تراجع سواكن في القرن العشرين (1/3)

 


 

 

 

تراجع سواكن في القرن العشرين (1/3)
The 20th Century Decline of Suakin
ديفيد رودن David Roden
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم ديفيد رودن عن بعض جوانب التراجع الذي حاق بسواكن في القرن العشرين. نُشر المقال ضمن أوراق الجمعية الفلسفية السودانية في العدد الحادي والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR"، الصادرة عام 1970م. ونشرته أيضا "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم في ذات العام.
لكاتب بنفس الاسم مؤلف عن السودان صدر عام 1974م عنوانه
Regional inequality and rebellion in the Sudan (عدم المساواة الإقليمية والتمرد في السودان).
المترجم
********* ******* *********
ظل ساحل البحر الأحمر هو المحطة النهائية لواحدة من أهم خطوط الحركة عبر القارة، وازدهرت، في أزمان مختلفة، العديد من الموانئ فيه بفضل التجارة مع الجزيرة العربية والهند. ولا زالت بقايا تلك الموانئ (مثل حلايب وعقيق وبادي وأدليس وعَيذاب ودهلك وماندلوم) موجودة متناثرة على طول سواحل السودان وإرتريا واثيوبيا ومصر. وكانت سواكن هي آخر ميناء على البحر الأحمر تتدهور أحواله بضربتين قويتين من تغير الأحوال والظروف (العالمية) والمناخ المفرط السوء. وبعد نحو 500 سنة من تراجع ميناء عَيذاب في بدايات القرن الخامس عشر، كان ميناء سواكن هو الميناء الشرقي الأكثر أهمية بالنسبة لحوض النيل. غير أن سواكن الآن لا تزيد عن كونها إحدى الأسواق الصغيرة والمراكز القبلية، وليس بها الآن سوى مجموعة رائعة من الأنقاض.
تقع الجزيرة المرجانية التي يقوم عليها ميناء سواكن عند مقدمة مدخل البحر، وهي منفصلة عن البر الرئيس بشريط مائي عرضه مائة متر. وامتدت المدينة من قديم عبر المياه من موقعها الضيق المزدحم لتكون "القيف" وهو ضاحية السوق في البر الرئيس. واليوم ما زالت هذه هي المستوطنة الفعالة ومركز النشاط الاقتصادي بسواكن.
وتبدو من بعيد تلال البحر الأحمر على بعد عشر كيلومتر، ويفصلها عن الساحل أراضٍ منخفضة قاحلة في غالب فصول العام، حيث لا تنمو فيها سوى شجيرات مقاومة للجفاف. وبحلول شهر أكتوبر وهطول الأمطار تكتسي تلك الأراضي المنخفضة القاحلة بالخضرة فيهبط الهدندوة والبني عامر من التلال والأراضي الواقعة حول دلتا القاش نحو جهة الجنوب الغربي. وبحلول شهر يونيو يكون غالب الرعاة قد ارتحلوا غربا وجنوبا بحثا عن مراعٍ جديدة، بينما ينتقل المقيمون إلى التلال هربا من حرارة الطقس العالية والرطوبة المفرطة. ولم تكن هنالك في الماضي أي زراعة في السهول الساحلية، ولكن توجد الآن مناطق محدودة وصغيرة المساحة تروى بالآبار (مثلا يحدث في سواكن نفسها). ولا توجد منطقة دائمة للزراعة سوى في دلتا بركة حول طوكر، منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وكان من الواضح أنه لم يكن لأي ميناء في المنطقة أن يبقى عاملا ومزدهرا بالاعتماد فقط على التجارة المحلية، بل كانت الموانئ تستمد قوتها من اتصالاتها بوادي النيل ومناطق السافانا خلفه. وكانت سواكن تتمتع بعدة عوامل ساهمت في نمو الميناء في موقعها، فهي ميناء طبيعي ممتاز، يمكن الوصول إله عبر ثُغْرَة في الشعب المرجانية ويقدم للسفن المبحرة واحدة من الموانئ القليلة التي توفر على طول ساحل طويل ومعزول وغَرّار مرفأ محميا جيدا ومصدرا منتظما من المياه (من عدة آبار وحفير الفولة وخور ابنيت (وليس Abban كما ذكر الكاتب. المترجم). ويمنح موقع الجزيرة، ومدخل الميناء الضيق (عرضه 165 مترا) قدرا كبيرا من القدرة على الدفاع عنه.
