السودان اليوم (1/2) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

The Sudan Today

كيث كايل Keith Kyle
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة للجزء الأول لما ورد في مقال بقلم المؤرخ والإعلامي كيث كايل، نُشر عام 1966م في العدد الخامس والستين من "الشؤون الإفريقية African Affairs".
والمقال هو في الأصل محاضرة قدمها كيث كايل يوم 14 أبريل من عام 1966م في اجتماع جمعية الكومنويلث الملكية (Royal Commonwealth Society) الذي ترأسه فيليب برودبينت، أحد الذين عملوا في القسم السياسي لحكومة السودان.
لم نعثر للكاتب على تعريف سوى ما ورد في أرشيف السودان بجامعة درم من أن الرجل مؤرخ وإعلامي، وسبق له العمل في الهند وبورما بين عامي 1944 – 1947م. وربما يكون قد عمل بالسودان في فترة من حياته.
الشكر موصول للأستاذ طارق أبو صالح لمدي بصورة من هذا المقال.
المترجم
****** ******* *******
إنه لشرف عظيم لي أن أتحدث أمامكم. وأنا أتشرف أكثر بالحديث في اجتماع لجمعية الكومنويلث الملكية، إذ أحسب أن هذه الجمعية، كما يعلم كل طالب جاد يبحث في أمور الشؤون الإفريقية، هي أفضل مصدر في العالم للمواد عن أفريقيا. وأنا سعيد أيضا بوجود عدد من أعضاء الشرف الكويتيين من بين الحضور. وبعبارة أخرى، فأصدقائي السودانيين هم الآن متنكرين ككويتيين! ولعل هذا ألطف خرق ودي للدبلوماسية أعلم عنه.
لقد كان السودان هو القطر الوحيد في العالم الذي سمح لي بمقابلة رئيس وزرائه كضيف في داره ليلة وصولي للخرطوم، مباشرة بعد قطعه للعلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا (؟؟؟ المترجم). وأود هنا أن أتقدم بالشكر والتقدير والعرفان لحكومة السودان (عن طريق حكومة الكويت بالطبع) للاستقبال الذي حظيت به، ولتوفيرها لي كل التسهيلات اللازمة لي لأداء عملي.
جمهورية السودان هي أكبر الدول الإفريقية مساحةً (مليون ميل مربع)، إلا أن عدد سكانها لا يتجاوز عدد سكان جزيرة فورموزا (تايوان حاليا. المترجم). وهي أول دولة إفريقية تنال استقلالها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وذلك في الأول من يناير عام 1956م بعد إعلان الاستقلال من جانب واحد (U.D.I.). وكانت الدولتان المستعمرتان للسودان (بحكم ثنائي بريطاني - مصري) أول دولتين تعترفان بذلك الاستقلال، وكان لكل واحدة من هاتين الدولتين هدفها من ذلك الاعتراف. ولم يتسن للبرلمان (السوداني) أن يعمل على إصدار دستور للسودان المستقل. وكان نواب البرلمان السوداني قد أجمعوا على اختزال الإجراءات الطويلة التي كان قد أتفق عليها بين مختلف القوى لتحديد حق المصير للسودانيين وفق صيغة يتم بموجبها تطمين نواب المديريات الجنوبية، (الذين كانوا - لأسباب تاريخية معلومة – يخشون من هيمنة الخرطوم عليهم بعد نيل الاستقلال) وذلك بوعدهم بدستور فيدرالي عند نيل الاستقلال. ولكن إلى اليوم (1966م) لم يتم تقرير الشكل الأساس للدولة السودانية. فلا تزال البلاد تحكم بالقوانين الاستعمارية، وبإدارة مركزية من الخرطوم. وأفضت حالة عدم اليقين في الأساسيات تلك إلى وضع تبدو فيه أي مشكلة وكأنها هي المشكلة الوحيدة التي تنتظر الحل دون سواها من المشكلات.
ولا زال السودان يعاني من أزمة خيبة الأمل، أو ما يمكن وصفه بـ "ضائقة أو تَوَعُّك ما بعد الثورة". ولأن ساسة الحزب الحاكم في 1955م و1956م (وهي الفترة التي تم فيها تقرير إعلان الاستقلال من جانب واحد) فقدوا المصداقية في خلال العامين التاليين، قام العسكريون بانقلاب استولوا به على السلطة في 1958م (هكذا! المترجم). ومهد السودان بذلك الانقلاب العسكري الطريق للدول الأفريقية الأخرى فعل ذات الشيء (مثلما كان أول دولة إفريقية تنال استقلالها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية).
