كيث كايل Keith Kyle ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة للجزء الثاني والأخير لما ورد في مقال بقلم المؤرخ والإعلامي كيث كايل، نُشر عام 1966م في العدد الخامس والستين من "الشؤون الإفريقية African Affairs". والمقال هو في الأصل محاضرة قدمها كيث كايل يوم 14 أبريل من عام 1966م في اجتماع جمعية الكومنويلث الملكية (Royal Commonwealth Society) الذي ترأسه فيليب برودبينت، أحد الذين عملوا في القسم السياسي لحكومة السودان. لم نعثر للكاتب على تعريف سوى ما ورد في أرشيف السودان بجامعة درم من أن الرجل مؤرخ وإعلامي، وسبق له العمل في الهند وبورما بين عامي 1944 – 1947م. وربما يكون قد عمل بالسودان في فترة من حياته. الشكر موصول للأستاذ طارق أبو صالح لمدي بصورة من هذا المقال. المترجم ****** ******* ******* بدأ العنف بجنوب السودان في عام 1955م قبل إعلان الاستقلال من جانب واحد. وكان الجنوبيون حينها يفتقرون إلى النضج السياسي والحُنْكَة والخِبْرَة، وظنوا أن البريطانيين لا يزالون يمسكون بزمام السلطة السياسية في السودان. وكانوا يحسبون حينها أن الوقت قد كاد يضيع منهم (وما دروا أن الوقت قد فات منهم بالفعل)، فقام جنودهم في الجيش السوداني، الذين كانوا يشكلون أغلبية، بالتمرد، على أمل أن تبلغ تظلماتهم من الشماليين لمسامع الحكومة البريطانية. وتعرض الشماليون (خاصة التجار ورجال الإدارة) لمجزرة. وكانت تلك هي البداية الفعلية للحرب الأهلية. وتفسر تلك المجزرة سبب وصف الشماليين للجنوبيين بأنهم "متمردين". وبالفعل، يوجد الآن بين أفراد القيادة العسكرية لحركة الأنانيا الحالية بعض الضباط وضباط الصف الذين كانوا قد شاركوا في تمرد 1955م. وعقب قيام الانقلاب العسكري في نوفمبر 1958م لم يحدث أي تقدم في كتابة دستور للبلاد. وسقط ذلك النظام في أكتوبر 1964م بمظاهرات شعبية في شوارع الخرطوم (وبعصيان مدني ومظاهرات في مدن عديدة أخرى. المترجم). وفتحت تلك الثورة الباب، من جانب، لإمكانية الشروع في بداية جديدة في العلاقة بين الشمالين والجنوبيين، غير أنها فتحت الباب أيضا من جانب آخر، لمزيد من سوء الفهم. وكانت لثورة أكتوبر صورتي "الأُسْطورة" و"الحقيقة". أما الأُسْطورة، فمثلها مثل كل الأساطير الأخرى، تحتوي دوما على بذرة من الحقيقة. فقد خرج إلى الشوارع المثقفون والطلاب وبقية الجماهير الشمالية لإحساسهم بالعار والسخط والغضب من الطريقة التي كانت يعامل بها الجيش جنوب البلاد. وأسقط المتظاهرون العُزَّل النظام العسكري (الذي كان قد أيدوه من قبل)، وعضدوا النظام الديمقراطي الجديد لأنه قدم للجنوبيين التعويضات والاعتذار، وكان على الجنوبيين – بحسب رأيهم - مقابلة ذلك بشهامة وامتنان. وفي تلك الأيام كان غالب السودانيين قد اقتنعوا بأن للجنوبيين تظلمات مشروعة من النظام العسكري. غير أنهم أخفقوا في فهم وتقدير مدى عمق السيكولوجيا الكامنة في قضية الجنوب. فقد كان الشماليون يظنون أن مجرد إسقاط النظام العسكري كافٍ في نظرهم ليقبل بهم الجنوبيون كأهل وذوي