تراجع سواكن في القرن العشرين (2/3) The 20th Century Decline of Suakin ديفيد رودن David Roden ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم ديفيد رودن عن بعض جوانب التراجع الذي حاق بسواكن في القرن العشرين. نُشر المقال ضمن أوراق الجمعية الفلسفية السودانية في العدد الحادي والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR"، الصادرة عام 1970م. ونشرته أيضا "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم في ذات العام. لكاتب بنفس الاسم مؤلف عن السودان صدر عام 1974م عنوانه Regional inequality and rebellion in the Sudan (عدم المساواة الإقليمية والتمرد في السودان). المترجم ********* ******* ********* انْتعاش وتراجع بطيء (1905 – 1918م) اكتمل تشييد الخط الحديدي بين سواكن وبربر في أكتوبر من عام 1905م، وانخفضت تكلفة شحن الكثير من البضائع بين دولتي مصر والسودان عبر قناة السويس. وكتب حاكم سواكن مشيدا بما أحدثه خط السكة حديد من تحسن بالمدينة. فقد عادت التجارة للمدينة، وبدأ الميناء في استقبال ما يُستورد للسكة حديد من لوازم. وصارت أغلب الشحنات الرسمية تبلغ الأرصفة الجديدة بالميناء، عوضا عن نقلها عبر مصر، الأمر الذي كان سيستلزم إعادة شحنها أربع مرات. وتضخمت الواردات الحكومية ومستلزمات الجيش، وفاقت الصادرات بكثير، مما يعكس حالة الركود الاقتصادي والتأخر العام بالبلاد في تلك الفترة. وصارت كل البضائع التجارية التي كانت تنقل عن طريق الجمال، تُنقل الآن على عربات الشحن بالسكة حديد، إلا أن البضائع المصدرة من البلاد ظلت هي ذات البضائع السودانية التقليدية، عدا الاتجار في المسترقين. فعلى الرغم من أن الرق ظل موجودا بسواكن في تلك الفترة، إلا أن الاتجار بالمسترقين كان قد انخفض بصورة كبيرة نتيجة لمجهودات العاملين بقسم منع الرق، ومع ذلك حدثت - في مرات قليلة - بعض التجاوزات الكبيرة عندما نجح تجار الرقيق في مواصلة تجارتهم تلك. وازداد استخدام ميناء سواكن لنقل الحجيج إلى جدة عبر سواكن، فازداد عددهم من 1,227 حاجا في عام 1905م إلى أكثر من 4,000 في العام التالي. وفي موسم الحج تَنْشَأْ خارج "القيف" لمدة ثلاثة أشهر قرى مؤقتة تؤوي حجاج غرب أفريقيا، الذين كانت أعدداهم تفوق أعداد السودانيين بالمدينة. وكان واضحا أن هنالك بوادر ازدهار عمت كل جوانب الحياة بسواكن. ومنذ عام 1903م بدأ الطلب على العمالة يزداد، خاصة بعد بدء العمل في تشييد الخط الحديدي. وبدأ السكان يعودون إلى المنازل التي ظلت خاوية لسنوات. وأفتتح مصرفان مصريان فرعين صغيرين لهما بالمدينة. وأعادت شركة "جلاتلي وهانكي وشركاؤهم" افتتاح فرعها بسواكن على أمل أن تعود التجارة والأعمال لسابق عهدهما. وعاد محلج سواكن للعمل للمرة الأولى بعد توقف دام لعقدين من الزمان. وفي عام 1905م غدا عدد سكان المدينة الذين يقيمون بها بصورة دائمة 10,500 نسمة. وشهد ذلك العام بلوغ ميناء سواكن قمة أهميته كميناء لكل السودان. غير أن الخطط التي كانت تُعد في تلك