الحكومة الانتقالية – الأصدقاء الأعداء The frenemies
نجاحات واخفاقات الحكومة الانتقالية: نبدأ القول بإيراد ترجمة لوثيقة تاريخية منسوبة للجنرال غوردون وهي مذكرة بعثها الى اللورد جرانفيل عندما كان في طريق رحلته المصيرية الى مصر في يوم 22 يناير 1884 حيث جاء فيها ما يلي: “The Sudan is useless possession, ever was so, and ever will be so …, I think Her Majesty’s Government is fully justified in recommending the evacuation”. " ان السودان حيازة غير مفيدة، هكذا كان وهكذا سيكون ... وأعتقد أن حكومة صاحبة الجلالة لها كل المبررات في توصيتها بالجلاء". فاذا لم يحسن السياسيون النوايا في الاصلاح الشامل للبلاد ووقف الحروب والاقتتال و نبذ التشرذم والخلاف العميق والكراهية والعنصرية يتحقق فينا ما قاله الجنرال غوردون منذ فجر التاريخ الحديث. ثم نضع الحكومة الانتقالية في الميزان – ميزان النجاح والاخفاق: النجاحات: يبدو للمتا بع ان الحكومة الانتقالية قد حققت نجاحات تبدّى ذلك في بعض التحول الديمقراطي المحدود الذي تمثل في ارخاء القبضة الأمنية كالقبض والحبس والتعذيب الذي كان يمارس في عهد الحكومة السابقة كما توفرت الحقوق والحريات العامة على الرغم من بقاء كثير من العناصر الأمنية المشبوهة في مواقعها، وقد استؤصلت شأفة الفساد المالي والاداري. الاخفاقات: ولدت الحكومة من رحم تفجر قبل ولادتها بالخلاف بين المكون العسكري والمكون المدني منها والذي ظهر أول ما ظهر في التوقيع على الوثيقة الدستورية من طرفين متناحرين وان شئنا نقول قاتل ومقتول، وأرض المعركة كانت ميدان فض الاعتصام – القيادة العامة للقوات المسلحة، وهي الدار التي يفترض فيها أن تشمل بالأمان من دخلها لا أن تتحول لأشلاء ودماء ألا ساء ما يزرون. فلا ينبغي أن نخدع انفسنا اننا متحدون تحت حكومة واحدة وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها اذا اردنا اصلاحا في الأرض . فقد تلكأ الطرفان ابان المفاوضات التي سبقت التوقيع على الوثيقة الدستورية حتى تدخلت أطراف خارجية من دول الجوار الأفريقي لرأب ذلك الصدع العميق وبعد التهديد من الاتحاد الافريقي بتعليق عضوية السودان وافق الشق العسكري على الدخول في مفاوضات مع الشق المدني تمخض عن التوقيع على الوثيقة الدستورية على علاتها. فقد كان طرفا الوثيقة هما الأصدقاء الأعداء وهو ما يصطلح عليه في اللغة الانجليزية بـ Frenemy وهو مصطلح هجين portmanteau من friend يعني صديق ومن enemy وهو العدو، ذلك ما ينطبق في الحالة السودانية والى اليوم. فلا يوجد دستور أو اعلان دستوري أو وثيقة دستورية في كل دول العالم يجسد حلم الأجيال ودولة العدالة والحرية والسلام يوقعه طرفان وتلك بدعة سودانية سببها الخلاف العميق والتناحر بين الأصدقاء الأعداء الذين يبدون الود ويضمرون التناحر، هذه حقيقة ينبغي الاعتراف بها و العمل على تسويتها. قال البحتري: اذا ما الجرح رم على فساد تبين فيه اهمال الطبيب مظهر آخر للخلاف تجلى في تقاسم الحقائب الوزارية فاستأسد المكون العسكري بوزارة الدفاع ووزارة الداخلية – القوة الفاعلة. والانتاج الحربي والشركات والمصانع والاستثمارات وزارة الدفاع والجهات الأمنية والمؤسسات المالية كصرافات النقد الأجنبي وتحويلات العملات و مناجم وجبال الذهب التي لا علم لنا بعائداتها وهل هي تحت ولاية وزارة المالية لتفك الضائقة المالية والمعيشية للمواطن أم أين تذهب. من مظاهر الفشل والاخفاقات ان الضائقة المعيشية تستحكم حلقاتها ضيقاً كل يوم كنقص الغذاء والدواء والكهرباء والماء والمواصلات وتردي الخدمات العامة بل صار بعض المواطنين يرى ان عهد الانقاذ كان أرحم حتى علق أحد المواطنين ان في عهد الانقاذ هم يأكلوا ونحن نأكل اما الآن فالكل لا يأكل. وهذه حقيقة انظر لسعر الدولار اليوم وفي العهد السابق. من مظاهر الاخفاق عدم الاستعانة بالخبرات والكفاءات في المجالات الاقتصادية والزراعية ومجال الثروة الحيوانية والتصنيع وجذب الاستثمارات الاجنبية والفشل في وضع خطط وبرامج قصيرة المدى لتحسين الوضع الاقتصادي. طول أمد الفترة الانتقالية: لماذا حددت الفترة الانتقالية بما يقار الأربع سنوات، على خلاف ما تعورف عليه في الفترات الانتقالية السابقة في الداخل والخارج بمدة السنة؟ أتخشى الحكومة من أن ينتخب الشعب أنصار الحكومة السابقة؟ ان كان ذلك كذلك فهذه حجة واهية ذلك لأن الشعب اذا انتخب من أنتخب فهذا حقه ولا ينبغي أن تفرض عليه وصاية من خارجه ولا يصادر حقه الأصيل في ذلك، حتى ولو أتى بفاسدين مجدداً فهذا شعبكم ان يكن فاسداً أو صالحاً فهو شعبكم والتصحيح يكون بالتجارب الديمقراطية الحرة الناجحة لا بمصادرة حق الشعب في الانتخابات حتى ان كان ذلك عن طريق تأجيلها، لأن الممارسة الديمقراطية هي الكفيلة بتصويب الاخطاء وليست مصادرة الحقوق ، فلو كان صانعو الشرعية الدستورية هم الأغلبية فلا خوف على الديمقراطية والاختيار في انتخابات حرة ونزيهة وان يكن غير ذلك وكان الغالبية هم من المفسدين لابد كذلك من الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة ولو فاز بها المفسدون ذلك لأن الديمقراطية هدف في حد ذاتها وهي تصحح نفسها باستمرار وتكشف فساد الفاسدين وتبعدهم ولا يتم انتخابهم مرة أخرى، هذه هي الممارسة الديمقراطية الحقة والا نكون قد استبدلنا دكتاتوريين بدكتاتوريين آخرين وليس في ذلك أدنى درجة من الديمقراطية. التعويضات الأمريكية وانتهاك مبدأ الحصانة السيادية للسودان: عدم الخبرة والتأهيل القانوني للحكومة الانتقالية بان في الرضوخ للقضاء الامريكي بمحاكمة السودان كدولة وليس حكومة عمر البشير كحكومة وذلك في انتهاك صارخ لمبدأ الحصانة السيادية للدول المستقلة وهذا المبدأ أكدته محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر عام 2011 لصالح المانيا ضد ايطاليا وهي تماثل بل تتطابق وقائعها مع الحالة السودانية حيث قبلت المحاكم الايطالية دعوى مدنية ضد المانيا وحكمت فيها على المانيا بدفع تعويضات مالية لجبر اضرار عانت منها ايطاليا من قبل الجيش النازي الالماني – الرايخ الألماني - ابان الحرب العالمية الثانية وقد حكمت محكمة العدل الدولية لصالح المانيا وقررت أن ايطاليا انتهكت مبدأ الحصانة السيادية للدول المستقلة بقبولها دعوى التعويض ضد المانيا في محاكمها الوطنية، هذا القرار منشور في موقع محكمة العدل الدولية ولا ينكره الا جاهل. وواهم وجاهل من يعتقد ان لدينا جهات عدلية أو حكومة ذات كفاءة تدافع عن حقوق السودان، كما أن قرار المحكمة الامريكية بفرض التعويضات صادر ضد السودان كدولة وليس كحكومة ومن الجهل بمكان أن تتذرع الجهات الرسمية لدينا بانها بريئة مما ارتكبته حكومة عمر البشير لأن قرار المحكمة الأمريكية لم يصدر ضد شخص أو حكومة وانما صدر ضد السودان كدولة . تعديل القوانين في الفترة الانتقالية: فشلت الحكومة في تعيين أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي في الفترة التي حددتها الوثيقة وهي تسعين يوما بالمخالفة للوثيقة الدستورية التي وضعتها بيدها فهل يجوز لها أن تغطي ذلك الفشل بفشل آخر هو تعديل القوانين المثيرة للجدل من قبل جهة تنفيذية لا اختصاص لها في ذلك. يقول المثل الانجليزي: Two wrongs do not make a right خطآن لا يشكلان صواباً، أو معالجة الخطأ بخطأ لا تشكل صوابا.
تم التعديل بالمخالفة للوثيقة الدستورية وخاصة المادة 24 التي نصت في فقرتها الرابعة على ما يلي: " يشكل المجلس التشريعي الانتقالي ويباشر مهامه في فترة لا تتجاوز تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على هذه الوثيقة". وغنى عن البيان انه هو الجهة المخولة قانوناً بسن التشريعات وتعديل ما هو قائم منها. طالما لم يتم تعيين أو انتخاب ممثلين للشعب في المجلس التشريعي الانتقالي، فان اي محاولة لتشريعات جديدة أو محاولة لتعديل تشريعات قائمة، تمس كيان الأمة وتثير الخلاف بين فئات الشعب بإرضاء فئة وإغضاب أخرى، تعد تغولاً على السلطة التشريعية وتدخلاً سافراً من الجهاز التنفيذي في أعمال التشريع الذي يسند للمجلس التشريعي ، وذلك بصرف النظر عن صحة وسلامة تلك التعديلات بل يكفي القول في ذلك ان هذه التعديلات صدرت من غير ذي صفة كما أنها تحسب مخالفة صريحة للوثيقة الدستورية وخاصة المادة 24 منها . وهذه بداهة من بديهيات مبدأ فصل السلطات فلا يصح أن يكون الجهاز التنفيذي هو الخصم والحكم على التشريعات والمبدأ القانوني اللاتيني يقول Nemo judex in causa sua. في الختام نسأل الله سلامة البلاد والعباد. والله المستعان وعليه التكلان.