قربى. غير أن حقيقة ثورة أكتوبر 1964م كانت مختلفة بعض الشيء. ففي البدء ينبغي أن نتذكر أن ذلك النظام العسكري نفسه كان قد فقد ثقته بنفسه. وكان الفريق عبود، رئيس ذلك النظام، ينتوى قبل أسابيع قليلة من إسقاط نظامه تكوين حكومة مدنية (هكذا! المترجم). وكان وزير مالية حكومته، وهو رجل مدني (اسمه عبد الماجد أحمد. المترجم) قد نصح عبود بالقيام بتجربة اقتصادية أكثر راديكالية من كل ما حاولته الحكومات المدنية، كانت سُتحدث تغييرا كبيرا في مستقبل الجنوب. ونعلم من تجارب دول أخرى، مدى الصعوبة التي يلاقيها أي نظام عسكري ديكتاتوري في "تسريح" نفسه والتخلي عن طبيعته الاستبدادية، وتحَضَّير نفسه للتحول لحكم ديمقراطي. غير أنه ما أن تراكم زخم التوق للحرية وبلغ ذروته حتى سيطرت الجماهير على الأوضاع. وهذا ما حدث في الخرطوم. مجرد حادث – إطلاق الرصاص على طالب وقتله – هو الذي فجر سلسلة من المظاهرات والاحتجاجات ضد النظام العسكري وتحديه في الشوارع. وبنظرة استرجاعية لما حدث، نجد أن النظام العسكري الحاكم كان قد فقد الثقة في قدرته على الحكم، إذ أن مقاومته لمحاولة إسقاطه غدت أقل قوة من عزيمة الذين كانوا يناضلون من أجل إسقاطه. ورغم أن " أُسْطورة" ثورة أكتوبر تقول ببساطة بأنها أفلحت في إسقاط النظام العسكري، إلا أن ذلك السقوط لم يكن كاملا. ففي الحقيقة فقد وجدت القيادة الطبيعية للجماهير الثائرة (وهم زعماء جبهة الهيئات والنقابات) نفسها أمام قيادة للثورة مكونة من زعماء الأحزاب التقليدية القديمة، التي اختفت في سنوات الحكم العسكري أو بقيت تعمل في الخفاء. وفي لحظة حماسة وافق زعماء جبهة الهيئات على الانضمام لزعماء تلك الأحزاب حتى لا يحدث أي انشقاق في الجبهة المعارضة للحكم العسكري. ونتيجة لذلك دخل جناحا المعارضة في مفاوضات مع قادة العسكر أفضت لتسليمهم السلطة للمدنيين. وكان من شروط الجانب العسكري في تلك المفاوضات أن تُرفع حالة الطوارئ في شمال السودان فقط، أي أن يظل الجنوب خاضعا لأحكام الطوارئ. وبذا وجد النظام المدني الجديد نفسه "يسقط بين مقعدين" كما جرى المثل، أي أنه فشل في تحقيق أي واحدة من غايتيه. كان النظام الجديد قد أبدى بعض الإشارات التي هدفت لتأكيد مصالحته مع المتمردين الجنوبيين. وتم تعيين رئيس للوزراء ليست له انتماءات سياسية، وكان من الموظفين الشماليين المقبولين عند كثير من متعلمي الجنوب. وبدأ ذلك الرجل (واسمه سر الختم الخليفة) حكمه بداية جيدة ببيان تصالحي أوضح فيه رأيه من أن مشكلة الجنوب مشكلة سياسية وليست عسكرية. وأعلن عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد، وأمر الجيش بأن يرد بالمثل على من يطلقون عليه النار في الجنوب، دفاعا عن النفس فقط. وتم تعيين جنوبي في منصب وزير الداخلية (اسمه كلمينت أمبورو. المترجم)، وأرسل عددا من الإداريين الجنوبيين للعمل بالجنوب. ولكن في ذات الوقت اتسمت بعض أفعال الحكومة بعوز الخيال. فعلى سبيل المثال تم التعبير في الشمال عن السخط عندما لم تظهر عند الجنوبيين أي استجابة أو موجة