السنوات وستفضي في النهاية لاضمحلال سواكن كانت تمضي في تلك الأعوام على قدم وساق. شرعت الحكومة في بداية عام 1905م في إنشاء ميناء جديد في "الشيخ برغوث"، على بعد ستين كيلومترا شمال سواكن. وأتضح حينها أن بدء خط السكة حديد من سواكن كان خطأ كبيرا. وزعمت إدارة الحكم الثنائي أن البحرية البريطانية هي التي شجعتها على اعتبار سواكن هي "الثغر" المفضل لديها لدخول السودان، وأنها اكتشفت لاحقا أن ذلك ليس بصحيح، ولكن بعد أن اكتمل تشييد الخط الحديدي بالفعل صارت سواكن هي الميناء الذي تصله كل مستلزمات إنشاء ذلك الخط الحديدي وأقيمت به ورش للسكة حديد. وحينها كان الأوان قد فات للتغيير. غير أنه كان من اللازم إكمال ذلك الخط الحديدي، وأن يمد منه لاحقا خط فرعي للميناء الجديد. وجاء في بعض التقارير أن مسؤولي السكة حديد كانوا يفضلون أن يبدأ خط السكة حديد من سواكن لتوفر الكثير من الإنشاءات والمعينات بها لأعداد كبيرة من العمال. غير أن مفوض الأشغال العامة كان في الواقع قد أوضح مزايا تشييد الميناء في موقعه الجديد في "شيخ برغوث" قبل عام من ذلك التاريخ. وكُونت لجنة لبحث مسألة إقامة الميناء الجديد، وخلصت تلك اللجنة إلى أن "شيخ برغوث" هو أفضل موقع للميناء الجديد، إذ أن مدخل ميناء سواكن بالغ الضيق والالتواء، وتنمو به الجزر المرجانية التي تجعل الملاحة به خطرة جدا. إضافة لذلك، كان ميناء سواكن لا يعمل ليلا. وكانت هنالك مشاكل فنية أخرى تعوق دخول السفن الكبيرة الحجم فيه. وتسببت تلك المشاكل في حوادث لكثير من السفن والبواخر، مما أفضى لرفع قيمة التأمين عليها. وكانت المستوطنة السكانية بالجزيرة في حاجة ماسة لإعادة بناء يناسب احتياجات القرن العشرين، خاصة وأن كمية ونوعية المياه بالجزيرة كانت لا تكفي لمقابلة احتياجات أي ميناء عصري. غير أن موقع "شيخ برغوث" تميز بخلوه من أي من العيوب التي ذكرت عن ميناء سواكن. فالمياه لا تمثل مشكلة كبيرة فيه، إذ يمكن الاعتماد على "خور أربعات" في تزويد بورتسودان والميناء الجديد بالماء. وتوصلت تلك اللجنة إلى أن سواكن يمكن أن تظل نافعة لأصحاب البواخر والمراكب المحلية، ونصحت بأن يظل بسواكن خط ملاحة دائم للمسافرين والبضائع. وتم ربط مدينة بورتسودان بخط السكة حديد في يناير من عام 1906م، وتم تخفيض رسوم الشحن بالسكة حديد تشجيعا للجميع لاستخدام طريقة النقل الجديدة. وقبل نهاية العام كانت السكة حديد قد نقلت بضائع تفوق ما كان يُنقل عن طريق ميناء سواكن، على الرغم من أن تشييد أرصفة الميناء الجديد لم يكن قد اكتمل بعد، وأن السفن كانت تفرغ حمولتها في مراكب صغيرة، مما تسبب في إحداث أضرار ببعض البضائع. وظل ميناء سواكن مركزا مهما للتجارة في الفترة التي كانت تقام فيها انشاءات ميناء بورتسودان، خاصة وأن بعض أصحاب المراكب الكبيرة كانوا يتحاشون الميناء الجديد. وظلت هنالك حركة تجارة بحرية رائجة بين سواكن والسويس وعدن. وظلت واردات الحكومة من البضائع تأتي لسواكن وتُنزل في أرصفة السكة حديد بها. وقررت الحكومة أن ترك القليل