الشعبوية: مِلحُ الديمقراطية أم سُمُّها؟

 


 

 

 

دكتور الوليد آدم مادبو/ خبير الحِكمانية ومستشار التنمية العالمية

"زعمي الأساسي أن الشعبوية لا تستطيع حل المشكلات التي يتصدى لها الشعبويون"
ناديا أوربيناتي (أنا الشعب، ص:318)

يتطلَّع السواد الأعظم من السودانيين إلى حياة اجتماعية وسياسية كريمة، بيد أنهم وفي غمرة الحماسة الثورية لا يسعون للتفكر في الآلية (أو المنهجية) التي يمكن بموجبها أن تتحقق هذه الغاية (أو ذاك الهدف)، لأن تحقق الغايات في ظل هذا الانفعال الوجداني، لا يرتبط بمنطق الأشياء قدر ارتباطه بقدرة "الزعيم" (أو البطل المغوار) على الإنجاز.


إذ أنَّ اتخاذ "الزعيم" إجراءات من شأنها أن تتسبب في استفحال اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، التي من المتوقع أن تحدث جراء القرارات التي ستتخذ قريباً من قِبل حكومة الفترة الانتقالية، والتي لا تختلف عن القرارات التي اتخذتها الإنقاذ عام 2012 وتسببت في إضرام جذوة الانتفاضة الشعبية –غير المكتملة– التي راح ضحيتها المئات من الشباب. أقول إنَّ اتخاذه تلك الإجراءات معتمداً برنامج الإصلاح الهيكلي، واستسلامه التام لموجهات واشتراطات الشركاء، يكون حمدوك قد تخلى عن الوثيقة الدستورية - كمرجعية حاكمة - وعن الحوار السياسي والمجتمعي الذي تولت إدارته قحت، بل وعن كافة السبل التي كان يمكن أن تعتمد، للحد من تنامي الأوليغاركية المستفحلة والجشعة.


لن يمر وقتٌ قبل أن يحسم القرار الوطني لصالح هذه الأقلية المتنفذة، التي تسعى للفصل في القضايا التي تتعلق بالخيارات الأساسية لوجهة السياسة السودانية من خلال ترويجها وتبنيها لفكرة البعثة الأممية. والسؤال: كيف تمكن حمدوك بإمكانياته الخطابية المتواضعة، والفكرية المتضعضعة، من تخطي المؤسسات السياسية إلى الاستمساك بالشعبوية وسيلة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية. ببساطة، لقد ساعدت المنظومة الثلاثية (قحت، المؤتمر الوطني، والاوليغاركي المتنفذة عالمياً) في خلق صورة الزعيم الذي لم يعد يكتفي بتبني الأفكار، إنما أصبح أيضا تجسيداً للفكرة، فالتمثيل الذي حازه (أو الشرعية)، لا يمثل تفويضاً، إنما يشكل التحاماً شاملا وكلانياً يجعل من الصعب مراجعة قراراته أو الطعن في صدقيتها. وهنا تكمن خطورة الشعبوية التي لا تهمل فقط موضوع المساءلة والتدقيق، إنما أيضا تزدريهما، كما لا تُعنى بالحوار وسيلة لصناعة الرأي واتخاذ القرار، قدر اعتنائها بالانطباع المتشكل عبر الصور والرموز الموحية للزعيم (راجع كتاب "أنا الشعب" لناديا اوربيناتي، ترجمة عماد شيحة، اصدار دار الساقي، بيروت، 2020).


من هنا نتفهم فكرة "الردم" (التعريض بالشخص قبل التعرض للفكرة) الذي يتبناه الجمهور الافتراضي وسيلة للتخلص من وجهة النظر المناوئة، ويتخذه أداة لحسم الحوار ريثما يتم إعلان انتصار "الشعب الأصيل"، وتتمكن الجماهير الغالبة من دحر الشعب "غير الأصيل"، والذي يحلو لها أن تطلق عليه في هذ الظرف لقب "الكوز." ولنتصور أناساً كانوا في البرلمان الذي صادق على ترشيح البشير مراراً أصبحوا اليوم ثواراً، وآخرين لم يلتقوا مطلقا بفكره أو منهجه صاروا "كيزانا" لمجرد أنهم رفضوا الشعبوية وسيلة لتحقيق الأغراض الوطنية.


كما يسعنا تفهم ظاهرة (شكراً_حمدوك) التي ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في تناميها، واستفحلت مودعة ثقتها لدى الزعيم الذي ما عاد يُعنى بالحوار وسيلة لتحقق الثقة، إنما ارتضى التسليم (الثقة عبر الإيمان) من قبل الجمهور حيلةً لتحقق الإرادة.