سواكن قبل 1905م
مرت سواكن في خلال الخمسمائة عاما الماضية بفترات متذبذبة من الازدهار. وورد ذكر سواكن في كتاب جواو دي كاسترو المعنون Tavoa da Cidade de Cuaquem، الذي صدر في القرن السادس عشر، حيث وصف منازل المدينة بأنها حسنة التناسب، وبعضها مكون من ثلاثة طوابق. بل ورد في أحد المصادر البرتغالية في تلك الفترة بأن سواكن لا تختلف عن لشبونة كثيرا: ترسو في مرفأها أكثر من مئتي سفينة تنتظر أن تفرغ حمولتها في مخازن على رصيف الميناء، وقوافل من آلاف الجمال تذهب محملة بالبضائع من الميناء إلى المناطق الداخلية، وتعود محملة إليه ببضائع أخرى.
وفي القرن السابع عشر قلت أهمية وحجم التجارة العالمية في البحر الأحمر (وفي سواكن بالطبع) بسبب تحول تجارة الشرق الأقصى حول أفريقيا، ونسبة للضرائب الباهظة التي كانت تفرضها تركيا، وللزيادة الكبيرة في عمليات القرصنة في البحر الأحمر. وفي بدايات القرن التاسع عشر كانت معظم بيوتها الستمائة قد تهدمت تماما، ولم يبق لسواكن من صلة سوى بجدة، بحسب ما أورده الرحالة السويسري بيركهاردت في سفره المعنون: "رحلات في بلاد النوبة".
وتحسنت أحوال الميناء في غضون السنوات الخمسين التالية. وقد ساهم احتلال المصريين لغالب صعيد مصر وشمال السودان في تهدئة الأحوال في تلك المنطقة وتطوير التجارة بها. وتم فتح النيل الأبيض للبواخر والتجارة في ستينيات القرن التاسع عشر، حيث نشطت تجارة العاج والرقيق المجلوب من الجنوب. وأفضى إغلاق أسواق المسترقين بمصر في سبعينات القرن التاسع عشر إلى انتعاش تجارة الرق عبر البحر الأحمر من سواكن، كما كانت في الماضي مركزا مهما لها. وفي ذات الوقت أدت الزيادة الكبيرة في انتشار الإسلام الأصولي في غرب أفريقيا لقيام الكثير من سكان تلك المناطق الذين اعتنقوا الإسلام برحلات طويلة وشاقة إلى مكة لأداء فرضة الحج عبر ميناء سواكن. وعادت الملاحة والتجارة في البحر الأحمر للازدهار بعد أن اكتمل بناء خط السكة حديد بين الإسكندرية والسويس، وعقب فتح قناة السويس. وبحلول عام 1865م كانت البواخر المصرية تقوم برحلات منتظمة بين سواكن والسويس. وقام الحكمدار المصري أحمد ممتاز باشا (1865 – 1872م) بتحسين ميناء سواكن وتوسيع إمكاناته. وأقام سدا ترابيا على خور محلي لتنظيم سريان امدادات المياه، وشيد مبنىً للجمارك ورصيفا في الجزيرة. وكان ذلك الحكمدار هو أول من أقام مشروعا لزراعة القطن (استجلب له من مصر بذرة قطن جوميل ومزارعين. المترجم) في طوكر، ثم في كسلا. وسمح لشركة سورية في عام 1870م بأن تنشئ محلجا للقطن في سواكن.
وعلى الرغم من كل ذلك النمو والتطور، بقيت سواكن مركزا تجاريا ثانويا، وفقا للمعايير العالمية. وظل تجارها حتى سبعينيات القرن التاسع عشر مجرد وكلاء للبيوتات التجارية الكبيرة في جدة. وكان حجم صادراتها ووارداتها في عام 1882م يقل بنحو 40% عن ميناء مصوع، وهو أقرب ميناء أفريقي يماثل سواكن في الحجم. وكانت الجمارك التي تُفرض على السفن والبضائع عالية جدا، وسياسات وقرارات حكامها تتميز بالتذبذب والقصر، وبقيت مصادر مياهها محدودة الكمية والنوع رغم ما بذل في تحسينها من مجهود. وكان الميناء يفتقر لرصيف عميق المياه، ويصعب على السفن دخوله، ولا يمكن لها أن تدخله إلا نهارا عبر واحدة من ثلاث قنوات شديدة الالتواء. وزيادة على تلك العيوب، تكاثر نمو الشعب المرجانية في الرصيف حتى كاد أن يعيق الحركة فيه. ولذا صارت السفن الكبيرة العابرة للمحيطات تتجنب – إلا نادرا – ميناء سواكن بسبب صعوبة الدخول إليه ولانعدام المعينات المطلوبة لذلك. واقتصرت الملاحة بسواكن على السنابك والمراكب الشراعية التي تبحر من وإلى جدة ومصوع، وعلى البواخر المصرية التي تحمل البضائع من السودان إلى السويس وعدن، ومنهما إلى أوروبا والهند.