وأخفق الحكم العسكري أيضا، ووصل إلى السلطة المثقفون وقادة المهنيين وأصحاب المصالح الاقتصادية إثر ثورة جماهيرية في أكتوبر 1964م. وتمت سريعا إزاحة الحكام الجدد أيضا لأنهم "رفقاء طريق" للحزب الشيوعي السوداني أو لأنهم أعضاء بـ "الجناح السري" في ذلك الحزب، وتم وصفهم بأنهم "أعداء الدين". لمن عادت السلطة بعد ذلك؟ هذه هي المشكلة الباقية في هذا القطر، والتي لم يعثر لها على حل بعد رغم مرور عدد من القادة على سدة الحكم في غضون عقد من الزمان.
لا ينبغي أن يُنظر لمشكلة الجنوب بحسبانها مشكلة معزولة عن مشكلة السودان الوطنية / القومية. غير أني أرى – ويرى كما أعتقد محمد أحمد المحجوب رئيس الوزراء - أن لا حل لمشكلة السودان إلا بتذكر مستمر وإدراك عميق لجرح الجنوب النازف. لذا ينبغي عند هذه النقطة أن نضع مشكلة الجنوب في سياقها التاريخي. لقد كانت النظرة والآفاق (والتوقعات) الرئيسة للقادة الجنوبيين أن السودان الجنوبي أقرب ثقافيا ودينيا وعرقيا إلى دول شرق أفريقيا. وفي الواقع كان أملهم الأكبر أن يقوم اتحاد فيدرالي لدول شرق أفريقيا، وأن ينضم إليه السودان الجنوبي - الذي كانوا يودون إعادة تسمته بـ "أزانيا Azania" (مثلما قامت ملاوي ومالي وغانا بإِسْتِلاف أسماء ممالك إفريقية تاريخية) وذلك توطئة لانضمامها لاتحاد فيدرالي لدول شرق أفريقيا. وكان قادة الجنوب يشعرون بأن شرق أفريقيا هو انتمائهم الحقيقي، بعكس ما يراه سكان شمال السودان العربي المسلم (وعاصمته الخرطوم) الذي يميل نحو الشرق الأوسط.
ودعوني أنتقل الآن لما يراه الشماليون. كان السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة (أكبر أحزاب البلاد، رغم أنه يفتقر للأغلبية المطلقة في البرلمان) قد وصف لي السودان بأنه: "نقيض الصحراء الكبرى؟ the antithesis of the Sahara " (ربما "قرين" الصحراء. المترجم)
يقول السودانيون الشماليون بأن السودان يمثل الفاصل بين شمال أفريقيا وأفريقيا السوداء، وأن السودانيين ليسوا من العرب الخُلَّص (وهذا صحيح بالطبع)، وأن انتماء السودان للعرب هو انتماء ثقافي وليس عرقي، وأن النزاع بين الشمال والجنوب ليس نزاعا دينيا، وأن غالب سكان الجنوب، على أيه حال، هم من الوثنيين (اللاوحديين أو الإحيائيين أو أصحاب "المعتقدات التقليدية" أو "كريم المعتقدات"، كما يُقال اليوم. المترجم). أما فيما يخص الأقليات، فالأقلية المسلمة بالجنوب هي أكبر عددا من الأقلية المسيحية. ويقول الشماليون أيضا بأن هنالك وحدة طبيعية بين شمال السودان وجنوبه صنعها نهر النيل، وهذا ما يؤيده – لحد ما – التاريخ الرابط بين شمال السودان وجنوبه، وأن النزاع بين شطري البلاد هو في الغالب نتاج لسياسة الاستعمار البريطاني.
وكما هو الحال في كل حرب أهلية في السودان، فالجانبين على حق في كثير من الجوانب. فالنزاع هنا بين "حق" و"حق". ففي هذا الصراع هنالك أناس في الجانبين في غاية الروعة، ويتوقون جميعا للوصول لحل سياسي لما شجر بينهما. غير أن الحل يتطلب تغييرات جوهرية في موقفهما. وبدون ذلك لا أرى أي إمكانية واقعية وحقيقية لردم الهوة بينهما.
