تراجع سواكن في القرن العشرين (3/3) The 20th Century Decline of Suakin ديفيد رودن David Roden ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثالث والأخير من ترجمة مختصرة لما ورد في مقال بقلم ديفيد رودن عن بعض جوانب التراجع الذي حاق بسواكن في القرن العشرين. نُشر المقال ضمن أوراق الجمعية الفلسفية السودانية في العدد الحادي والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR"، الصادرة عام 1970م. ونشرته أيضا "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم في ذات العام (وهي الجهة التي مولت هذا البحث). وفي باب "الشكر والعرفان" في نهاية المقال أثبت الكاتب شكره لمدير الوحدة الدكتور (البروفيسور الآن) يوسف فضل، وللطلاب الذي ساعدوه في جمع المعلومات وهم: علي سعد علي وفرح عيسى محمد، وأبوبكر محمد، وهو من صنف وثائق سواكن. لكاتب بنفس الاسم مؤلف عن السودان صدر عام 1974م عنوانه Regional inequality and rebellion in the Sudan (عدم المساواة الإقليمية والتمرد في السودان). المترجم ********* ******* ********* اضْمِحْلال ميناء الجزيرة (1918 - 1967م) أَعاقَت الحرب العالمية الأولى نمو وتطور ميناء بورتسودان. وكان هذا هو ما مكن سواكن من أن تظل مجتمعا تجارية بحريا لفترة أطول قليلا مما كان ممكنا لو لم تقم تلك الحرب. غير أن الحركة التجارية بسواكن بدأت تتقلص شيئا فشيئا مع مرور السنوات. فقد صار تصدير الماشية إلى مصر يتم عبر ميناء بورتسودان بعد أن أقيمت فيه محاجر بيطرية، وأفضت الحرب بين إيطاليا وتركيا (في عهدها العثماني) في عام 1912م إلى خلق توتر في حركة المرور المحلية على البحر الأحمر. وكانت تلك الحركة هي أساس ما بقي لسواكن من تجارة، وأدى ذلك التوتر إلى أن تتحول حركة التجارة في البحر الأحمر إلى بورتسودان. لذا وجد كثير من المصدرين أنه من الأفضل لهم جلب بضائعهم إلى بورتسودان، ونقلها بعد ذلك بالقطارات أو نقلها بالمراكب إلى سواكن. وبحلول عام 1919م لم يبق للميناء القديم إلا التعامل مع قدر محدود جدا من التجارة المحلية، وترك معظم الحركة التجارية لبورتسودان. وبدا واضحا أن سواكن كانت تضمحل بصورة متسارعة. ولأكثر من عقد من الزمان كانت سواكن، رغم خسارتها لكل وظائفها الحديثة، قد تمكنت من البقاء والصمود بسبب قوة صلاتها التقليدية التي حافظت عليها في أوقات عصيبة في الماضي. وبقي بها بعض التجار على أمل غامض في أن تتحسن الأحوال وتعود التجارة والأعمال لسابق عهدها. وكان بإمكانهم مواصلة أعمالهم التجارية من سواكن طالما ظل مكتب البريد والبرق بها مفتوحا. وكان بإمكانهم أيضا القيام برحلات قصيرة لبورتسودان بالقطار عندما يستلزم الأمر. وأتت بعد ذلك أعوام 1923 – 1925م، وفي غضونها تلقت سواكن سلسلة من الضربات المتلاحقة قضت تماما على ثقة وآمال من بقي بها من التجار. وبدأ في عام 1925م العمل في بناء خط حديدي مباشر بين بورتسودان وكسلا، مُد بعد ذلك إلى سنار في النيل الأزرق. وكان ذلك الخط الحديدي هو نهاية طريق القوافل الذي كان أحد أهم دعائم بقاء سواكن على قيد الحياة. وبقيت الإبل تستخدم في توزيع البضائع محليا. غير أن ذلك الاستخدام توقف تماما بعد تحسن طرق سيارات النقل في ثلاثينات القرن