من معدات الميناء الجديد ليستغل مجانا من أجل تطوير القطاع الخاص. وبحلول عام 1910م كانت نحو 63% من كل واردات الحكومة قد دخلت للبلاد عبر ما سمي "نقطة جراهام"، وكان ذلك يمثل زيادة قدرها 6% من مستوى العام السابق. وبالإضافة لذلك أنفق جل ما جلبه الميناء الجديد من أموال على الميناء القديم. وكان انتعاش ميناء سواكن وقدرته على الصمود مصدر استغراب لدى الكثيرين، بينما جلب بطء نمو بورتسودان الخيبة والاحباط عند هؤلاء. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان ميناء سواكن قد فقد نصف تجارة التصدير التي كانت تتم عبره بحلول عام 1909م، حين افتتح الخديوي (عباس حلمي الثاني) ميناء بورتسودان رسميا. ومرت الغالبية العظمى من واردات وصادرات وادي النيل عبر ميناء بورتسودان، ولم يبق لميناء سواكن سوى تصدير بعض المنتجات المحلية مثل قطن دلتا بركة وذرة القضارف ومنطقة النيل الأزرق. وكان انتاج هذين المحصولين يتذبذب بحسب تباين مستويات الأمطار بين موسم وآخر، وينعكس ذلك بالطبع على كمية الصادر منهما عبر سواكن. وفي عامي 1909 و1910م سدد اعتماد الحكومة على ميناء بورتسودان كمركز للتصدير ضربتين قويتين لميناء سواكن. فقد اِسْتَأْثَرَ ميناء بورتسودان في عام 1911م بنحو 72% من كل صادرات البلاد عبر البحر الأحمر، ونحو 82% من وارداتها، وترك البقية لسواكن. ولم تمر عبر ميناء سواكن إلا 1% من صادرات القطاع الحكومي. وقلت الأنشطة التجارية بمدينة سواكن عندما حُولت عنها رئاسة المديرية ونقلت لمدينة بورتسودان عام 1909م، وحُول سجنها المركزي وحامية الجيش إلى بورتسودان عام 1912م. وعلى الرغم من ذلك التدهور العام الذي حاق بسواكن، إلا أنها حافظت على قدر معقول من الازدهار لعقد كامل من الزمان بعد ذلك، ربما بسبب احتفاظها ببعض صلاتها القديمة مع كثير من الجهات. وبقيت سواكن هي المفضلة لدى التجار (خاصة الهنود) والسودانيين المسافرين والقادمين من عدن والسويس وذلك لقلة الرسوم والضرائب المفروضة بها مقارنة بميناء بورتسودان. وكانت بضائع التجار الهنود تمثل 50% من الصادرات والواردات التي تصل بالمراكب والبواخر الصغيرة لميناء سواكن. بينما احتكرت بورتسودان التجارة بصورة شاملة مع الدول الأجنبية. ولم تكن تجارة الإبل القادمة من الجنوب والجنوب الغربي قد تأثرت بعد بمنافسة السكة حديد لها، بل زادت في تلك السنوات. وتم القبض في عام 1907م – بعد عناء – على عصابتين من قطاع الطرق كانتا قد أثارتا الرعب عند تجار القوافل. وبعد ذلك بعام استأنفت القوافل تجارتها من سواكن، فسارت نحو 3,000 من الإبل من سواكن إلى كسلا والقضارف. وفي عامي 1911م سارت قافلة من 5,000 من الإبل عبر طريق كسلا، وسارت قافلة أخرى مكونة من 6,000 من الإبل نحو طوكر. وفي عام 1911م ساهم إنشاء محلج آخر للقطن بسواكن في إنعاش التجارة المحلية بها. وبذا لم يحدث ما كان متوقعا من نزوح تجار سواكن إلى بورتسودان على الرغم من عرض الحكومة لهم قطعا سكينة وتجارية بشروط ميسرة جدا. ولخص مدير الجمارك السودانية