وكانت الجمال تستخدم في نقل البضائع ما بين سواكن والمناطق الداخلية البعيدة. وكان أهم طريق بري لذلك يمر غربا إلى بربر ووادي النيل. أما الطريق الآخر فيذهب في اتجاه الجنوب الغربي إلى كسلا ومنها إلى مرتفعات إرتريا، أو ومناطق تزرع فيها الذرة مثل القضارف وكركوج، ومنها إلى المديريات الاستوائية وما بعدها. وفي سنة 1880م وما تلاها من أعوام كانت هنالك قوافل تتكون من 600 إلى 1000 من الإبل تتحرك كل بضعة أشهر من سواكن متجهة إلى المناطق الداخلية وهي محملة بأقمشة مصانع مانشستر القطنية الرخيصة والبهارات والعطور وأنواع الحرير التي تُعرف على وجه الإجمال بـ "البضائع الهندية". وتعود تلك القوافل إلى سواكن وهي تحمل البن من الحبشة، والصمغ العربي وريش النعام والسنامكي والسمسم والقطن والجلود من الأراضي التي تكثر فيها المراعي، والعاج والزنوج (أي المسترقين. المترجم) من الجنوب. وفي تلك السنوات استحوذت سواكن على تجارة الصمغ العربي بعد أن كانت تمر عبر وادي النيل إلى مصر. وكانت الأغنام والمَعْز تصدر حيةً بأعداد كبيرة إلى السويس. وكان أكثر المستفيدين من توسع التجارة هم الهدندوة الذين كانت إبلهم تُستخدم في تلك القوافل. غير أن نقصا في الإبل في السنوات الأولى من ثمانينات القرن التاسع عشر أدي لتأخير إيصال البضائع لسواكن، وحينها بدأ التفكير في إنشاء خط حديدي يربط سواكن بالنيل (عند بربر).
ولأحد تجار سواكن لأكثر من خمسين عاما (اسمه محمد السيد صيام) أوراق سجل فيها تطور الأنواع المختلفة للتجارة بالمدينة في تلك الفترة. وتتضمنت أوراق مبيعاته ما كانت تحمله الإبل من صمغ وسمسم وجلود وسمن – من كسلا غالبا-. وكان صيام يصدر القطن من دلتا القاش، والشمع من التاكا، والتبغ من القضارف، وكان يقوم أحيانا بتصدير المسترقين. وكان هنالك طلب متواصل للقِرَب المصنوعة محليا، وعلى الملح المجلوب من رأس رواية (Ras Rawaya). وكانت معظم معاملات صيام التجارية تتم مع الجزيرة العربية، خاصة جدة، حيث كان والده يعمل تاجرا بها. ولكنه كان يتعامل أيضا مباشرة مع تجار كلكتا والسويس ومصوع. وكانت العطور والأفيون والأرز والسكر والدقيق والبهارات التي تستورد من الهند والسويس ومصوع تُرحل إلى بربر أو كسلا، ويتم بعد ذلك توزيعها على الأسواق السودانية والحبشية.
وكان وجه سواكن في تلك الفترة يعكس حقيقة ازدهارها المتنامي. ومع عودة التجارة، بدأت حركة صيانة وإصلاح وزيادة المنازل المتلاصقة بالجزيرة. وتم بناء منازل جديدة على طراز المنازل المصرية والأوروبية، بينما أقام البعض خيمهم وعشعشهم في المساحات الخالية بين المنازل. وكان غالب التجار بالمدينة من الأغاريق والمصريين والجداويين. وكانت أهمية وأعداد من استوطنوا في "قيف" سواكن تفوق أهمية وأعداد سكان الجزيرة منذ خمسين عاما مضت. فقد كان في ذلك البر مباني رئاسة الشرطة وثكنات الجيش ومحلج القطن ومسجد أو أكثر. وكان بها أيضا نُّزُلُ كبير للقوافل، اكتمل تشييده في 1881م على يد تاجر محلي يقع على طرف القيف في الجسر (وهو الممر الرابط بين الجزيرة والبر).