العشرين. وكان العمل في البحث عن مصدر مياه جوفية في خور أربعات لحل مشكلة المياه ببورتسودان قد بدأ في عام 1923م، أي بعد خمسة عشر عاما من التأخير. وكانت مشكلة المياه بتلك المدينة قد أعاق توسعها. ومع هذين التطورين، اكتملت حلقات نهاية سواكن كميناء للسودان. وأغلق "البنك الأهلي" بسواكن أبوابه في عام 1923م، وفي بداية عام 1924م أغلقت محطة التلغراف الشرقية بسواكن، وتم نقل كابل طرف التوصيل إلى بورتسودان. وفي خلال عام واحد بعد ذلك هجر بقية التجار سواكن. وإلى حد ما غطى على أهمية تلك التغيرات التضخم المؤقت في أعداد السكان المحليين بسواكن في غضون الاضطرابات التي اندلعت في عامي 1924 و1925م في الجزرة العربية. فمع تقدم الوهابيين بقيادة ابن سعود نحو مكة، لحق تجار الحجاز بأقاربهم في الجهة الأخرى من البحر الأحمر، ولم تتمكن أعداد كبيرة من العالقين بسواكن الذين كانوا ينوون السفر لمكة لأداء فريضة الحج من السفر للحجاز. وبعد 11 شهرا انتصر سعود، وآب تجار الحجاز لموطنهم، وعادت سواكن إلى حالها وهي تكاد تحتضر. وعاودت أسعار الأراضي فيها في الانخفاض المفرط، وبحسب تقرير مفوض بورتسودان في عام 1928م، بدأ سكان سواكن وتجارها في الهجرة بأعداد كبيرة إلى بورتسودان بعد أن فقدوا الأمل في عودة الحياة لمدينتهم القديمة. ومع مرور السنوات تناقصت أعداد سكان سواكن من 10,500 نسمة في عام 1905م إلى 6,000 أو أقل في عام 1929م. في المقابل تزايدت أعداد الحجاج القدمين لسواكن، ربما بسبب تحسين المعينات والتسهيلات التي نفذها النظام الجديد في الجزيرة العربية. وتزايدت مظاهر التدهور والاضمحلال بسواكن. وصار القطن المنتج في طوكر وكسلا يرسل مباشرة لبورتسودان حيث يتم حلجه في محالج جديدة أقيمت بها، ولم يعد يرسل لمحلج سواكن إلا فائض القطن في المواسم غزيرة الإنتاج. وعلى الرغم من الضرر الكبير الذي حاق بسواكن من جراء انتقال تجارتها إلى بورتسودان، إلا أن بعض العائلات التجارية القديمة بسواكن تمسكت بعناد شديد ببيوتها المهترئة على أمل أن تحدث – بطريقة ما - معجزة اقتصادية تعيد للمدينة أهميتها القديمة. وعجز بعض هؤلاء حتى عن تحمل تكلفة صيانة مبانيهم أو دفع ما عليها من عوائد وضرائب. وتهاوت سريعا المدينة القديمة تحت لهب الشمس الحارقة والعواصف المطرية الموسمية التي أضرت بالحجارة المرجانية التي بنيت بها غالب المباني. واختفت بحلول عام 1927م ما كان يزين أسطح المباني من نقوش وغيرها، وفي 1928م تهاوى جزء كبير من نُّزُل القوافل. وبدأت السلطات الحكومية في القلق من احتمال خسارة تلك المباني ذات التاريخ البعيد والمعمار البديع، وقررت القيام بعمليات صيانة وإعادة بناء لبعض المباني المختارة بالمدينة، بل ومساعدة السكان ماديا على القيام بذلك إن لزم الأمر. وبين حين وآخر قُدمت اقتراحات عديدة لإحياء المدينة شملت إقامة مصنع لتعليب الأسماك، أو للغزل والنسيج أو لاستخراج الملح. غير أن تلك الاقتراحات تلك لم تجد أذنا صاغية من أحد. وظل معمل صباغة الأقمشة الذي أقامه محمد السيد البربري في عام 1933م بمبنى السجن المهجور يعمل حتى قيام الحرب العالمية الثانية، وكان سببا في مضاعفة التجارة عبر ميناء سواكن. أما محلج سواكن، الذي بقي يعمل حتى