في عام 1910م الموقف بما يلي: "إن لهؤلاء الناس (أي تجار سواكن. المترجم) بيوتهم في سواكن، ولهم عبيدهم ومراكبهم الخاصة، وصلاتهم بالمصرف المحلي، ويقومون بمتابعة أعمالهم التجارية بأنفسهم. وإن رحلوا إلى بورتسودان، فسوف تنخفض بصورة كبيرة قيمة ممتلكاتهم بسواكن على الفور، خاصة مع رخص قيمة النقل بالسكة حديد من ذلك الميناء إلى مناطق السودان الداخلية. وستتبخر مدخراتهم ويذهب معظمها كرسوم ومصاريف للوكلاء والسماسرة الذين سيبيعون لهم ممتلكاتهم أو يؤجرونها". وخلص مدير الجمارك إلى أنه "ليس هنالك من شيء يمكن عمله سوى إيقاف خط السكة حديد لإجبار أولئك التجار المستقرين من قديم في سواكن على هجر دورهم المريحة المبنية من الحجر، ومخازنهم الخاصة والذهاب لبورتسودان ليبدأوا فيها من الصفر في تأسيس تجارتهم وسكنهم تحت ظروف مختلفة". غير أن ذلك الخط لم يوقف فعلا إلا في عام 1954م. وكانت الأوراق والوثائق التي تركها محمد السيد صيام، أحد كبار تجار سواكن، في الفترة بين 1905م و1915م (عام وفاته) تبين مقدار التغير الذي حدث في التجارة بالمدينة منذ نهاية القرن التاسع عشر. فقد كان الاستيراد يتم في الغالب عبر وكلاء لشركات في أم درمان وبربر وشندي كان بعضها يتعامل في البضائع التي تشحن لبورتسودان. وغدت البضائع ترسل لأماكن متنوعة في داخل السودان أبعد مما كان عليه الحال قبل ذلك. وقبل دخول السكة حديد كان صيام يرسل البضائع المستوردة إلى بربر وكسلا، حيث تتم إعادة توزيعها. ولكن صارت تلك البضائع ترسل مباشرة إلى المدن الواقعة على النيل (مثل بربر وشندي والدامر وحلفا وود مدني وسنار)، وإلى كردفان وكسلا وطوكر. أما الجزء الأكبر من تلك البضائع المستوردة فكان يُرسل إلى أم درمان. وظل صيام محتفظا بصلاته مع جدة، غير أن غالب بضائعه المستوردة (مثل الشاي والعطور والبهارات والأقمشة) كانت تأتيه من بومباي، ويستورد البضائع أيضا من السويس (مثل الأقمشة والعطور والسكر والشاي). ولم يعد صيام يعمل في مجال تصدير الصمغ العربي، إذ أن تلك التجارة تحولت كليا إلى بورتسودان. غير أنه كان يصدر كميات كبيرة من الجلود والسمن المجلوب بالإبل من طوكر أو بالسنابك من عقيق، وحتى من كردفان. وكان صيام في تلك السنوات قد غدا تاجرا مهما في مجال تصدير الذرة (التي لم يكن بتاجر فيها منذ ربع قرن من الزمان). ومثله مثل بقية تجار سواكن، كان صيام يمتلك أراضٍ زراعية في دلتا بركة، ولا ريب أن دخله منها كان يشكل له حماية من تقلبات التجارة. ويمكن القول بأن سواكن كانت تنعم بحياة مريحة – قد لا تخلو أحيانا من بعض الخطورة - في السنوات التي سبقت بدء الحرب العالمية الأولى بقليل. وسجل مدير الجمارك في عام 1913م "أن سواكن، باعتبارها ميناءًا، لا تزال تحتفظ بمكانتها وأهميتها، وأنها ستبقى هي السوق الرئيس للبضائع التي توزع عبر مديرية البحر الأحمر وعبر حدود مديرية كسلا". وكانت هنالك العديد من القوافل الكبيرة تغادر سواكن إلى مناطق السودان الداخلية. ويقدم لميناء سواكن كل عام نحو 6,000 إلى 