Identity, history and power in the historiography of Sudan: some thoughts on Holt and Daly’s “A History of Modern Sudan”
إلينا فيزاديني Elena Vezzadini ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم الدكتورة إلينا فيزاديني، نُشر عام 2012م في العدد السادس والأربعين من المجلة الكندية للدراسات الأفريقيةCan. J. Afr. Stud. في عددها السادس والخمسين. وتعمل كاتبة المقال أستاذةً بمعهد العالم الأفريقي بجامعة السوربون. وقد حصلت عام 2008م على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة بيرجن النرويجية بأطروحة عن حركة 1924م، وأستلت منها عددا من الأوراق من بينها ورقة تمت ترجمتها للعربية بعنوان "برقيات وطنية: الكتابات السياسية ومقاومة الاستعمار في السودان بين عامي 1920 – 1924م " http://www.sudanile.com/66233 المترجم ****** ******* ******* لا شك في أن واحدا من أهم كُتُب علم التأريخ السوداني الموثوقة هو كتاب بيتر هولت ومارتن دالي المعنون "تاريخ السودان الحديث A History of the Modern Sudan" في طبعته السادسة، عام 2011م. ويعده الكثيرون أنه بالفعل "تاريخ السودان الحديث". وعادة ما يبدأ الطلاب والأكاديميون الراغبون في التعرف على تاريخ السودان رحلتهم بهذا الكتاب، وهذا ما فعلته أنا شخصيا. وكان لهذا الكتاب تأثير كبير على من هم داخل وخارج دائرة المهتمين بالتاريخ، وظل مصدرا للمعلومات، ليس فقط لدراسي وخبراء تاريخ السودان، بل للعاملين في المنظمات غير الحكومية ووسائل الاعلام وغيرهم. ويمكن التحقق من أهمية (وشعبية) هذا الكتاب من الاطلاع على المواقع العامة المشهورة بدراسات السودان مثل صفحة حالة السودان في مكتبة الكونجرس http://countrystudies.us/sudan/ وبوابة معلومات الأمم المتحدة وغيرهما. وأسرد هنا تجربتي الشخصية مع هذا السِّفْر كمؤرخة ناشئة تبحث في التاريخ الاجتماعي لفترة الاستعمار بالسودان. ففي غضون فترة بحثي كان علي أن أتعامل مع النماذج / الصيغ (أو البارادايمات paradigms) التاريخية العديدة التي يعرضها الكتاب على نطاق واسع، غير أنه لم تفتني ملاحظة مدى نتائج "التسطيح"/ التبسيط المفرط والمؤسف - وغير المقصود بالتأكيد - لتعقيدات وثراء ماضي السودان في هذا الكتاب. ولعل أهم هدف من أهداف مقالي هذا ليس هو تناول الكتاب نفسه، بل هو محاولة كشف بعض ما فيه من مقدمات منطقية أصلية ومضمرة، وما قدمه من نماذج وصيغ (برادايمات) أساسية يقوم عليها، وفحصها فحصا نقديا حتى يتيسر لنا، نحن طلاب علم الـتأريخ، إدراك تعقيداتها. معلوم أن بيتر هولت كان مستشرقا واسع المعرفة بصورة نادرة، وسبق له العمل في القسم السياسي بحكومة السودان. وصار لاحقا أستاذا في جامعة لندن، وغدا رائدا في دراسات المهدية بالسودان (1885 – 1898م). أما مارتن دالي فهو أهم مؤرخي التاريخ الاستعماري بالسودان، وكان صاحب أسلوب متميز، يجمع بين حدة الذهن والسخرية والدقة القصوى. وكان المؤرخون يستشهدون بأعماله عندما يرغبون في تأكيد أو نفي أي معلومات خاطئة كتبها مفتش بريطاني مشتت الذهن والأفكار. ووصف أحد المؤرخين كتابيه: "السودان إبان فترة الاستعمار Imperial Sudan" الصادر عام 