الثلاثينات، فقد كان مهددا بالإغلاق بسبب نزاع بين صاحبه السوري (ويدعى دباس) وشركة كونتوميخلوس اليوناني، إذ أن دباس كان يرغب في احتكار كل الأقطان في طوكر، وكانت شركة كونتوميخلوس ترغب في شراء محلج سواكن بأي وسيلة، وخفضت أسعار النقل في باخرتها بين ترنكات وبورتسودان، ولم تفعل ذات الشيء للباخرة المتجهة لسواكن (كنوع من الضغط على صاحب المحلج). ولم يستمر ذلك المحلج في العمل إلا بعد تدخل السلطات الحكومية في ذلك الخلاف. وفي تلك السنوات كانت عائلات الكثير من العاملين في بورتسودان ما زالت تقيم في سواكن وتشكل نسبة كبيرة من سكانها. ووفرت أعمال إعادة البناء والصيانة للمباني بعض الوظائف بالمدينة. وكان محصول القطن في طوكر وفيرا، وهذا ما ضمن أن يظل محلج سواكن مفتوحا لعدد أكبر من الأسابيع، خلافا لما هو معتاد. وكان يعمل ذلك المحلج في مواسم القطن الوفير أكثر من 500 عامل. وصاحب ذلك مقدم عدد أكبر من الحجاج. وجلب هطول أمطار شتوية غزيرة تحسن المرعى في سواحل البحر الأحمر ومقدم الكثير من الرحل له. وتحسنت أحوال جميع العمال وأصحاب الدكاكين الصغيرة في سواكن، إلا أن أحوال ملاك البيوت القديمة لم تتحسن البتة. وتقديرا لرقة حال أولئك الملاك، لم تقم السلطات بإلزامهم بصيانة بيوتهم كما كان مقررا. لذا بقيت تلك البيوت في تدهور مستمر. وبحلول عام 1937م كانت شوارع سواكن شبه مقفولة إذ أنها لم تكن آمنة، وعلا الصدأ أرصفة الميناء وبقية منشآته، فتم إغلاقه رسميا كميناء يتحصل على جمارك في عام 1946م، وتناقص سكان المدينة حتى بلغ نحو 4,000 نسمة فحسب. وبعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ تهدمت أكثر من 80% من بيوت سواكن، ومن بين الـ 490 منزلا مسجلا في المدينة، بقي هنالك 18 منزلا مَأْهُولا فقط. وكانت هنالك العديد من العوامل التي ساهمت في إهمال إصلاح المدينة. ففي دقيقة (مؤسفة) واحدة في اجتماع رسمي لمجلس الآثار والمتحف عام 1939م تقرر أنه ليس هنالك أدنى جدوى من إنفاق أي أموال على إصلاح مباني سواكن، علما بأن رئيس تلك اللجنة لك يكن قد زار سواكن قط! وتقرر أيضا أن الحل الوحيد هو إعادة بناء كل بيوت المدينة من جديد. ولحسن الحظ لم يعر مفوض بورتسودان ذلك القرار أي اعتبار، وظل ينفق من ميزانية مدينته المحدودة على بعض أعمال الصيانة بسواكن. ودفع المفوض في عام 1942م مئة من الجنيهات المصرية لاستقدام فني خبير بترميم المباني من جدة لصيانة أعمال الخشب في المحافظة. غير أن لجنة أخرى توصلت بعد عقد من الزمان على صدور ذلك القرار المؤسف من مجلس الآثار والمتحف إلى أن غالب بيوت سواكن صالحة هيكليا، وأن ما أصابها من تدهور كان ببساطة نتيجة لإهمال الصيانة. ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في إهمال إصلاح المدينة هو تحويل غالب ميزانية الحكومة في سنوات الحرب العالمية الثانية إلى الأعمال الضرورية فقط. وكان هنالك عامل طبيعي آخر هو غزارة الأمطار والعواصف في تلك السنوات بصورة خاصة بين عامي 1937 – 1940م. وعندما عادت الأحوال المناخية لطبيعتها العادية، وجاء مفوض آثار آخر أكثر تفهما ومرونة كان الأوان قد فات لفعل أي شيء لإنقاذ سواكن. فقد تهدمت الكثير من البيوت التي كانت في قائمة المباني التي