7,000 حاج يوميا ليعبروا البحر الأحمر بالسنابك والبواخر الصغيرة إلى جدة، ويعودوا عبره لسواكن بعد انتهاء الحج. وجلبت الصلات الواسعة والمعارف الكثر للتجار الكبار بالمدينة (مثل صيام) العديد من الصفقات التجارية لها. وكانت العائلات العربية تسيطر على بعض أكبر البيوتات التجارية بسواكن، بينما بقي بها بعض الحجاج الذين مروا بالمدينة وصاروا بعد سنوات من كبار رجالاتها، مثل صافي والبازاري، وهما من الحضارمة، ودوربي من اليمن، وخورشيد والشماس من شمال غرب أفريقيا (ذكر الكاتب في مراجعه أنه سمع هذه المعلومة من الأستاذ محمد صالح ضرار. المترجم). وكان الهنود بالجزيرة يقيمون في حي منفصل، وكانوا يمثلون مصدر ضيق وسخط للسلطات بسبب ولعهم بالتقاضي. وكانت بسواكن أيضا أعداد كبيرة من الأغاريق والإيطاليين. وتتضح الطبيعة الكوزموبوليتانية لمجتمع التجار بسواكن من مراجعة سجلات التلاميذ في المدرسة الحكومية التي افتتحت في عام 1896م، وكانت الأولى من نوعها بالسودان. وفي عام 1912م كان بتلك المدرسة 35 تلميذا مولدا، و27 من العرب، و24 من المصريين، و15 من السودانيين، و13 من الجداويين، و10 من الحضارمة، و7 من الشايقية، و7 من الجعليين، و6 من المغاربة، و5 من الهنود، و3 من الأكراد، و3 من الأغاريق، مع اثنين من الأحباش وواحد من مالطة وآخر من سوريا. وفي شهور الصيف القائظة، كان المقتدرون في سواكن يغلقون بيوتهم ويسافرون لسنكات في تلال البحر الأحمر للاستمتاع بجوها المعتدل. وفي عام 1912م كان غالب أثرياء سواكن قد أقاموا لهم بيوتا بسنكات لقضاء فترة الصيف بها. وعندما تكون أحوال الزراعة جيدة في دلتا بركة، كان بعض تجار سواكن أو وكلائهم ينتقلون لطوكر للإشراف على مزارعهم، بينما يذهب إليها بعض فقراء سواكن للعمل أجراء في تلك المزارع. وكما كان الحال عليه في القرن التاسع عشر، كان معظم التجار والمسؤولين يعيشون في الجزيرة. وكان "القيف" أكبر – ففي عام 1905م كان به نحو 500 بيتا مسجلا، مقارنة بنحو 300 منزلا في الجزيرة؛ وكان به أيضا السوق الرئيس ومبانٍ كبيرة مثل السجن وثكنات الجيش والمستشفى ومحلج القطن، والتي ليس لها مكان يسعها في الجزيرة. وكان "القيف" يفيض بأعداد كبيرة من الرحل ومن القادمين للسفر عبر البحر الأحمر لأداء فريضة الحج. وازدادت مع مرور السنوات منذ عام 1884م أعداد المباني الحجرية ذات الطوابق المتعددة في الجزء الأكبر من سواكن. غير أن "القيف" ليس به الآن سوى أكواخ خشبية أو طينية أو قطاطي معروشة بالقش أو خيام. وهذا مما يعطي المكان صورة مختلفة عن القرى السودانية الأخرى في ذلك الوقت. وإضافة لذلك كان سكانها في حالة تغير مستمر. كتب مراقب أراضي سواكن في عام 1905م عن ذلك ما يفيد بأن "ملاك تلك البيوت يأتون ويذهبون، وغالبا ما يحملون معهم بيوتهم وما فيها، ولا يتركون خلفهم أثرا لسابق ملكيتهم لبيوت في هذا المنطقة". وفي المقابل نجد أن بيوت الجزيرة تشابه في أسلوب معمارها وطرائق حياتها مدن جدة ومصوع والحديدة والمخا أكثر من شبهها لمدن وادي