1991م، و"إمبراطورية على النيل Empire on the Nile " الصادر عام 2000م بأنهما "أكثر كتب تاريخ الاستعمار بالسودان موثوقية". وبلغ من تأثير هذين المؤرخين المتميزين في العديد من الجوانب أن صارا بمثابة القدوة لكل أجيال الباحثين التي تلتهم. ويُعد كتاب (تاريخ السودان الحديث) إنجازا كبيرا بالنظر إلى أنه يقدم تلخيصا لأكثر من 1400 سنة من تاريخ السودان في أقل من 200 صفحة. وبُوب الكتاب تبويبا ضيقا، إذ أنه يحوي خمسة أجزاء فحسب. الجزء الأول (صفحات1 – 32) تبدأ بمقدمة قصيرة عن البلاد وسكانها، ثم تتناول أول اتصال للسودانيين بالإسلام والعرب، حين بدأوا في التحرك جنوبا من مصر في القرن السابع، وشرعوا في تعريب السودان وأسلمته. وتزايدت عمليتا التعريب والأسلمة في نهاية القرون الوسطى حين قامت سلطنتان فيما وراء الصحراء: سلطنة سنار (في القرن السادس عشر) وسلطنة دارفور (في القرن السابع عشر). ودان الحكم في السلطنتين لسلالتين مسلمتين. وتناولت أجزاء الكتاب الثاني إلى الرابع (صفحات 33 إلى 112) تاريخ السودان الحديث في سنوات العهدين الاستعماريين: العهد التركي – المصري (1821 – 1885م)، والحكم الثنائي الإنجليزي – المصري (1898 – 1956م). وبين ذَيْنِكَ العهدين أتت المهدية (1885 – 1898م)، التي بدأت بثورة ألفية (تجديدية) قادها محمد أحمد المهدي قامت بقطع كل علاقة للسودان بمصر. ومهدت الثورة المهدية الأرضية لفكرة أن يكون السودان دولة وطنية مستقلة. أما الجزء الخامس من الكتاب (صفحات 113 – 178) فيغطي الفترة التي أعقبت استقلال السودان في 1956م. وشهدت الفترة بين 1956م و2010م ثلاثة عهود من الديكتاتورية العسكرية، كل عهد أشد عنفا من الذي تلاه (عبود، 1958 – 1964؛ النميري، 1969 – 1985؛ والبشير منذ 1989) وثلاثة عهود قصيرة من الديمقراطية. وفوق كل ذلك شهدت تلك الفترة حروبا كان أهمها حرب العصابات بجنوب السودان (التي بدأت حتى من قبل استقلال السودان من عام 1955 إلى 2005م، مع توقف أفضى لسلام بين عامي 1972م إلى 1983م، وحرب أهلية في دارفور بدأت رسميا في 2003م. وكان هذا الكتاب قد نُشر قبل عودة الحرب لمناطق النيل الأزرق وجبال النوبة. ولكتاب هولت ودالي تاريخ طويل. فالطبعة الحالية هي السادسة لكتاب نشره بيتر هولت لأول مرة في عام 1961م. وشارك مارتن دالي في تأليف الكتاب في طبعته الثالثة – بعد مراجعته مراجعة شاملة - بدءًا من عام 1979م. وعزا الكاتبان تلك المراجعة الشاملة لتوفر المزيد من المصادر البحثية عن الفترات التي يتناول الكتاب تاريخها. غير أن طبعات الكتاب التالية (التي نُشرت في أعوام 1988 و2000 و2011م) اكتفت بتجديد الكتاب ليشمل التطورات السياسية في فصول جديدة. فشملت في طبعة عام 2011 فصلا عن الجبهة الإسلامية القومية وفصلا عن الألفية الجديدة، وتركت بقية الأجزاء كما هي في آخر طبعة دون تعديل، أو ببعض الاختصار، أو بإضافة بعض المراجع الجديدة (مثل كتاب سيكنجا Salves into Workers ، الصادر في عام 1966م ؛ وكتاب عبد الله علي إبراهيم Manichean Delirium ، الصادر عام 2008م؛ وكتاب هيذر شاركي Living with Colonialism، الصادر عام 2003م؛ وكتب أخرى). وعلى الرغم من عدم مراجعة