عاطفية فورية وواضحة في الجنوب تماثل ما كان يحس به الشمال، وما قام به وعبر عنه في شوارع الخرطوم تجاه المصالحة مع الجنوبيين. غير أن الجنوبيين لم يطيروا فرحا بما حدث من تغيير في الشمال بعد سقوط حكم عبود، إذ أنهم لم يلمسوا على الفور فرقا كبيرا. وبقيت حالة الطوارئ معلنةً في مديريات الجنوب الثلاث. وبقيت بالطبع كذلك وسائل المواصلات والاتصالات سيئة في سائر أنحاء الجنوب، وبين وحدات الأنانيا المختلفة. ------- ----- ------ لا بد لي أن أفسر هنا، أن مقاومة النظام العسكري كانت قد تواصلت إلى حد ما منذ عام 1963م وما بعده، بصورة تشبه التمرد المنظم الذي كانت تقوم به الأنانيا (وهي كلمة من لغة المادي Ma'di وتعني سم الثعبان الأسود). ولم تكن للأنانيا في ذلك الوقت رئاسة مركزية. وكان أحد الإداريين الجنوبيين السابقين (اسمه ويليام دينق) قد أسس تلك الحركة بمساعدة اثنين من الجنوبيين في المنفى: الأب الكاثوليكي ساتورنينو أوهوري وجوزيف ادوهو (النائبان البرلمانيان السابقان). غير أن تلك البداية كانت صغيرة جدا، ولم تكن تضم غير مجموعات صغيرة من الأفراد ليس معها إلا بضعة بنادق حديثة وسهام وأقواس ومناجل، وتم تهريبهم عبر الحدود السودانية المفتوحة (مع إثيوبيا ويوغندا والكنغو)، التي يبلغ طولها آلاف الأميال، وتصعب حراستها. وأنضم للحركة ضباط جنوبيون شاركوا في تمرد 1955م مثل علي بطالة Batala، الذي كان قد لجأ للكنغو، وبدأ من هنالك في تنظيم إدخال معارضي الحكومة سرا لمناطق الجنوب عبر تلك الحدود الممتدة. وكان تهريب الأسلحة من الأمور المعتادة في تلك المناطق منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى سنواتنا هذه. وبسبب فضيحة تهريب الأوربيين المغامرين للسلاح قامت الإدارة البريطانية – على مضض – بتوسيع حدودها شمالا في أوغندا، وعدت ما خطته بنفسها هي الحدود السودانية – الأوغندية الحالية. إذن كانت تلك تقليديا منطقة معروفة بتهريب السلاح. ومنذ عام 1963م ازدادت عمليات التهريب عبر الحدود، خاصة بعد تدهور الأوضاع في الكنغو، والاضطرابات في أجزاء من أثيوبيا. وكانت أثيوبيا ترغب في إثارة القلاقل في السودان، خاصة في عهد رئيس وزرائها سر الختم الخليفة، نسبة لأنها كانت تتهم اثنين من وزرائه بالضلوع شخصيا في تهريب أسلحة وفرتها الجامعة العربية لمساعدة المتمردين الإرتريين المسلمين في حربهم ضد الإمبراطور الإثيوبي هيلاسلاسي. وأَقَرَّ سر الختم الخليفة لاحقا بأنه كان قد أحيط علما بأمر الوزيرين، ولكنه نسي الأمر حتى تفجرت الفضيحة. لذا كانت كل حدود السودان (مع أثيوبيا والكنغو وأوغندا) تستخدم في مساعدة عصابات متمردة صغيرة سرعان ما بدأت تنمو وتستقوى. غير أنه لم يكن هنالك هيكل قيادي لحركة الأنانيا عند سقوط نظام عبود، ولم يكن لها قائد واحد يمكن التفاوض معه على وقف لإطلاق النار، أو يمكنه أن يأمر كل جنود حركته بوقف القتال، ولم تكن هنالك من جهة (مستقلة) يمكنها مراقبة أي وقف محتمل للقتال بين الطرفين. وكانت الأنانيا تعمل في المناطق الريفية، وتتحصل على الامدادات من الإغارة والسرقة للمواد الطبية والطعام والسلاح. ولو تضمن أي وقف لإطلاق النار بندا ينص على إيقاف تلك الغارات فسوف تفقد الأنانيا مصدر قوتها النسبي مع مرور كل يوم جديد يطيل أمد ذلك الإيقاف. وإن ظلت معسكرات الأنانيا مفتوحة في الأرياف، فكيف سيجد الرجال الطعام؟ وكيف سيؤمنون مواقعهم الحربية (الآمنة نسبيا وقتها) إن تم خرق وقف إطلاق النار واستؤنف القتال من جديد؟ وهنالك عامل إضافي كذلك، من شأنه أن يضعف احتمالات حدوث وقف لإطلاق النار. ففي ذات الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة السودانية عن وقف إطلاق النار من جانبها، بلغت الحرب الأهلية في الكنغو أقصى مراحلها حدةً. ولعلكم تذكرون تلك الأوقات التي بدأ فيها مرتزقة تشومبي الذين قدموا من جنوب أفريقيا وروديسيا في التحرك من استانلي فيل نحو السودان وأوغندا. وكانت حكومتا السودان وأوغندا تتعاطفان جدا مع كريستوف غبيني Gbenye (سياسي ونقابي راديكالي كنغولي. المترجم) ونيكولاس اولينقا Olenga (زعيم شيوعي لجماعة ثائرة / متمردة في شرق الكنغو. المترجم) وتهربان لهما الأسلحة عبر الحدود. وحدث ذلك إبان ما سُمي بـ "تمرد سِمْبا" الذي تم القضاء عليه بقوات مرتزقة بِيض (1). ولم يتسن لثوار السِمْبا الذين تدفقوا على الحدود الاستفادة الحربية من غالب الأسلحة التي بعثت بها حكومتا السودان وأوغندا لهم، واضطروا لبيع تلك الأسلحة الجديدة بأي مبالغ مالية يمكنهم الحصول عليها. وبذا حصلت حركة الأنانيا على أسلحة جديدة في نفس الوقت الذي بدأت فيه محاولة إيقاف الجيش السوداني لإطلاق النار من جانب واحد في الجنوب. وكان هذا يعني أن الظروف والأجواء العامة لم تكن مواتية تماما لنجاح مؤتمر "المائدة المستديرة" بين الجنوب والشمال، الذي عقد بالخرطوم في مارس 1965م (2)، في حضور مراقبين من منظمة الدول الإفريقية. ولم يصل المجتمعون في ذلك المؤتمر لأي اتفاق حول مستقبل السودان. وعقب إخفاق الوصول لتسوية عن طريق المفاوضات، جاءت حكومة سياسية أخرى (منتخبة ديمقراطيا) مكونة من ائتلاف حزبين هما الأمة والاتحاد الديمقراطي، وكانت برئاسة محمد أحمد المحجوب من حزب الأمة. وقررت حكومة المحجوب محاولة حل مشكلة تمرد الأنانيا عسكريا بمعونات من الكويت والجمهورية العربية المتحدة (الاسم الرسمي لمصر في ذلك التاريخ. المترجم)، وتنسيق من الجامعة العربية. ولم تلق تلك المحاولة إلا نجاحا محدودا، رغم أن الحكومة نجحت في استرداد بعض المراكز الإدارية التي كانت حركة الأنانيا قد استولت عليها، وعادت تلك المراكز للموظفين المدنيين ولكن بقيت تحت حماية عسكرية مشددة. وكانت الأحوال في أعالي النيل عادية بصورة عامة. غير أن كل المراكز الإدارية في بحر الغزال والاستوائية كانت تتلقى كل احتياجاتها بالطائرات القادمة من الخرطوم أو جوبا، وظلت غالب المناطق – خلا المدن الكبيرة – غير آمنة. فعلى سبيل المثال، كانت الحكومة قد حاولت إقامة "قرى آمنة" في منطقة مريدي بالاستوائية، في محاولة لمنع هجوم المتمردين على المنطقة، وجلبت