السودان … ضياع هامش المناورة الدولية

 


 

 

 

سيشهد العالم انكماشاً في الفترة التي ستلي أزمة الكورونا، سيما أن الدول المتقدمة ستتفرغ لبناء إقتصادتها المنهكة، ولن تولي أهمية لإعادة توجيه جهدها لتحقيق التضامن اللازم لاستنقاذ البشرية من كارثة يمكن أن تصيبها من جراء التركيز على المصلحة الذاتية، فلم يصل العالم إلى ما وصل إليه، إلاَّ بفعل الأنانية التي كانت هي السمة السائدة لفترة ما بعد الحرب الباردة، وبروز الأحادية التي مكَّنت للقطب المنتصر توظيف العولمة لصالحه، الأمر الذى كاد أن يتسبب في كوارث بيئية ومجتمعية على مستوى المعمورة.

إن تأخرنا في كسب صداقة حكومتي قطر والسعودية، والتعريف ببسالة ثورتنا في الهند والصين وروسيا، وقصر علاقتنا على بعض الدول، منهم الأصدقاء مثل الإمارات والأعداء مثل اسرائيل، يمثل خطأً جسيماً كاد أن يحرمنا من "هامش مبادرة دولية أوسع" لتعظيم الضغوط على أعدائنا، وتشجيع أصدقائنا للتعامل معنا بصورة فيها نوع من الجدية والصدقية، وإلاّ فما هي جدوى تسهيل اللقاءات السرية للقادة العسكريين السودانيين مع قادة الكيان الصهيوني؟ ألم تفطن الولايات المتحدة أن العلاقات الأكثر استدامة هي التي تعقد مع الشعوب وبواسطة نظم تتمتع بقدر من الديمقراطية؟. ما الذي فعلته الولايات المتحدة لكسر جدار العزلة والتهميش الذي بنته حول السودان وشعبه؟ هل تخلص الشعب السوداني من أنظمة الاستبداد الرجعية، ليكون عوناً في بسط أنظمة الذل والهوان على الشعوب الأخرى؟ كيف تسنى للولايات المتحدة محاصرة السودان بدعوى الإرهاب، والتعاون مع ذات المجموعة الكيزانية لمحاربة هذه ”الظاهرة الكونية"؟

صحيح أن ألمانيا وفرنسا ساهمتا في تعزيز موقف الثورة السودانية في وسط الرأي العام الدولي، لكنهما لم تتحمسا لتفعيل وزنهما الاقتصادي والسياسي والثقافي لصالح الحكومة، لأنهما أحستا بضعف الكادر السوداني وافتقار الحكومة إلى الرؤية التنموية الراشدة. كان بإمكان حمدوك وطاقمه أن يلعبوا دوراً أكبر وأكثر إيجابية في تطورات الأزمة السودانية، لو أنهم وسَّعوا هامش مبادرتهم المستقلة، ولم يضعفوا أمام إرادة القوى الكبرى، تحديداً الولايات المتحدة، ولم يتوهموا أن أمريكا تريد حلاً للمعضلة السودانية، أو موقفاً ربما حرمها من دور تود أن تلعبه في إعادة صياغة جيوسياسية لمنطقة شمال شرق أفريقيا، مستخدمة حيلاً دبلوماسية، أو أخرى سياسية حربية لا تتحقق إلا بالانهيار الشامل للقرن الافريقي.

بالنظر للاشكالات المفاهيمية التي تعتور مسيرة الحكم في السودان، وتلكم التطبيقية التي تعمقت بسبب هيمنة الطائفية على المشهد السياسي، وتبادلها الأدوار من المؤسسة العسكرية، فإنه يلزمنا أن نُعْمِل معولنا لنقد الإرث السياسي والاجتماعي وتفعيل حواسنا النّقدي كي نستطيع الانتقال بمجتمعاتنا من خانة الركوض الحسي والمعنوي ونستشرف آفاق تنموية رحيبة، لن تتأتى إلا إذا انعتق الفاعلون السياسيون من الخرافة واعتمدوا العلم والدمقرطة وسيلة لربط السياسة ببرامج التغيير الاجتماعي والاقتصادي.