الطبعات الأخيرة مراجعات شاملة، إلا أن الكتاب ما يزال يُعد واحدا من أهم الكتب التي لخصت تاريخ السودان، لذا وصل الكتاب للطبعة السادسة. وهنالك تفسيران لهذا في نظري. الأول يتعلق بنوعية وخصائص الكتاب نفسه. فقد كُتب ذلك الكتاب بطريقة بقيت إلى الآن هي المثال والقدوة لكل مؤرخ، فأسلوبه مرتب ودقيق وشديد الاهتمام بالتفاصيل، ويوحي بأن من كتبه عزل نفسه وانسلخ تماما عما يسرده. إنه بالفعل كتاب ألفه اثنان من أكثر المؤرخين شغفا والتزاما، نذرا كل عقود عملهما الأكاديمي للسودان. أما التفسير الثاني فهو أن هذا الكتاب يعضد الطريقة التي تعودنا بها على التفكير في السودان، ويجعلنا جميعا نحس بالارتياح لذلك التفكير. وسأعود لهذه النقطة لاحقا. سأوضح رأيي في أن هذا الكتاب يؤسس (ويبرر) للتراتيبية القائمة في المجتمع السوداني. وهذا يعني أن الكتاب، رغم أنه بالفعل "تاريخ للسودان"، إلا أنه في الواقع هو تاريخ مجموعة سودانية معينة هي صفوة سكان الخرطوم والسودان النيلي. ويقدم الكتاب هؤلاء على أنهم يمثلون اللاعبين والممثلين الرئيسيين في تاريخ السودان. وهذا الرأي ليس رأيي أنا فقط، فقد سبق أن ذكره جيستن ويليس عام 2001م في عرضه لهذا الكتاب، حين كتب: " يبدو من قراءة هذا الكتاب أنه قد كُتب كمؤلف عن تاريخ الدولة السودانية، وكأنها ظاهرة فريدة ... وفيه سمى المؤلفان الغزو "تهدئة"... وعرفا الدخول للتاريخ وكأنه يماثل الرضوخ لدولة نماذجها وتوجهاتها السياسية شمالية ونيلية وإسلامية". غير أن عرض ويليس (مثله مثل عرض آخر لسبوليدنق وكابتيجينز) لم يفلحا في تقويض أو ضعضعة الأُنْمُوذَج (البراديم paradigm) التاريخي الذي قدمه كتاب هولت ودالي. لذا رأيت أن أحاول ذلك هنا، وأن أضيف بعض الحجج من واقع تجربتي. وسأناقش ثلاثة أفكار تتضمن سرديّة الأحداث الواردة في كتاب هولت ودالي. الفكرة الأولى هي أن الكتاب يبدو وكأنه قد نسي الفرق بين الهوية وبين التاريخ، فهو يروج لفكرة أن بعض السودانيين صاروا عربا بعد أن أتى العرب للسودان في القرون الوسطى، ولا يزالون عربا حتى الآن. والفكرة الثانية هي أن المؤلفين هَفَتا بالتراتيبيات الاجتماعية واختزلاها في تصنيفات تأريخية. لذا فقد قصرا تاريخهما على تاريخ الأشخاص "المهمين" والقبائل "المهمة". والفكرة الثالثة هي أن سرد هولت ودالي لتاريخ الفترات الأقرب من تاريخ السودان جنح للبحث عمن يمكن لهما إلقاء اللوم عليه، أكثر منه لمحاولة فهم تعقيدات أوضاع السودان الحالية. سيكون من المناسب أن نذكر أنفسنا بأن هذا الكتاب هو كتاب سياسي، وليس تاريخا اجتماعيا للبلاد. غير أن هنالك فروقات عديدة بين كتابة تاريخ سياسي، وبين كتابة تاريخ الأقوياء المسيطرين. إن كتابة تاريخ سياسي ينبغي أن تشمل أفكارا حول تعقيدات البلاد، ومساهمات واتجاهات ومسارات الرجال والنساء العاديين، مما من شأنه أن يتيح للمؤرخين انتهاج وتسطير أنماط تاريخية جديدة تقوم بمحاولة حقيقية لعكس ثراء البلاد وتاريخها. **** **** *** كثيرا ما يساوي علماء تأريخ السودان التقليديين (الكلاسيكيين) بين بداية تاريخ السودان وبين دخول الإسلام له، وهذا ليس بالأمر الصحيح. غير أن هذا الرأي من هو ما يروج له فعلا هذا الكتاب (صفحات 1- 9). لقد أورد مؤلفا هذا الكتاب بأن بعض القبائل العربية قد أتت لشمال السودان من جنوب مصر، ولهذا أطلق على بعض المجموعات بالبلاد كلمة "عرب". وذهب المؤلفان أيضا إلى أن أغلب سكان شمال السودان ممن يزعمون أنهم من نسل عربي ينتمون إلى واحد من قسمين ... إما "نوبة مستعربين" ... أو "جماعة جهينة" الرحل أو شبه الرحل (صفحة 3). وبهذا الرأي يتبع المؤلفان الآراء المستقرة التي دأب المؤرخون (مثل ماكمايكل ويوسف فضل) على ترديدها عن "تعريب" السودانيين. غير أن الخط الفاصل بين العرب وغير العرب هو أبعد ما يكون عن الوضوح في هذا الكتاب. فاستخدام العربية كلغة عند مجموعة معينة – كما هو معلوم – ليس كافيا لجعل تلك المجموعة عربية. ويفسر المؤلفان قولهما (في صفحات 1- 9) بأن الفونج، وهم سلالة حكام سلطنة سنار (ويتحدثون بالعربية)، لم يكونوا عربا، ولكنهم مجموعة من السكان الأصليين group autochthonous، ومع ذلك فهم ينسبون أنفسهم إلى العِتْرَة النبوية (صفحة 22). ومن العسير أن تجد أي مجموعة عرقية في شمال السودان لا تنسب نفسها للعِتْرَة النبوية عن طريق أو آخر. وينطبق هذا على السودانيين الذين يوصفون بأنهم من "العرب"، والذين يعدون من "الأفارقة" أيضا. ولكن، إذا زعم كل فرد لنفسه نسبا وأصلا عربيا (صفحتي 3 و6). لماذا إذن غدا مسموحا لبعض المجموعات العرقية - دون غيرها - أن تكون "عربية"؟ وفي نقطة أشمل مما ذكر، لماذا يواصل المؤرخون الكتابة والحديث عن تعريب السودان، ولا يتحدثون عن "سودنة" العرب؟ فقد كانت هنالك مجموعات قابلة لاستيعاب العناصر القادمة / يمكن اختراقها (حرفيا مُنْفِذَة permeable) لدرجة أنها اختلطت وتصاهرت مع العرب وصاروا يعدون "عربا". غير أن لا أحد يتحدث أو يكتب عن العكس. فالقول بأن العرب المهاجرين قد استوعبوا في المجتمعات المحلية، وبأنهم قد "تسودنوا" هو من البدهيات (المتجاهلة) المتعلقة بحركة السكان. ويصور نموذج / برادايم عملية التعريب الذي يتبناه المؤرخون على أنها أحادية الخط، أي أنه بمجرد وقوع "التعريب" بين القرنين السابع والسادس عشر، غدت هوية السكان "عربية" إلى الأبد. فعلى سبيل المثال يذكر كتاب هولت ودالي أن "العبابدة"، وهم أحد أفرع الهدندوة، (لعل الأصح البجة. المترجم) يتحدثون اللغة العربية ويزعمون لأنفسهم نسبا عربيا، فهم من "المُعَرَّبين / المستعربين" أو "لمُعِرَّبين"، ولكنهم لا يصنفون على أنهم من "القبائل العربية" (صفحتي 6 و7). وضرب المؤلفان في كتابهما مثالا لـ "عدم نفاذية" أو عدم قابلية استيعاب العناصر القادمة (non – permeability) عند نوعي سكان البلاد (العرب وغير العرب)، بقبيلة الفور (غير العربية) التي استطاعت إنشاء سلطنة إسلامية بقيت حتى عام 1916م، رغم أنها كانت محاطة بسيل من القبائل العربية المهاجرة (صفحة 7). وهذا يضمر وجود خط فصل واضح بين من هم "فور" وبقية "القبائل العربية"، وهو فصل يمنع أي إمكانية لتغيير الهوية، ويستبعد أي ترابط بين الفور وجيرانهم. وكتب مؤخرا الكثير من علماء الأنثروبولوجي والتاريخ عن أن أفضل تصنيف للفروقات بين المجتمعات الدارفورية هي في سبل كسب العيش، والوصول إلى الموارد، وليس في "عروبة" القبائل أو عدمها. ليس من أغراضي في هذا المقال أن أدعي أن من ينسبون أنفسهم للعرب هم ليسوا في الحقيقة عربا. ولكني أؤمن بحقيقة بدهية هي أنه ليست هنالك هوية مدعاة تتجاوز التاريخ. ولا يعني الإقرار بعروبة جماعة ما أن تؤصل تلك الهوية وتنسب لتاريخ أزَلِيّ. وبهذا الفهم فإن أي مجموعة تغدو عربية بمجرد أن تنسب نفسها لأصل عربي. وحاول الكثير من المؤرخين من قبل فهم الظروف التي تبلورت فيها فكرة "عروبة" الشماليين السودانيين، إلا أن أبحاثهم أخفقت في إزالة نموذج / برادايم الأصوليين التي تذهب إلى أن للسودانيين ماضيا عربيا. ويجب أن نتذكر أن فكرة "أن تغدو عربيا"، ليست بالفكرة التي تبلورت من خلال التاريخ، ولكنها فكرة لها معانٍ تختلف بحسب من يتبناها. وقد تم في مراحل معينة التقليل من شأن تعريف السودان كقطر عربي، وحدث العكس في مراحل أخرى. ففي غضون سنوات ديكتاتورية النميري (1969 – 1985م) كانت الحكومة تروج في بادئ الأمر لحوار بين شمال البلاد وجنوبها، وأن السودان قطر عربي كما هو قطر أفريقي أيضا. وأشار بعض الباحثين إلى أن فكرة تعريب (الجنوب) كانت تظهر في فترات، وتخمد في أخرى. وغابت كل تلك الآراء المبثوثة في كثير من الأبحاث من كتاب هولت ودالي (كما غابت أيضا في كتب أخرى مثل كتاب "تاريخ السودان الحديث" لروبرت كولنز، الصادر عام 2008م). ويبدو أن رسخوا لفكرة "عرب / وغير عرب" بحسبانها حقيقة أساسية ثابتة (في تاريخ السودان) لم يفعلوا غير تشويش (وليس تفسير) تلك الفكرة. يحسب القارئ لكتاب هولت ودالي أنه لم يكن هنالك أي معلومات عن جنوب السودان قبل مقدم الحكم التركي المصري إذ أن الجنوب – بحسب هذا الكتاب - لم يصبح موضوعا للتاريخ إلا عند الحديث عنه كمنطقة حدودية سادت فيها تجارة الرق في سنوات عهد التركية، أو كمنطقة نائية ومهمشة خلال عهد الاستعمار الثنائي، وكموقع للحرب الأهلية بعد الاستقلال. ولم يكن غياب الجنوب كموضوع للدراسة التاريخية عند المُؤَلِّفين بالطبع نتيجة لعدم المعرفة، بل كان بسبب النموذج / البرادايم التاريخي الذي اختزل تاريخ الجنوب اختزالا مفرطا حتى غدا مجرد تاريخ للحرب والعنف. ومما تجاهله نموذج / برادايم التعريب هو موضوع الهجرات الداخلية والخارجية. وتُفهم الآن ظاهرة الهجرات الداخلية للنوبة وتأثيرها على جغرافية البلاد البشرية بصورة أوضح بفضل الأبحاث الآثارية واللغوية التي أجريت عليها. غير أنه ليس معروفا عند الكثيرين أن هجرات العرب للسودان لم تكن غير واحدة من هجرات مهمة أخرى، على الأقل منذ العصور الوسطى، عندما بُدِئَ في تدوين تلك الهجرات لأول مرة. ويبدو ذلك جليا عند النظر للبلاد كملتقى طرق لثلاث قارات: أفريقيا وأوروبا (عبر مصر) وآسيا. وكانت منطقة عبور مهمة نسبة لقربها من البحر الأحمر ومكة. وظل السودان يشهد لقرون عديدة أفواجا عديدة من الحجاج من كل مناطق الساحل (الأفريقي). وكان هنالك طريق أو مسار بري يمر عبر الأطراف الجنوبية للصحراء، ويشق مناطق السودان الوسطى، كان هو الطريق المفضل لدى الفقراء القاصدين مكة للحج. بينما كان هنالك طريق آخر أكثر سرعة يستخدمه الموسرون الأرفع مكانا وهم يقصدون مكة في قوافل تتجه شمالا (مثل تلك