الكثيرين للإقامة بمريدي. وعلمت من رجل أعمال بريطاني مر بتلك المنطقة قبل أشهر قليلة من زيارتي لها أنه لم يجد أحدا من الناس فيها سوى العسكريين. ولكني وجدت الآن بمريدي عددا كبيرا من الأفارقة. غير أن مدارسها لم تفتح بعد، وكل شيء يأتيها بالطائرات يوميا من جوبا. لذا فإني أعد مجتمع مريدي مجتمعا اصطناعيا. وتمت إعادة توطين المزارعين في تلك "القرى الآمنة"، مثلما حاول البريطانيون في الملايو من قبل، وكما جُرب في فيتنام الجنوبية. بقي المزارعون بالفعل في تلك الأماكن الآمنة، ولكن لم يكن بمقدورهم التجول خارج تلك الأماكن قط. وعندما ذهبت لزيارة الكنيسة البروتستانتية بمريدي في رفقة مفتش حكومي، رأيت بقربها دبابة مخبأة بين الشجيرات. ولما استفسرت عن سبب وجودها أُخبرت بأن القائد العسكري للمنطقة كان قد قام بإرسال تلك الدبابة لتأمين زيارتنا للمنطقة (التي لا تبعد أكثر من ميل واحد خارج مريدي في الطريق لياي). وفي حالة مكان مثل مندري يفتقر لمهابط الطائرات، كانت السلطات الحكومية تقوم برمي الامدادات بالباراشوتات، أو ترسلها بقوافل عسكرية ضخمة مزودة بجسر بيلي (هو نوع من الجسور المحمولة سابقة التجهيز والدعامات. المترجم)، إذ أن الجسر الذي كان مقاما بالقرب من مندري على نهر ياي تم نسفه بمهارة وخبرة). وكانت عمليات وضع ذلك الجسر ورفعه مرة أخرى عملية طويلة ومعقدة ومكلفة. وكانت حركة الأنانيا في مديرية الاستوائية تسيطر بصورة كاملة على كل المناطق الريفية. وكان الجيش السوداني يقوم بعمليات انتقام واسعة ضد المدنيين عند قيام الأنانيا بالهجوم على المدن أو بالقرب منها. وكان ذلك التكتيك قد أصاب بعض النجاح النسبي في دفع الأنانيا للكف عن مهاجمة المدن والقوافل العسكرية مباشرة نسبة للخسائر البشرية المترتبة على ذلك. ونصح مقاتلو الأنانيا أهالي القرى بالابتعاد مسافة عشرة أميال عن الطرق حتى لا يجدوا أنفسهم في وسط معمعة المعارك. ورغم كل شيء، فقد كانت حركة الأنانيا تنتشر في كل المناطق الريفية في الاستوائية، بل لقد أحكمت قيادة الحركة السيطرة تماما على تلك المناطق. وينبغي لمحاولة فهم من يقود التمرد في الجنوب أن ندرك أن هنالك علاقة حيوية بين ثلاثة عناصر في القيادة الجنوبية. أولها هو حزب سياسي قانوني يعمل في الخرطوم اسمه "جبهة الجنوب" يقوده كليمنت امبورو وهيلاري بول لوقالي، وثانيها هو تنظيم يسمى "جبهة تحرير أزانيا"، ويمارس نشاطه جزئيا في غابات جنوب السودان، وجزئيا في أوغندا. وأخيرا، هنالك قيادة عسكرية لحركة الأنانيا. ولا يزال غالب الجنوبيين يؤمنون بأنه من المفيد الاحتفاظ بحزب سياسي قانوني في الخرطوم له صحيفة سياسية يومية (اسموها the Vigilant). وكان صدور تلك الجريدة في الخرطوم من الأمور المدهشة للقادم للمدينة حديثا، إذ انها كانت تنشر علنا ما كان يوزعه القادة الجنوبيون في المنافي من نشرات دعائية مضادة للخرطوم. ومن المهم تذكر أن عددا كبيرا من الموظفين الجنوبيين (في رتب مختلفة، بعضها رتب عالية) كانوا لا يزالون يعملون بمديريات الجنوب الثلاث في تلك الأيام. وبمعنى من المعاني، كان هؤلاء بمثابة "رهائن" للشمال وللجيش. وكانت صحيفة "جبهة الجنوب"، تلك التي تصدر بالخرطوم، تحافظ على الروح المعنوية لأولئك الموظفين في الجنوب. وعَمَدَ قادة "جبهة الجنوب" للبعد عن التواصل الكتابي مع "جبهة تحرير أزانيا"، وذلك حرصا على سلامة وضعهم القانوني كحزب سياسي في الخرطوم. غير أن الغايات السياسية للجبهتين كانت واحدة، وكانت "جبهة تحرير أزانيا" تقدر الدور الذي يؤديه قادة "جبهة الجنوب"، إلا أن الجبهتين كانتا تتحاشيان أي ذكر للجبهة الأخرى في منشوراتهما وبيانتهما العلنية. وكانت رئاسة "جبهة تحرير أزانيا" تحت قيادة جوزيف أدوهو، ونائبه هو أقري جادين. وكانا يعملان من كمبالا ومن غولو بشمال أوغندا. غير أنهما يعملان الآن في منطقة متقدمة بالغابات القريبة من توريت. ولهما في مركزهما بيوت طينية شبه مؤقتة، ومكاتب وآلات طباعة يطبع عليها عدد من الكتبة الأوامر، ويضعون عليها ختم حركة الأنانيا. وسبق لهما محاولة الاتحاد مع تلك الحركة، التي كان يقودها جوزيف لاقو (الذي عمل سابقا في الجيش السوداني كملازم ثان بعد أن تخرج في الكلية الحربية عام 1960م، وعاد قائدا للقيادة الجنوبية عام 1974م في رتبة اللواء. المترجم) ومساعده ويليام حسن. وكان جوزيف لاقو يعمل من غولو وأروا (بشمال أوغندا) على إدخال الأسلحة لرجال الأنانيا، بينما كان ويليام حسن مسؤولا عن قيادة الحركة في جنوب السودان، ومعه أزبوني منديري (وزير الموصلات في أول وزارة بعد سقوط نظام عبود. المترجم) وآخرين. وبالإضافة إلى تقوية وتدعيم قيادة التمرد العسكرية في الأرياف، تم أيضا بها إقامة إدارات مدنية تتولى شؤون السكان المحليين، وتنسق بين زعماء مختلف القبائل وبين القيادات الإقليمية الثلاث لحركة الأنانيا، في الشمال (على الحدود السودانية - الإثيوبية)، وفي منطقتين أخريين في السودان. ويسود الآن نوع من الجمود في الأوضاع بالمديرية الاستوائية، حيث تسيطر الأنانيا على الأرياف، وتسيطر الحكومة على المدن. وكان اللواء الشريف الحبيب قائد الجيش السوداني بالجنوب قد كرر على مسامعي عندما لقيته ليوم كامل بجوبا أنه ليس هناك من حل عسكري لمشكلة الجنوب. غير أن الصعوبة الأساسية تظل باقية. فالجنوب يريد الاستقلال، والشمال ليس مستعدا حتى للتفكير في مثل هذا الحل. وكان بعض الحادبين على إيجاد تسوية للأزمة يقترحون "الفيدرالية" عوضا عن الاستقلال التام. غير أن الشمال يؤمن بأن الجنوب سيستخدم "الفيدرالية" كمرحلة تحضيرية لانفصال لاحق. وأكد لي الكثير من الجنوبيين أن ذلك هو ما سيحدث فعلا. ********* ****** ************* 1. للمزيد عن "تمرد سمبا" يمكن النظر فيما ورد في موسوعة الويكيبديا https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%AF_%D8%B3%D9%85%D8%A8%D8%A7 2. ورد تلخيص عن ذلك المؤتمر في موقع "المعرفة" https://www.marefa.org/%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%A6%D8%AF%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%A9_1965