ويزعم شمال السودان (وهو في هذا الزعم محق بنسبة 75%) أن الحكومة البريطانية مسؤولة بصورة كاملة تقريبا عن الطريقة التي يشعر بها الجنوبيون شعورا مختلفا عن الشماليين. أقول "بنسبة 75%" لأني أعتقد بأن سكان الخرطوم يبالغون في المدى الذي بلغه السودان تاريخيا - في أي عهد على غضون تاريخه الطويل – في البقاء موحدا وفعالا كوحدة واحدة قبل أن يدخله البريطانيون. إن السودان الحالي في الواقع هو بقايا أو تذكار(souvenir) لسياسة المصريين المسماة (التقدم للأمام forward policy). وقد ينسى الكثير من الناس أن حملات منع تجارة الرقيق والدعوة لتحريرهم، وتحويل الرقيق في أفريقيا الوسطى إلى عمالة قانونية، كانت كلها حملات مسيحية بروتستانتية عظيمة، وأن أول سلطة سعت لوضع تلك السياسة موضع التنفيذ في أفريقيا الداخلية كانت دولة مسلمة في أفريقيا، ألا وهي مصر. واستعانت مصر لإنفاذ تلك السياسة بخدمات عملاء بيض خطت أسمائهم في لوحات تذكارية رقيقة بيضاء في تقاطعات الطرق في جوبا، أكبر مدن جنوب السودان. أسماء مثل بيكر وغردون وروميلو جيسس وشاييه- لونغ وأمين باشا. وتحت قيادة أولئك الرجال البيض أفلحت مصر – لأول مرة في التاريخ – في توحيد السودان. غير أن تلك الوحدة كانت – على الأقل في نظري – وحدة مصطنعة نوعا ما. وفي الواقع تواصلت الحملات العسكرية العقابية (التي استخدم فيها القصف بالطائرات) حتى عام 1928م، أي في عهد الحكم الثنائي، كما يذكر جيدا بعض الحضور هنا.
كانت سياسة بريطانيا في غالب سنوات الحكم الثنائي هي معاملة شمال السودان بصورة تختلف عن جنوبه، واعتبار أن ثقافة أهل الجنوب تختلف جذريا عن ثقافة الشماليين. وكان السبب في ذلك هو إخفاق بريطانيا في أن تقرر بصورة جازمة إن كان مصير جنوب السودان سيكون مع شرق أفريقيا أم مع مصر. وبدأ خيار ذهاب جنوب السودان لشرق أفريقيا في الظهور بوضوح في عهد السير لي استاك عقب مظاهرات الوطنيين المصريين في 1919م، عندما خشي البريطانيون، إن بقي النيل موحدا تحت سلطة سياسية واحدة، فسوف تنطلق في المنطقة موجة من "الشعور الوطني"، تشتعل في القاهرة، وتنتقل بسرعة البرق على طول النيل وتحرق مناطق شرق أفريقيا ووسطها القابلة للاشتعال، وتصيب القبائل البريئة بـ "عَدْوَى" الروح الوطنية. وفي 25 يناير عام 1930م، أرسل سير هارولد ماكمايكل منشورا لكل المسؤولين فَصَّلَ فيه سياسة الحكومة حيال جنوب السودان. وجاء في المنشور أن على كل الموظفين الشماليين بالجنوب العودة للشمال، مع مراعاة أن إجلاء أعداد كبيرة من هؤلاء الموظفين من الجنوب بسرعة قد يفضي لتداعيات سياسية كبيرة، ويتطلب الجلاء الحذر والعناية لتحقيق "الغاية المرتجاة" التي تبرر الوسيلة. لذا يجب أن يكون إجلاء هؤلاء الموظفين بالتدرج، وبحسب الحاجة.
ومضت الحكومة في تنفيذ تلك السياسة في غضون سنوات الثلاثينيات، فتم إيقاف تدريس اللغة العربية (التي كانت هي اللغة الأولى بالجنوب)، واقنعت الزعماء الجنوبيين بالتخلي عن الأسماء العربية التي كانوا قد تسموا بها، ومنعت التجار (الأغاريق والعرب "الجلابة") من بيع الملابس العربية. وتم تنفيذ تلك الإجراءات بجدية وحرفية مفرطة. وأضرب لذلك مثلا برسالة باشمفتش بحر الغزال إلى وكيل تاجر إغريقي في راجا في يوم 21 يناير 1935م، عندما علم بأن هنالك كميات كبيرة من الملابس العربية تباع في المدينة. كتب الباشمفتش ما نصه: "أرجو أن أفيدكم بأنه يُمنع منعا باتا (كُتبت كلمة يُمنع FORBIDDEN بحروف كبيرة. المترجم") صناعة أو بيع مثل هذه الملابس. يجب أن تكون القمصان قصيرة وذات ياقات ومفتوحة في الوسط إلى النهاية، ومخاطة على الطِّرَاز الأوروبي، وألا تخاط كالقمصان التي يرتديها البقارة في دارفور. وينبغي أيضا في المستقبل عدم بيع الطواقي التي تلبس تحت العمائم. ومن اليوم يجب إيقاف صناعة وبيع الملابس العربية. وستمنح مهلة حتى نهاية فبراير من هذا العام لتتخلص مما لديك من هذه الملابس في المخازن".