التي تربط بين غرب أفريقيا وكانِم – بورنو (إمبراطورية سابقة غدت الآن جزءُا من شاد ونيجيريا. المترجم) وكوار وفزان وأوجلة (واحة صغرة في جنوب ليبيا. المترجم) والقاهرة ومكة. وأستقر كثير من هؤلاء الناس بصورة دائمة في السودان وصاهروا السكان المحليين. كذلك أقبل على السودان التجار من الإمبراطورية العثمانية ومصر والمغرب وإثيوبيا والساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية بسبب طرق القوافل المهمة التي كانت تربط الساحل بمصر وبالبحر الأحمر. وكانت هنالك هجرة أخرى للمسترقين من إثيوبيا وأطراف الدول السودانوية (Sudanic states). وكانت هناك أيضا جيوش من المسترقين ومن يقودهم في سلطتني سنار ودارفور، وبصورة أوسع في العهد التركي – المصري. وكانت كتائب الجيش المصري في عهد الحكم الثنائي في عشرينيات القرن العشرين تتكون أساسا من جنود جنوبيين ونوبة. غير أن علامات ومظاهر تلك الهجرات لا تظهر قط فيما يُروى من تاريخ كلاسيكي. أما المجموعات العرقية في شمال السودان التي تؤكد أنها عربية، فهي بالفعل عربية لأن هذه هي هويتهم المدعاة (claimed identity)، وليس بسبب هجرة العرب للسودان. وهنالك عامل تعقيد إضافي آخر يمكن أن يضاف لتعقيدات عملية تحديد الهوية (identification)، إذ أن وصف مجموعة ما لنفسها بأنها عربية يمكن أن يأتي بمعانٍ مختلفة بحسب المجموعة ووضعها المعين، سواء أكانت من جماعة معينة، أو مجتمع محلي، أو طبقة سودانية عليا (تعد العروبة بالنسبة لها شكلا من أشكال تقنين ثقافتها الأرفع مقاما)، أو حكومة مثل الحكومة الحالية، التي تستغلها كأداة في سياسة "فرق تسد". إن هنالك من يعرفون أنفسهم بأنهم من سودانيي الطبقة العليا العرب. ولدى هؤلاء قناعة راسخة تتعلق بطبيعة المجتمع والسياسة، مفادها هو أن على الواحد منهم – إن رغب في اقتحام مجال السياسة – أن يأتي من "عائلة مهمة" تنتمي لـ "قبيلة مهمة". وبصورة من الصور، يُعد من الطبيعي أن يتولى الحكم أناس من العائلات البارزة. فقد أثبت التاريخ أهلية واستعداد تلك العائلات سياسيا للحكم، إذ سبق لهم أن أبلوا بلاءً حسنا، إما سياسيا و/ أو دينيا في عديد المرات (خاصة في "عصر البطولات" إبان الحكم التركي – المصري أو المهدية). ويثبت هذا ما علمنا إياه التاريخ من أن "أصل المرء هو ما يقرر مصيره origin makes destiny". وكان البريطانيون إبان عهد الحكم الثنائي يؤمنون بهذه المقولة تمام الإيمان، فقد رسخ عندهم أن تلك "القبائل المهمة" كانت هي القوة المحركة خلف كل التاريخ السوداني، وكانت تلك هي أحدى أفكار كتاب هولت ودالي الضمنية. ******* ******* ******** يصور كتاب (تاريخ السودان الحديث) الصفوة السياسية وكأنها أكثر القوى المؤثرة والفاعلة في التاريخ وأقواها، ويعكس وصفه لذلك التاريخ، بصور عديدة، رؤى تلك الصفوة. ولا يعني هذا بالطبع أن المؤلفين كانا دوما على اتفاق مع تلك الرؤى في كل العهود، أو أنهما لم ينتقدا ساستها (مثل تقويمهم لحكام عهد المهدية، صفحات 81 – 82، ونقدهما العنيف للسياسيين المعارضين لنميري في سنوات حكمه الأخيرة. صفحة 140). وفي الفصل الخامس عشر تناول المؤلفان تاريخ الجبهة الإسلامية القومية (من 1989 