وفجأة فصل انتشار الثورة المهدية في عام 1883م الميناء عن كثير من سائر الأراضي السودانية. ولم تنجو المدينة من السقوط على أيدي قوات المهدي المتمردة (أي أنصار عثمان دقنة. المترجم) إلا بعد قتال عنيف. وظلت سواكن تتعرض لحصار متقطع من تلك القوات. وكان ذلك سببا، لا محالة، في تدهور التجارة، إذ أن حركة القوافل وطرقها من وإلى سواكن كانت تتعرض للإغلاق بين كل حين وآخر. وهجرت السلطات فكرة تشييد خط للسكة حديد من سواكن إلى بربر بعد أن اكتمل تشييد 30 كيلومتر منه. غير أن تحرك القوافل والتجارة على طول ساحل البحر الأحمر ظل مستمرا في تلك السنوات بعد أن كان قد توقف لفترة قصيرة. وللغرابة، رغم كل تلك الظروف، بقي الطلب على شراء العقارات في سواكن عاليا. فقد كانت حامية المدينة، والمقاولون الذين عُهد إليهم بتشييد خط السكة حديد بين سواكن وبربر، قد جلبوا الكثير من الأموال للمدينة، وحسنوا من مصادر المياه فيها بحفر المزيد من الآبار وبمكثف (لتحلية ماء البحر)، وأعادوا بناء أسوار الطين المحيطة بالقيف بالطوب والحجر. وظل الصمغ العربي والعاج، طوال تسعينيات القرن التاسع عشر، يصدران من ميناء سواكن. فعلى سبيل المثال، جلب هذان المنتجان في الفترة بين مايو إلى ديسمبر 1892م مبلغ 50,423 و31,573 جنيها مصريا (ج م)، على التوالي. وبقيت التجارة تمر بالطرق التقليدية إلى بربر وكسلا – القضارف.
وأنهى الاحتلال البريطاني – المصري بين عامي 1896 – 1897م فعليا حصار أنصار دقنة للمدينة. ولم تمر إلا سنوات قليلة بعد ذلك حتى صارت كل المناطق في السودان تدار بحكومة مستقرة، وعادت بذلك التجارة للازدهار. غير أن الأثر الفوري المباشر للحملة الحربية (الغازية) كان سلبيا على التجارة بين سواكن والمناطق الداخلية بالسودان. فقد كان الجيش الغازي لا يسمح إلا للقوافل الكبيرة بالمرور في قليل من المرات. وأخفقت عودة السلام في إنعاش التجارة كما كان مؤملا. بل حدث العكس تماما، إذ تدهورت أحوال سواكن بصورة متسارعة. فقد صارت البضائع التي كانت تأتي من قبل من الخارج بالبحر إلى سواكن، تنقل من مصر للسودان عبر خط السكة حديد الذي شُيد لنقل جنود الفتح (الغزو) من جنوب مصر. فعلى سبيل المثال دخلت عبر سواكن في عام 1895م بضائع قيمتها 124,738 ج م، بينما دخلت عبر حلفا في ذات العام بضائع قيمتها 30,619 ج م فقط. وأنعكس الوضع تماما بحلول عام 1901م، حين دخلت عبر حلفا بضائع قيمتها 101,677 ج م، بينما دخلت عبر سواكن في ذات العام بضائع قيمتها 694,688 ج م فقط. وكان دخل الضرائب في ميناء سواكن في عام 1901م يقل بأكثر من النصف عن الدخل في السنوات السابقة، وأنخفض الدخل أكثر في عام 1902م وما تلاه من أعوام. وتدهورا أسعار العقارات بالمدينة، وتناقصت كذلك قيم الإيجارات مع مرور السنوات (كان البيت يؤجر لعدد من المستأجرين في سواكن بمبلغ شهري لا يتعدى 37 قرشا مصريا بين عامي 1887م إلى 1896م، وظلت تلك البيوت خالية من السكان بعد ذلك التاريخ). وهجر عشرون من التجار الأجانب (كان أغلبهم من الهنود) مدينة سواكن، أو حولوا تجارتهم لمراكز أخرى، وتركوا وكلاء لهم فيها. وظل معظم سكان المدينة بلا عمل. غير أن بعض هؤلاء تم تشغيلهم عام 1902م في تشييد خط السكة حديد الرابط بين البحر الأحمر ووادي النيل. وكانت محطته النهائية على البحر الأحمر تقع جنوب سواكن (للمزيد عن نشوء وتطور بورتسودان يمكن النظر في مقالين مترجمين تجدهما في هذا الرابط http://www.sudanile.com/33884 و http://www.sudanile.com/961 . المترجم).
وكتب كبير مسؤولي المدينة في عام 1902م بأنه على الرغم من الفقر البادي على سواكن وأهلها، إلا أن "... تجار المدينة ينتظرون بفارغ الصبر وصول معدات تركيب الخط الحديدي المزمع تشييده ...". ونصح ذلك المسؤول الحكومة بالاحتفاظ بما تملكه من عقارات بالمدينة (مثل تلك الأبنية على حافة رصيف الميناء) إذ أنه كان يتوقع ارتفاع قيمة الأراضي بالمدينة في المستقبل القريب. وبدا بعد فترة قصيرة أن تلك النصيحة كانت نصيحة صائبة.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء