلاء المراكبيَّة الخبراء الموثوقين الذين يمكن الاعتماد عليهم، ويعلم أنهم لم يتعرضوا لأي خسارة في أثناء عبورهم للعديد من منحدرات الأنهار. لذا فكر الجنرال ولسيلي في جلب مجموعة من المتطوعين من "فرقة الرحالة الكندية" للمشاركة في عبور شلالات النيل، على الرغم من جهلهم بالبلاد وطبيعتها. وكان يثق في أن بمقدورهم إنجاز تلك المهمة المحددة دون التدخل في العمليات القتالية. وكان القيادة البريطانية ترغب في الحصول على 300 من أولئك المراكبيَّة، غير أن 367 منهم تقدموا بطاباتهم للالتحاق بالفرقة، كان منهم 86 من هنود كويبيك ومانيتوبا وأونتاريو، من بينهم 56 من الموهوك من كاناواكي (وهي محمية للسكان الأصليين في كندا. المترجم(. وترك لنا النقيب لوي جاكسون روي توايهكينرا (1885م) وصفا ينبض بالحياة عن مغامراتهم ويزخر بالكثير من التفاصيل التقنية، مع ملاحظات عامة عن مصر. وكان المتطوعون الهنود (خاصة الموهوك) من القبائل التي آثرت الهجرة إلى كندا عند نهاية حرب الاستقلال في 1783م بسبب ولائهم للتاج البريطاني. وكان معظمهم يجيد التحدث باللغة الإنجليزية، وكان قربهم من القبائل الأخرى والأفراد المهجنين قد جعلهم يتحدثون الفرنسية أيضا، ولكن بطلاقة أقل من الإنجليزية. وركب المتطوعون سفينة اسمها (ملك المحيط Ocean King ) توجهوا بها في خريف 1884م لإنجلترا، ومنها إلى جبل طارق، وأخيرا إلى مصر. ووصلت سفينتهم إلى الإسكندرية في السابع من أكتوبر بعد رحلة هادئة (رغم حدوث بعض المشاكل بينهم، وإصابة بعضهم بدوار البحر). ثم انتقلوا بالقطار إلى القاهرة. وسجل جاكسون معلومات لا تخلو من طرافة عما شاهدوه وهم في طريق رحلتهم إلى القاهرة عن حياة المصريين وطرق زراعتهم وفقرهم البادي. وكان يقود تلك الفرقة العقيد دينسون، وضُم إليها قسيس دير بوشار، وطباخين خاصين. وكانت تلك التفاصيل تؤكد استقلالية الفرقة، وحفاظ أفرادها على نمط حياتهم التقليدية. وانتقلوا عبر النيل على ظهر صَّنْدَلُين كبيرين خلفهما باخرة إلى أسوان ومنها إلى الشلال الأول الذي بلغوه في يوم 21 أكتوبر. ولم يسمح للمتطوعين بزيارة الأقصر أو طيبة في أثناء تلك الرحلة، رغم أن بعضهم تمكن من زيارة "أبو سمبل" لفترة قصيرة. ولحق المتطوعون بقوات الجنرال ولسيلي وانتقلوا على ظهر أربعين مركبا (تعرف بزوارق الحوت whaleboats، وهي مراكب كانت تستخدم في صيد الحيتان. المترجم). وفي وادي حلفا وجدوا الجنرال ولسيلي شخصيا في استقبالهم، وقدم لهم تعليماته، وتحدث قليلا مع بعض أصدقائه القدامى (فقد كان قد حارب مع والد لوي جاكسون). ثم بدأوا بعد ذلك في تنفيذ مهامهم بعد مغادرتهم لوادي حلفا. ثم انتقلوا بالقطار وبقوافل برية للقيام بعبور الشلالات، وكان ذلك عملا شاقا وصعبا للغاية. وكان وجود التماسيح في تلك المنطقة مصدر قلق لأولئك الرجال الكنديين، الذين كان التمساح بالنسبة لهم يكاد يكون حيوانا خرافيا. وأورد لوى جاكسون أن فرقتهم لم تخسر الكثير من الرجال، فقد بلغ عدد من فقدتهم الفرقة 16 رجلا (منهم ستة ماتوا غرقا في النيل). وعند نهاية رحلتهم النيلية انضموا للقوات المصرية والفلاحين المحليين، وقاموا بتدريب هؤلاء على حل صعوبات الملاحة. وبعد أيام قليلة من نجاحهم في عبور آخر شلال على النيل (في يوم 15 يناير 1885م) ورؤيتهم للجيش البريطاني وهو يغادر للخرطوم، صدرت لهم الأوامر بالعودة إلى وادي حلفا، والتي غادروها في 29 يناير إلى القاهرة. وهنالك سمح لهم بالتجول في المدينة وزيارة معالمها السياحية مثل الأهرامات وغيرها. وفي فبراير غادروا ميناء الإسكندرية لبدء رحلة الرجوع لوطنهم. لقد أكملت "فرقة الرحالة الكندية" مهمتها بنجاح كبير، وهذا ما جعل رجالها ينالون مرتبات جيدة. ونال العديد منهم بعض الميداليات والمكآفات، وتم تكريمهم بلقاء مع الملكة فيكتوريا في قصرها أثناء توقفهم لفترة قصيرة في إنجلترا. واستقبلوا في كندا استقبال المنتصرين. وبدأ النقيب جاكسون في كتابة مذكراته عن تلك الرحلة الخارجية الغريبة. وعبر في مذكراته تلك، ببعض الصراحة، عن فخره (الموهوكي) بكونه أفلح في تدريب سكان وادي النيل على الملاحة في نهرهم. وفي لحظات مغادرتهم عائدين لبلادهم، كانت الخرطوم قد سقطت في أيدي أنصار المهدي في يم 26 يناير 1885م، وقُتل غردون باشا. ولذا فقد ذهبت جهودهم أدراج الرياح، على الرغم من الجنرال ولسيلي أثنى عليهم ثناءً حارا، وقال إنه لو توفر لقواته المزيد من أولئك المتطوعين الكنديين لأنجزت المهمة المطلوبة في اللحظات الحاسمة. ومهما يكن من قيمة ما صرح به الجنرال وليسلي، فقد أنجز أولئك الرجال في غضون أربعة أشهر المهمة التي أسندت إليهم، وأتيحت لهم فرصة رؤية مصر ومعالمها، واحتكوا بالكثير من الضباط والجنود المصريين، وكانت تلك تجربة جديدة ومثيرة ومميزة لكثير من رجال الموهوك الذين لم يكن يعلمون الكثير عن تلك الدول (غير المعروفة). قدامي المحاربين من المكسيك إلى الخرطوم وتقودنا تلك القصة (الملحمية) القصير، المشهورة نوعا ما في كندا، إلى مصادفات غريبة تتعلق ببعض أصدقاء وأعداء الموهوك. فقد كان هنالك العديد من الضباط السودانيين في مصر قاموا منذ سنوات خلت بعبور المحيط الأطلسي (في الاتجاه الآخر) للمحاربة مع الفرنسيين في المكسيك. فقد أرسل الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث في عام 1862م حملة استكشافية إلى المكسيك ضمن مشروعه الخيالي لإقامة إمبراطورية لاتينية يحكمها الأمير النمساوي ماكسميليان. ولا أود هنا الإطالة في أمر غزو دولة صديقة تحت ذريعة سطحية واهية، وهي حملة عسكرية مختلفة عن الحملات الاستعمارية المعتادة في ذلك الزمان. وعلى الرغم من أن الجيش الفرنسي في المكسيك كان قد أحرز في بداية الأمر بعض الانتصارات، إلا أنه بدأ يخوض معارك استنزاف شرسة ضد الحكومة الجمهورية الشرعية، التي صارت تجند جيوشا (شعبية) صغيرة تجيد فنون حرب العصابات، بقيادة رئيس شرعي منتخب هو بينيتو بابلو خواريز(1806 – 1872م، وهو من السكان الأصليين. المترجم). وتفاقمت خسائر القوات الفرنسية، خاصة في منطقة ساحل المكسيك حيث كانت الحمى الصفراء شائعة، وتسببت في مقتل الكثير من الجنود الفرنسيين. لذا تقدمت الحكومة الفرنسية بطلب إلى محمد سعيد باشا خديوي مصر لإرسال جنود مصريين إلى المكسيك للعمل تحت قيادة الجيش الفرنسي (بحسبان أنهم أكثر مقاومةُ للحمي الصفراء وتعودا على الأجواء الوخيمة). وبالفعل تم اختيار كتيبة (أورطة) من الجنود السودانيين المسلمين للمحاربة باسم الامبراطور الفرنسي الذي كان يحاول تنصيب الأمير النمساوي على عرش المكسيك ضد القوات المكسيكية التي كانت تصدهم دفاعا عن الحكومة الجمهورية الشرعية. وتكونت تلك الكتيبة المعروفة باسم (كتيبة الزنوج المصرية Negro Egyptian Battalion) من 446 فردا سودانا في رفقة مترجم مصري اسمه محمد صقر. وسجل المؤرخان البريطانيان ريتشارد هيل وبيتر هوق في كتاب لهما صدر عام 1995م اسم وأصل كل جندي في تلك الكتيبة، وخلصا إلى أنهم كانوا من عرقيات سودانية مختلفة، وكان واحدا منهم تشادي الأصل. (يمكن الاطلاع على عدد من المقالات المترجمة عن تلك الكتيبة في المراجع أسفل المقال1. المترجم). وكان معظم أولئك الجنود من المسترقين السابقين الذين تم تحريرهم وتجنيدهم بعد أن أُدخلوا في الإسلام. وكان يقود تلك الكتيبة ضباط وصف ضباط مصريون. غادرت تلك الكتيبة ميناء الإسكندرية في الثامن من يناير عام 1863م، وبلغت المكسيك في فبراير. وتولى عدد من ضباط وصف ضباط الجيش الفرنسي قيادة تلك الكتيبة عقب وصولها للمكسيك، وأُلحق بها بعض المترجمين الإضافيين. وكان أحد أولئك الضباط الفرنسيين، واسمه النقيب شابلن، يتحدث العربية بطلاقة. وللمرء أن يتساءل عن طبيعة ونوعية العلاقات العسكرية والانسانية في تلك الكتيبة المختلطة الأعراق، خاصة وأن عربية النقيب شابلن ومن معه من الضباط كانت هي العربية التي يتحدث بها الجزائريون، بينما كان غالب الجنود السودانيين لا يعرفون غير لهجاتهم (العربية) الخاصة، واللهجة المصرية أحيانا. وشكل الطعام مشكلة أخرى أمام هؤلاء الجنود. فقد كان من اللازم تحضير طعام (إسلامي) خاص لهم، يخلو تماما من لحم الخنزير والنبيذ والمشروبات الكحولية الأخرى. غير أنه لم يتم تعيين "فقيه" خاص لمقابلة احتياجاتهم الدينية (من فتاوى وغير ذلك). ولم تخسر الكتيبة إلا عددا قليلا (لا يتجاوز العشرين) من أفرادها في أثناء الرحلة وفيما بعدها. ويبدو أن أولئك الجنود تأقلموا سريعا على بيئتهم الجديدة في فيراكروز Veracruz، وفي حاميات صغيرة في لا سوليدادا La Soledad وميديلن Medellin ولا تجرية La Tejería ، حيث عملوا مع قوات أجنبية أخرى من جزيرة مارتنيك Martinique، ورجال عصابات العقيد دوبن السيئة السمعة. وكان من المقرر أن تكون إقامة تلك الكتيبة في المكسيك محدودة بشهور قليلة، غير أن الخديوي كان مترددا في إرسال كتيبة مصرية جديدة للمكسيك. لذا تُرك الجنود السودانيون المساكين لحالهم وللرعاية الفرنسية في المكسيك حتى نهاية الحرب في عام 1867م. وبذا بقوا فترة أطول بكثير مما كان مقررا سلفا. وتَرَكَ أولئك الجنود أثرا عميقا لدى المكسيكيين الذين لم يعتادوا على رؤية أفارقة من قبل، وذلك نسبة لشجاعتهم الفائقة وانضباطهم الشديد وقوة شكيمتهم. ومنحهم طول قاماتهم وما يرتدونه من أزياء بيضاء ناصعة وقبعات حمراء فاقعة هيبة وجلالا. ويتفق معظم من كتبوا عنهم على شدة اخلاصهم وقوة تضامنهم. غير أنهم كانوا في نظر المكسيكيين الذين كانوا يخوضون ضدهم المعارك رجالا يتصفون بوحشية مفرطة، رغم أن الآخرين الذين كانوا يحاربونهم لم يكونوا أكثر رقة (بل كانوا جميعا يقاتلون تحت شعار no quarter، أي ضرورة قتل الأعداء وعدم الاحتفاظ بأي أسرى منهم. المترجم). وعادت الكتيبة لبلادها في 27 مايو 1867م، وقد نقص عدد أفرادها إلى 310 بعد أن قُتل منهم 20 رجلا في المعارك، ومات 28 رجلا بسبب جروح مميتة، و64 من مختلف الأدْوَاء، واختفى جنديان، بينما فر 12 فردا من الخدمة العسكرية (وتبين لاحقا أن ستة منهم كانوا مرضى في المستشفى عندما غادرت كتيبتهم المكسيك، ولحقوا بها في مصر لاحقا، مما يعني أن ستة فقط من أولئك الجنود آثروا البقاء في المكسيك). وشاركت الكتيبة السودانية في باريس ومدن فرنسية أخرى في عروض عسكرية قبل أن تؤوب لبلادها. ونفترض أن هؤلاء الجنود تعلموا شيئا قليلا من الفرنسية أو الإسبانية بعد قضائهم لأربعة أعوام في المكسيك. ويجب أن نذكر هنا أن هنالك من الأفارقة من شارك في معارك المكسيك قبل الكتيبة السودانية مثل القوات الجزائرية (التابعة للمستعمر الفرنسي) والمسترقين السابقين الذين شاركوا في الحرب الأهلية (الأمريكية). وهنا يمكننا أن نقارن بين وضع السودانيين (كوحدة عسكرية مستقلة) في المكسيك، و"فرقة الرحالة الكندية" في السودان، وأنهما كانا يعملان معا في سياق غير مألوف. فقد نُقل السودانيون