إن تنامي ظاهرة الشعبوية له صلة بفقدان الشعب ثقته في المؤسسات الحزبية، أكثر من ازدرائه أو عدم احتفائه بمسألة الوعي أوالرشد السياسي. ففي محاولة لتخطي النظم الدستورية لا يُشترط وجود افتراضات أيديولوجية بشأن الشروط الاجتماعية، أو توافر أي مفاهيم معيارية عن الديمقراطية، إنما هناك فقط رغبة عارمة لدى الشعب لاستعادة سلطته من النخبة، التي ما عاد يعيرها احتراماً أو يوليها أيّ اهتمام. يقابل ذلك تمجيد وترسيخ لصورة الزعيم، الذي من المفترض أن يترجم آراء الشعب إلى قرارات، دون أي مماطلة أو تسويف. لقد خرج الشعب يوم 30 يونيو 2020 في مسيرة هادرة لتصحيح مسار الثورة، ورفع مذكرة حوت نقاطاً محددة، فطلب معالي رئيس الوزراء دكتور عبدالله حمدوك من المتظاهرين إهماله فترة أسبوعين!! يا ترى، هل ستكفي حمدوك وطاقمه مهلة أسبوعين لإنجاز مطالب عجزوا عن تحقيقها في 14 شهراً؟ لا أعتقد، لكنهم يعولون على الذاكرة السمكية للشعوب الإفريقية، سيما السودانية. الأدهي، إنهم يعتمدون على الشعبوية.


قد تأتي القرارات مغايرة تماماً للوجهة التي ارتضاها الشعب، مثلما ما حدث بشأن التحقيق في جريمة فض الاعتصام، القرارات الاقتصادية، البعثة الأممية، الولاة، حكومة الكفاءات.. فكل ذلك لا يهم لأن الشرعية مسألة رمزية أكثر مما هي مسألة مؤسسية. المهم أن يتظاهر حمدوك (أو القائد أيّاً كان) بأنه واحد من الشعب، فهو ما زال يستخدم "الصمت" إستراتيجية ليبدو كأنه واحد من الشعب، وأنه ضحية تآمر من قحت أو من العسكر أو من الجبهة الثورية، أو منهم جميعاً. حمدوك (بخلاف الترابي أو الصادق المهدي) يستخدم "أيديولوجيا هزيلة" تخفي "أيديولوجية مكتنزة" تمضى به إلى ينبوع السلطة دون أن تعتري طريقه عقبات أو تعترضه مطبات. وهنا تكمن حيل "الزعيم" الماكرة، وأساليبه المخاتلة التي يستخدمها في تحقيق أغراضه، سيَّما في ما يخص القضاء على خصومه دونما إثارة لضوضاء أو إظهار لشحناء قد تكسبه أعداء.


هزالة مثل هذه الأيدولوجيات تتبدى في عدم محاولة مستخدميها التحرك لتغيير الدستور أو إعادة تحديد وظائف الدولة، فهي تتخطى كل ذلك مدعية الضبط والموازنة، وذلك بالإبقاء على التنافس السياسي داخل الأقلية المتنفذة، فيما يتحرك أفرادها برشاقة متناهية، تستفزهم الرغبة في ترجمة إدارة الدولة إلى تحيز منهجي. هم لا يمارسون السلطة فقط، إنما أيضا يجسدونها فيصبحون -رغم دواعي السيرورة- قيمين دائمين على "تدوير؟" السلطة العامة. بمثل هذه التصرفات وتلكم التوجيهات، تنعدم العدالة الإجرائية، كشرط ضروري لاستقرار النظام السياسي في السودان، وفي بعض بلدان العالمين العربي والأفريقي.


انعدام العدالة الإجرائية هو الذي يضيف، أو يعدم بالكلية، هامش المناورة السياسية فيحرم المجتمعات من فرصة تستحقها لإعادة وصف العلاقات الاجتماعية. وإذا كانت الوساطة ضرورية لإحداث التوازن الاجتماعي والسياسي، فإن الاعتدال هو المناخ المعنوي الذي نحتاجه كي نُبقي على التوازن الاجتماعي ونحول دون التمكين المفرط للمصالح الطبقية.


في أوج الثورة تندمج الإرادة والرأي، فيمثلان أقوى شرعية تحتاجها النخبة لتفادي الانقسامات الأفقية في المجتمع، وسيادة الخطاب الرأسي / العمودي مجتمعياً. في ثورتي أبريل وأكتوبر، لم تك هناك انقسامات أفقية، بمعنى أن الصراع كان منحسراً بين النخب اليسارية واليمينية، أمّا في ثورة ديسمبر فإن الرؤية عن الشعب باتت لعبة مفتوحة على التأويل، رغم محاولة النخب المركزية المتكررة لتأويل جزء من الشعب على أنه الكل، ودمج الأخير بإرادة الدولة؛ بمعنى تبنيها لتعريف آحادي للسيادة، وقد تبدى ذلك في محاولة (قحت) الترويج لأيقونات (أولاد وبنات)، من مناطق محدودة وبسمات معروفة، متناسية أو متفادية إظهار السحنة الغالبة للمجتمعات الثائرة من سنار، نيالا، الجنينة، وأخيراً نيرتتي.