إلى 2010م) بالنقد الحاد، ووصفاها بأنها "عهد مظلم طويل"، وأن نظامها "نظام وحشي ولكنه ضعيف"، وأنه "عجز عن الوصول للجماهير"، وأنه "معزول عن العالم" بسبب "تأييده لغزو العراق للكويت". وانتقد الكاتبان "التحالف الوطني الديمقراطي"، وكل فرق معارضة للنظام، ووصفاها بأنها مخيبة للآمال ومصابة بصورة مزمنة بالخلافات والشقاق والطموحات الذاتية والمصالح الخاصة. وذكرا أن سبب بقاء ذلك النظام لم يتأتَّ بسبب أيدولوجيته، بل بسبب قلة كفاءة وفعالية المعارضين له. وصور المؤلفان السودان وكأنه محاصر في دوامة شريرة سببها ساسة يفتقرون للعقلانية وضبط النفس، ويقودون البلاد نحو كارثة محققة. وإذا كان هذا الكتاب يعد الساسة أشرارا لا يمكن إصلاحهم، فالجماهير فيه هم أسرى لأقدارهم القبلية. فعلى سبيل المثال، كانت حكومة فترة الديمقراطية الثالثة - برئاسة الصادق المهدي- "قد سلحت مليشيا البقارة في غرب السودان. وعاد (المراحيل) لعادات أسلافهم وأغاروا على مديريات الجنوب، مما أفضى لآثار مدمرة (صفحة 144).]نفى حزب الأمة وقادته تلك التهمة مرارا في عدد من وثائقه. المترجم[ ******* ******* ******** يعكس كل كِتَاب الأوقات التي كُتب في غضونها، وكتاب "تاريخ السودان الحديث" ليس استثناءًا من هذه القاعدة. ويرتبط كل ما أتينا على ذكره من نقائص في الكِتَاب بقصة كتابة التاريخ في السودان والقارة الإفريقية، وبالصلة (بل القرب المستديم) بين تأريخ مرحلة الاستعمار وما قبل الاستعمار. ويرتبط أيضا بدرجة الاهتمام الذي أولاه علماء التأريخ للطبقة الصفوية المحلية باعتبارها صانعة الوطن (أو الأمة)، كما هو معتاد عند مؤرخي أفريقيا الأوائل. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الصعوبة التي يلاقيها المؤرخون (وغيرهم) في فهم حاضر السودان المأساوي. إذن لماذا بقي هذا الكتاب بكل تلك الأهمية، وظل كما هو، لا غنى عنه لكل طالب أو أكاديمي يشتغل بالتاريخ، على الرغم من أن مؤلفيه لم يدمجا فيه الاتجاهات الجديدة في التاريخ السوداني، والتاريخ الأفريقي على وجه العموم؟ ينبغي توجيه ذلك السؤال للأكاديميين المختصين بالشأن السوداني. يجب أن نتذكر بالطبع أنه ليس هنالك من كتاب ينافس هذا الكتاب في موضوعه. ولعل هذا يرجع إلى قلة المشتغلين بالدراسات السودانية، مقارنة بالدراسات عن مصر وإثيوبيا مثلا. إضافة إلى ذلك، فإن النموذج (البراديم) الذي يعرضه هذا الكتاب يعضد باستمرار بالطريقة التي يتعامل بها المراقبون والخبراء مع السودان، وبنظرتهم إليه. فكتاب هولت ودالي عمل "مريح"، فهو يقدم "الزاد" للأفكار والآراء التي يؤمن بها الكثيرون في الغرب (ولحد ما في السودان أيضا) عن تاريخ وحاضر السودان. وتشمل تلك الأفكار والآراء تخلف المجتمعات الريفية، وتجذر التراتيبيات الاجتماعية فيها واستحالة تغييرها، والتنظيم القبلي في المجتمع، وتصور أن الإسلام هو العامل المسبب للسياسة فوق كل شيء، وأن للسودان، مثل دول بقية القارة الإفريقية، مصيراً عنيفا. وبما أنه ليس هنالك من المؤرخين من تصدى لكتابة تاريخ جديد للسودان، فسنستمر في قراءة كتاب هولت ودالي الممتاز، وسيظل – إلى الآن – هو أفضل وأشمل مراجعة للتاريخ السوداني.