من الصحراء النوبية إلى أدغال فيراكروز الاستوائية الكثيفة، بينما غادر الكنديون بحيراتهم وبراريهم إلى الرمال المصرية (لعله فات على الكاتب أن السودانيين كانوا مجبرين على السفر للمكسيك بحسبانهم جنودا لا حق لهم في الاعتراض على ما يصدر إليهم من أوامر، بينما تطوع الرجال الكنديون من تلقاء أنفسهم للقيام بما قاموا به من أجل المال. المترجم). وكان السودانيون أكثر حيرة من الموهوك، على الأقل في بداية ملحمتهم. فقد كان الموهوك على معرفة جيدة بنمط الحياة الكندية، وتلقى بعضهم نوعا من تعليم المدارس. وحتى إذ لم تُعد كتابات لوي جاكسون أو جيمس دير من الأعمال الأدبية الرفيعة المستوى، فهي، على الأقل، دليل قاطع على معرفتهم بالقراءة والكتابة. وعلى العكس من ذلك، كان السودانيون رجالا بسطاء وأميين (كانوا في الأصل فلاحين أو رعاة)، ومنحتهم تجربتهم في المكسيك قدرا معينا من التعليم، مثلما أَرفدَهم الالتحاق بالجيش فرصة تعلم استخدام الأسلحة الحديثة وقدرة على إيقاع أكبر قدر من الخسارة في صفوف من يعاديهم، وبذا صاروا جنودا مهنيين. وأجزلت الحكومة المصرية لهم العطاء بعد أن عادوا لمصر، ورُقي معظمهم لرتب أعلى، حتى أن بعضهم بلغ رتبة (لواء أو أميرلاي) في الجيش. وكان الخديوي يأمل في أن يستفيد من تجربتهم في المكسيك، فبعث ببعضهم لوحدات الجيش في المناطق المختلفة لترقية مستويات رجالها. غير أن عددا كبيرا من رجال تلك الكتيبة آثروا الأوبة للسودان، حيث فُقد أثر معظمهم بعد ذلك (ورد في بعض المصادر أن بعضهم التحق بجنود صمويل بيكر في جنوب السودان في حملات للقضاء على تجارة الرقيق، وانضم بعضهم لقوات المهدية (مثل فضل السيد أبو جمعة الذي اشترك في حصار الخرطوم)، بينما انْخَرَطَ البعض الآخر في قوات غردون (مثل البمباشي علي جفون2). وما زال قبر محمد بيه الماظ موجودا تحت قبة من قُبَتي شارع عباس الشركسية في الخرطوم (في شارع البلدية الآن. المترجم).3 ولم يتسنّ لرجال الموهوك (الذين لم يشاركوا في أي معركة حربية) بالطبع أن يلتقوا بالجنود السودانيين الذين حاربوا في المكسيك. غير أنه من المحتمل جدا أن يكون بعض ضباط "فرقة الرحالة الكندية" قد التقوا في حفلات جمع شمل الضباط (staff reunion) الذين عملوا تحت إمرة سير وليسلي (الذي عمل في كندا والسودان). وكان بعض رجال الموهوك قد دعوا لبعض تلك اللقاءات. نخلص إلى أن العولمة التي نكثر الحديث عنها الآن، وكأنها ظاهرة مستحدثة، قد حدثت – عبر القارات - منذ عقود طويلة مضت. وفيما وراء تقاطعات ومنعرجات السياسة الاستعمارية الأوروبية، فقد كان هنالك من الناس ممن ساهموا (ولو على مضض) في تشكيل عالمنا، واستخلصوا من تجربتهم دروسا أثرت على نظرتهم الخاصة للعالم. ************* ********** ************** إحالات مرجعية 1. يمكن الاطلاع على عدد من المقالات المترجمة عن تلك الكتيبة تجدها هنا: (أ) عرض لكتاب "صفوة الفيلق الأسود" http://www.sudanile.com/77750 (ب) أفريقيا تغزو العالم الجديد: مغامرة مصر في المكسيك (1863 – 1867م) https://www.sudaress.com/sudanile/110452 (ج) تنازع القوانين https://www.sudaress.com/sudanile/4966 (د) الجنود السودانيون في المكسيك shorturl.at/epu02 2. مذكرات جندي سوداني (علي أفندي جفون). http://www.sudanile.com/76321 3. قُبَتا شارع عباس الشركسية. https://www.alrakoba.net/676512/%D9%82%D9%8F%D8%A8%D9%8E%D8%AA%D8%A7-%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D8%B9-%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D8%B7%D9%88%D9%85-%D8%AD/