بقدر ما ساعدت الميديا في جلب السياسة إلى الشعب، فقد حرمت الشعب من التعاطي مع الشأن السياسي بصورة مؤسسية، طبعاً باستثناء القلة التي امتلكت الحيل المادية لرسم السردية بالطريقة التي يتصورها الزعيم، في هذه الحالة حمدوك ومثقفوه. وإذا نجحت فئة بعينها في اختطاف المنصة والاستحواذ على المشهد السياسي، فإنها لم تنتبه لحجم الالتباس البنيوي الذي يمكن أن تحدثه مثل هذه الانتهازية، في ظل مجتمع يعاني من حالات انقسام عمودي ورأسي وانقسام أفقي. فالشعب لم يعد الخرطوم "فقط"، بل أصبح عابراً للمكان (التعبير لبرنارد جاك)، وتجاوز حدود السودان.
وإذا شئت فانظر إلى إسهام الدايسبورا في الثورة السودانية، وحجم الضغوطات التي مارستها على الحكومات المدنية والمتحضرة، للدفع نحو التغيير ودعم مسار الثورة السلمي. أما فيما يتعلق بذاكرة الأمة، فقد تعددت وطالتها عملية إعادة بنائية تاريخية، لم تعد تنظر لأي سردية بنوع من القدسية. هنا يمكن للمرء - عالم الاجتماع خاصة- أن يتوجس وينظر خيفة إلى مستقبل الثورة السودانية، التي قد يغشاها رُهاب الشعبوية الفاشية، إذا لم تتخذ التدابير السياسية وليس فقط الأمنية المناسبة، وقد رأينا وسمعنا عن تصفيات في أوساط "لجان المقاومة."


هذا الجسم الذي تمنّع على الأحزاب وعلى محاولات التطويع كافة، يمكن أن تشوبه تشوهات وتجرفه انفعالات، قد تحيد به عن مرامي الثورة التي ضحى من أجلها بالغالي والنفيس، فالواجب العمل منذ الآن على تأهيل أعضائه، كما البدء في التفكير الجدي لتدريبهم - كي يتمكنوا من لعب دور إيجابي– وليس فقط احتجاجياً، والانخراط معهم وتحفيزهم لتنفيذ مشاريع وفق الاشتراطات والمحددات المعروفة للعمل السياسي المدني. أمّا تجاوزهم ومحاولة التلاعب بهم، أو انتظار الأيام علها تلغي فورة حماسهم، فلن يحقق أكثر من الفوضى السياسية والمجتمعية، وسيحرم البلاد من رافعة كان يمكن أن تحقق الارتباط العمودي اللازم في غياب المؤسسات الحزبية، التي يلزم استصدار قانون جديد بشأنها، يساعد في مأسسة قيم الديمقراطية داخل أطرها، ويسهم في إعادة تكوينها وفق منهجية دستورية وقانونية محددة.


إلى حين حدوث ذلك، فإننا سنشهد احتقاناً في المشهد السياسي وقد يزيد هذا الاحتقان حتى يصل مرحلة الانفجار، خاصة إذا ما أصرت حكومة الفترة الانتقالية، على تجزئة المطالب وفردنة الأفكار والمصالح. فالدولة لا تعتمد فقط مرجعيةً بعينها في الشأن الاقتصادي، لكنها أيضا تدفع بمفهومية تناول الشأن الاقتصادي بمعزل عن الشأن السياسي. كما إنها لا تعتمد رؤية أخلاقية محددة لتحقيق التسوية السياسية. إن لحكومة حمدوك تصوراً للبعثة الأممية، لم يسبق أن تحقق في أي من الدول التي انتدبت إليها، كانت آخرها ليبيا التي زادت البعثة فيها الطين بِلة. وقد ذكرت وكررت مراراً، أن الضعف الداخلي لا يمكن أن يتم التعويض عنه بمحاولة إسناد خارجي، لأن القادمين لا يدركون حجم التعقيدات، وكل ما بوسعهم فعله هو تهيئة المناخ للكادر الوطني كي يسهم بفاعلية في المحاولة للوصل إلى تسوية وطنية شاملة.

 

auwaab@gmail.com


///////////////

 

آراء