كان من المقرر صيانتها، بينما كان أكثر من نصف المباني التي كانت لا تزال في حالة جيدة (والتي كانت الحكومة قد تولت صيانتها) خالية، بعد أن هجرها ملاكها واستقروا في بورتسودان وطوكر وسنكات. وشاع الخوف في أوساط من بقي من سكان سواكن من سقوط البيوت على رؤوس ساكنيها، ومن الأشباح (شاع من قديم أن اسم سواكن قد أتى من أنها "مسكونة بالجن". المترجم). وبحلول عام 1946 لم يكن بسواكن سوى 330 نسمة، وكانت بعض أجزاء البيوت الصالحة تهدم بين وقت وآخر لاستخدام حجارتها لأغراض البناء في منطقة أخرى أو من أجل حرق (قمين) الجير. ولحسن الحظ أثبتت العديد من المقترحات الخاصة بإزالة ركام المباني المتهدمة أن تلك الإزالة غير اقتصادية وتفتقر إلى تعاون سكان سواكن، وكانت مصلحة الآثار تعارضها بعد عام 1948م. وفي عام 1942م بدأت السلطات في العمل بسياسة تهديد بإزالة قسرية لتك البيوت، وتشجيع بيع الحجارة المرجانية والأخشاب من البيوت الكبيرة المتهدمة لتستخدم كمواد بناء في بورتسودان، مع وعد بمنح أصحاب تلك البيوت قطع أراضٍ بديلة في حي جديد سيبنى ببورتسودان ويسمى "سواكن الجديدة". وكان من المتوقع إخلاء سواكن عمليا في نهاية المطاف. غير أن تلك السياسة لم تحظ بأي قدر من النجاح. فعلي الرغم من أن من بقوا من سكان سواكن في مدينتهم كانوا عاجزين أو لا يرغبون في صيانة أو إصلاح ما تهدم من منازلهم، إلا أنهم – رغم ذلك - كانوا يرفضون بيع تلك البيوت. وكان بعضهم يتوقع تحقق نبوءة السيد تاج السر الميرغني بعودة ميناء سواكن لسابق عهده، وكان بعضهم يتصور أن إزالة أنقاض مبانيهم المتهدمة من مكانها سوف يفقدهم الحق لاحقا في ملكيتها. وخفضت السكة حديد تكلفة الشحن لبورتسودان تشجيعا لسكان سواكن على شحن مواد البناء إلى المدينة الجديدة. وظل ذلك التخفيض قائما حتى عام 1949م دون أي نتيجة ايجابية محسوسة. وهددت السلطات سكان سواكن في عام 1952م بأنها ستستخدم حجارة مباني سواكن المتهدمة في إصلاح طريق طوكر، غير أن مفوض الآثار أقترح إصدار مرسوم لحماية لآثار الجزيرة، وإعادة ترميم بعض مبانيها المهمة. وعلى سبيل المثال طُولِب 17 من ملاك بيوت سواكن بترميمها أو ستقوم السلطات بإزالتها، وفي عام 1966م استخدمت السلطات الحجارة المأخوذة من بعض بيوت الجزيرة في ترميم المحلج. وبحلول عام 1967م اقتصرت أعمال الترميم الرسمية على صيانة مبنى المحافظة وفتح أحد طرق المدينة، وترميم أحد البيوت الخاصة. وكانت السلطات المحلية بالجزيرة تخالف مرسوم حماية آثارها، فقد كانت تسمح بنقل حجارة المدينة إلى خارجها أو باستخدامها في حرق الجير. سواكن اليوم (أي سبتمبر 1967م) لا تزال الجزيرة تبدو من الخارج سليمة. غير أنها الآن في الواقع مهجورة ومهدمة. فغالب مبانيها غير قابلة للإصلاح، ولا يتوقع لها أن تكون بعد عشرين عاما سوى أكوام فوق أكوام من الأنقاض. وتفرق أبناء وأحفاد تجار المدينة منذ خمسين عاما في مختلف مدن الشرق ولم يبق منهم بسواكن سوى عدد قليل (بحسب إفادة الأستاذ محمد صالح ضرار، كما أشار الكاتب. المترجم). ولم يبق من بيوت المدينة القديمة سوى بيتين تسكنهما عائلتان بصورة دائمة، بينما يسكن نحو 30 فردا في أكواخ صغيرة، أو يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بين