وتم هدم "كافيه كنجا" تماما، ونقل أهلها في مكان آخر حتى يغدو هنالك خط (عرقي) فاصل بين العرب والأفارقة في السودان.
وهدفت تلك السياسة لربط جنوب السودان بشرق أفريقيا، أو على أقل تقدير، الحفاظ على ذلك الخيار قائما. ولم تتم بجدية إعادة النظر في جدوى تلك السياسة إلا في عهد السير جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري عام 1946م. وكان روبرتسون يرى أن أوغندا، وهي دولة شرق أفريقيا الوحيدة التي كان يمكن لجنوب السودان الانضمام إليها، لم تبد أدنى رغبة في ذلك الضم. وأتضح أن كل الخطط التي كان يقال إن دول شرق أفريقيا قد وضعتها لضم جنوب السودان كانت مجرد خطط غامضة تفتقر للوضوح والدقة (استشهد الكاتب هنا بورقة لمدثر عبد الرحيم. المترجم). ولما غدت سياسة بريطانيا في السودان تقضي بمنح حق تقرير المصير لكل السودانيين، فقد تم التخلي عن أي فكرة تتعلق بربط جنوب السودان بدول شرق أفريقيا.
غير أنه كان من الصعوبة إبطال أو عكس آثار تلك السياسة. فقد كان تعليم الجنوبيين كله بيد البعثات التبشيرية (المسيحية). وكان دكتور ف. هاربر الطبيب بالإرسالية المصرية قد كتب عقب معركة أم درمان بأن هذه هي "فرصة عظيمة لتنصير كل المسلمين بالسودان". إلا أن اللورد كتشنر، الذي كان يرفض كل أنواع التعصب - المسيحي والمسلم أيضا -، قال بأنه لن يسمح بتنصير مسلمي الخرطوم. وتم السماح لاحقا لدكتور هاربر في صحبة القس قويين بالقدوم للخرطوم فقط لإنشاء مستودع، ولكن دون أن يقيما إرسالية أو ينخرطا في التبشير شمال خط عرض 10 (أي في شمال السودان. المترجم). ولم يكن هنالك، على أية حال، الكثير من المسلمين جنوب ذلك الخط، ويمكن للمسيحيين (في جنوب السودان) أن يفرغوا حماسهم الديني دون إثارة أي حساسيات دينية.
وكان وينجت باشا ورودولف سلاطين (وهما من خططا السياسة البريطانية السودان) يعتقدان بأن اللغة الإنجليزية أسهل للجنوبيين في التعلم من العربية. وذكر ريتشارد هيل في إحدى أوراقه أن ونجت كان قد قال بأن تعليم اللغة الإنجليزية، إن تم بلا ضجة، سيكون بلا ريب، أمرا واقعا (a fait accompli) قبل أن يلاحظ أي شخص أن تغييرا قد وقع. من الأسهل كثيرا التعامل مع حقيقة واقعة إذا حدثت معارضة في آخر الأمر. لذا نجد أن صفوة المتعلمين الجنوبيين تلقوا تعليمهم كله باللغة الإنجليزية، مثلهم مثل صفوة متعلمي دول شرق أفريقيا، وتم بقدر الإمكان قطع أي صلة لهم بالثقافة العربية وتراثها السائد في بقية السودان.
ويميل الشماليون للتركيز على تلك الخلفية (عند الحديث عن مشكلة الجنوب)، وروايتهم لها صحيحة على وجه العموم، وتؤكدها الوثائق والسجلات في عدد من الأرشيفات. ويركز الجنوبيون – وهم أيضا على حق – على أنه، بغض النظر عن الكيفية التاريخية التي حدث بها ما حدث، فإن هنالك اختلافا جوهريا في النظرة والآفاق والتوقعات الثقافية بين الجانين. بينما يقول الشماليون (مثلهم مثل الإداريين الاستعماريين في مرحلة سابقة) بأن تلك الصفوة السياسية الجنوبية (العالية الصوت) لا تمثل إلا نسبة بالغة الضآلة من السكان. غير أن تلك الحجة قد فقدت بريقها مع مرور السنوات بسبب فرط المستعمرين البريطانيين في استخدامها، وزعمهم أن نسبة الأولاد الذين تلقوا تعليمهم في المدارس الكنسية لا يتجاوز 5% من مجموع السكان، وأن الأغلبية الغالبة من السكان لا تريد سوى أن تجد الطعام الكافي وأن تُدار شؤونها بطريقة جيدة. وهذا غير مقبول للجنوبيين في السودان، ولا للحركات الوطنية في بقية المناطق الإفريقية.
تلك إذن هي الخلفيات التاريخية للصراع بين الشمال والجنوب.

alibadreldin@hotmail.com

 

 

آراء