النيل. فمبانيها متعددة الطوابق، مصنوعة من الحجارة المرجانية البيضاء، وخشب تيك (ساج) جاوه. وهي متراصة بين أزقة ضيقة مما يجعلها محمية من أشعة الشمس. وتهب على شوارع المدينة رياح باردة من البحر فتجعل كل ركن من أركانها ينعم بانتعاش نسيم بارد. وما زالت بالمدينة حتى عام 1905م قطع إراضٍ خالية منذ عام 1884م، وهذا مما منع اكتظاظ المباني بها، ومنحها متنفسا. وكانت البيوت القديمة بالمدينة قد شيدت منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وبنيت تلك الدور بكتل مرجانية خشنة محفورة ومطلية من الخارج بالجص، وبها أقواس مدببة ونوافذ ناتئة. وشيدت، على وجه العموم، تلك المباني لتَتَوَاءَم مع الظروف المناخية القاسية لشاطئ البحر الأحمر، ومع الحياة الاقتصادية للميناء، وموقع المدينة وطبيعتها الضيقة المزدحمة. وكان التجار يسكنون فوق محلاتهم ومخازن حبوبهم، بينما قُسمت غالب البيوت الكبيرة إلى أماكن معيشة مستقلة تقطن فيها مجموعة كبيرة من العائلات. ومع نمو العائلات كانت البيوت المتجاورة تربط بممرات داخليه وجسور، حتى غدت كل البيوت في الشارع الواحد متصلة ببعضها البعض. وكانت هنالك حتى في عام متأخر نسبيا مثل عام 1933م قرابة المئة عائلة تعيش في أحد مباني سواكن. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أُدخل طراز غربي أكثر بهرجة في أسلوب البناء بالجزئين الشرقي والشمالي من الجزيرة. وحينها أدخلت الحجارة المحفورة بأشكال وأحجام مختلفة، وأعمال التجصيص المتقن، وأحيانا الطلاء بالأسمنت، والأقواس المدورة والبلكونات المفتوحة. وكان خير مثال لذلك الطراز في البناء هو سراي الشناوي (التي بناها محمد بك الشناوي عام 1881م. المترجم). بل شيد أحد التجار له بيتا على الطراز الباريسي الجديد، مزود بماء بارد وحار، وكان به سقف مطلي على الطراز الباروكي. ويبدو أن الصحة العامة بالجزيرة في تلك السنوات كانت جيدة. فقد كانت بها حمامات ومراحيض مرتبطة بقنوات داخلية تمتد إلى مجاري تحت الأرض وتصب في البحر. ولا تزال تلك المجاري موجودة في بعض ما تبقى من مباني الجزيرة (على الأقل حتى عام 1967م). وكانت الأزقة تُضَاءُ ليلا بمصابيح الكيروسين المتدلية من زوايا في الأركان، مثلما هو الحال في بعض نواحي مدينة جدة. وفي المقابل، كانت مصادر المياه بالمدينة أكثر تخلفا. فقد كانت هنالك صهاريج لحفظ مياه الأمطار تحت البيوت القديمة، ويبدو أنها لم تستخدم منذ أكثر من قرن من الزمان. وكان غالب سكان المدينة يعتمدون على المياه المجلوبة في قِرَب من آبار في شاتا، حيث أعيد بناء سد منخفض بعد حدوث فيضانات في عامي 1905م و1911م. وكان موظفو الحكومة يحصلون على احتياجاتهم من المياه من مضخة تفريغ بخارية موضوعة فوق السد، بينما لم يعد المكثف الذي بُني خلال الاحتلال العسكري في القرن التاسع عشر صالحا للاستخدام في عام 1900م. وكانت مياه آبار شاتا هي المصدر الرئيس لري مزارع سواكن الصغيرة التي تزود سكانها بالفواكه والخضروات، إضافة لما يأتيها من طوكر، وحتى من جدة أحيانا.