ظللنا نكرر ونقول إنّه يلزم السودان تصميم إستراتيجية تنمية وطنية، تعينه على تحديد مساراته السياسية والدبلوماسية، وتطوير سياسة أمنية سودانية مستقلة. إن تَنَقُّل السودان بين المعسكر الشيعي الذي تتحكم فيه إيران فترة الانقاذ، والمعسكر السني الذي تتحكم فيه السعودية، والتنقُّل لاحقاً بين المعسكر الإسلاموي الذي تمثل فيه تركيا اللاعب الرئيس، وذاك العلماني الذي تدعمه دولة الإمارات، لم يخضع لأي دراسة منهجية أو اعتبارات مؤسسية، بل مجرد المزاجية التي حرمت السودان من فرصة التموضع الجيواستراتيجي الإقليمي، واستعادة مكانته في شمال شرق أفريقيا.

الشاهد، أنه تم ارتماء الحكومة السودانية على الهيئات الدبلوماسية الدولية، من دون حساب ولا قواعد ولا تحفظات، وما ذلك إلا بسبب ضعف الحكومة، وتجاهلها لأبسط قواعد العمل السياسي. إذا لم يكن من الممكن انتزاع السودان من محيطه ومن علاقته المتعددة، فلابد من النظر إلى جارتيه، مصر واثيوبيا، اللتين تمارسان السياسة تجاه السودان، وفق نهج شراء الولاءات، والعمل مع الأطراف كزبائن لكنهما مطلقاً لم تنظرا إليه كشريك يجب التسيق معه. ما كان لشعب يحترم تاريخه وإرثه أن يراهن على التعاون مع دول تحتل أراضيه، وتمعن في الإساءة إليه بتجيير إرادة قيادته، والتي لم تحدد بعد هدفها، ولم توجه جهودها وتضبط حراكها بما يضمن أن تكون الأجندة الغالبة هي أجندة السودانيين الثوريين. هؤلاء الثوريون لم يكونوا يوماً معنيين بكراسي الحكم، ولم يسعوا أبداً للتسكع في دهاليزه، لكنّهم إذ أحسوا فوضى في التعاطي مع شأن الحرية ولمسوا تباطؤاً في تحقيق السلام، واستشفوا تواطؤاً عن إحقاق العدالة، قرروا ممارسة حقهم الديمقراطي في التعبير عن تحفظاتهم على الطريقة التي تدار بها البلاد، بالطرق السلمية والمدنية.

ختاماً، إن القيم المكتنزة في الأغاني والأحاجي، والمثل المسطرة في الألواح والصحاح، قد ألزمت هذا الشعب العبقري الاستمساك بالعروة الوثقى، فَلَمْ يجترئ يوماً على المُقدَّس، ولم يذوِ عن إسداء النّصح، لكنّه ليس بغافلٍ ولا رعديد، ولا ماجنٍ ولا عنيد، بل هو نابه وصنديد قادر على أخذ حقه وشديد نافذ في أمره. وها هو قد قرر الخروج في 30 يوينو معضداً على الحق، ومشدداً على المطلب ومستنقذاً للسّفينة -- التي قدّها ووسَّع فرقها إزميل (العصبية) الكبير -- من الغرق، فقد خاضت هذه السّفينة بحوراً من الدِّماء واعترضت طريقها الأشلاء، لكن بوسعنا أنْ ننتشلها بحبال الهِمّة (المعلَّقة بين الأرض والسّماء)، وبمقدورنا أن نستدفعها نحو الساحل (الممتد ما انفسحت الأرواح للتلقي)، إنْ أردنا !

سنصير شعباً، إنْ أردنا، حين نعلم أنَّنا لسنا ملائكةً، وأنَّ الشّرَّ ليس من اختصاص الآخرينْ.
سنصير شعباً حين لا نتلو صلاة الشّكر للوطن المقدَّس، كلما وجد الفقيرُ عشاءَهُ...
سنصير شعباً حين نَشتُم حاجبَ السّلطان والسّلطان، دون محاكمةْ.
سنصير شعباً حين يكتب شاعرُ وصفاً إباحياً لبطن الرَّاقصة.
سنصير شعباً حين ننسى ما تقولُ لنا القبيلة...، حين يُعْلي الفرد من شأن التّفاصيل الصّغيرةْ.
سنصير شعباً حين ينظر كاتبٌ نحو النّجوم، ولا يقول : بلادنا أَعلى... وأجملْ !
سنصير شعباً حين نحترم الصواب، وحين نحترم الغَلَطْ !

(ديوان أثر الفراشة – للشّاعر محمود درويش ص 93- 94).


auwaab@gmail.com

 

آراء