الأنقاض. وبقيت بالمدينة كذلك مباني الاستراحة الحكومية (في المحافظ السابقة) ومخبز ومسجد. أما الجزء الرئيس من سواكن، فما زال يعمل، ويقطن به نحو 4,000 فردا، في بيوت خشبية صغيرة مع بعض قطاطي من القش. ولم يتغير عدد سكان سواكن في غضون الثلاثين عاما الأخيرة. وترافقت هجرة الناس من سواكن مع نمو لقرى جديدة شمال وجنوب شاتا. غير أن تلك القرى لم تظهر في خريطة سنكات الصادرة عام 1905م. ولكن كانت هنالك أدلة كثيرة على ازدهار تجاري لا يخفى في "القيف"، وفي الجزيرة كذلك، يفوق حجم التجارة المحدود الموجود الآن. ويرى المرء في الشارع الرئيس من الجسر إلى السوق العديد من الدكاكين مقفلة بالمَغَالِيق، وقد فقدت سقوفها، وقليل منها يستعمل كمخازن في بعض الأحيان. وكادت مئذنة أحد المسجدين الرئيسيين أن تنهار، بينما بقي سراي الشناوي كصدفة فارغة. غير أن بعض البيوت الكبيرة ما زالت صامدة في الجزء الرئيس من سواكن. والسوق عبارة عن أكواخ متراصة مبنية من الخشب والطوب والمعدن المموج، تستخدم كدكاكين صغيرة، ومحلات للصناعات الجلدية والمعدنية وبائعي الفحم الحجري، والخبازين، والمقاهى والمطاعم. ولا زالت أعداد كبيرة من الحجاج تأتي لميناء سواكن سنويا (10,000 حاج في عامي 1966 و1968م، و11,000 في عام 1967م). غير أن تلك الأعداد كانت أقل من الأعداد الغفيرة التي كانت تعبر البحر الأحمر عبر سواكن إلى جدة في الخمسينيات، حيث كان عددهم أكثر من 27,000 حاجا في بعض المواسم (مثل ما حدث في موسم حج 1956 – 1957م). وتناقصت تلك الأعداد بسبب الاستخدام الواسع للطيران منذ تلك السنوات، وظهور إدارات وطنية في الطرق البرية عبر القارة الإفريقية (ورد أن 1000 من الحجاج كانوا قد سافروا لجدة بالطائرات في عام 1953م، وزاد ذلك العدد إلى 3,654 في 1958م). وبعد توقف القطارات عن الوصول لسواكن في عام 1954م، صار الحجاج يصلون إلى سواكن بالحافلات والشاحنات، حيث يؤخذون مباشرة إلى منطقة الحجر الصحي. ولم يكن أولئك الحجاج يرغبون عادة في العبور لداخل المدينة. وربما كان وجود عنصر "الفلاتة" ضمن سكان سواكن حاليا هو التذكير الأكثر وضوحا بأهمية المدينة التاريخية كمحطة نهائية رئيسية لطرق الحج القادمة من الغرب. وصنف التعداد السكاني الذي أجري عام 1955 – 1956م أن 11% من سكان سواكن كانوا من القادمين من غرب السودان وغرب أفريقيا. ولا زال هنالك رُحَّل يقدمون للسهول الساحلية ويقيمون بها خيامهم حول المدينة في فصلي الخريف والشتاء. ويبقى بعضهم حتى مارس، للعمل في محلج سواكن الذي يعتمد على القطن المجلوب من طوكر. وصار القطن الآن يأتي بالشاحنات وينقل لبورتسودان، بينما بقي محلج سواكن مفتوحا لأسباب اجتماعية (بحسب معلومات من شركة البربري للمحالج، إذ أنه يشغل 400 رجلا وامرأة لمدة خمسة أشهر)، رغم أنه كان من الأرخص نقل القطن مباشرة إلى محالج بورتسودان. ويتناقص عدد سكان المدينة كل عام بين مايو وأكتوبر. ويتوقف محلج سواكن عن العمل في نهاية مايو، ويذهب الرُحَّل إلى مناطق أخرى، إلا إذا كان قطن طوكر وفيرا جدا بصورة استثنائية. ويغلق الكثير من سكان سواكن بيوتهم مؤقتا ويرتحلون للزراعة في طوكر أو لقضاء الصيف حول سنكات، كما هو دأبهم منذ القرن الماضي.