في زمن سابق حين كان للسينما مجدها وجمهورها؛ والصحف تتزين صفحاتها الداخلية بعنوان انيق هو (اين تذهب هذا المساء؟)؛ كان ديجانقو وشامي كابور وبران يساهمون فعلياً في تشكيل وجدان الشعب، شئنا أم أبينا.
كان الجمهور يصفق جهراً وسراً لكل لكمة يكيلها البطل لغريمه فيحطم فكه، ولكل رصاصة يطلقها كاوبوي من على ظهر حصانه على خصمه فيرديه قتيلا، بل أن الجمهور لا يتورع عن التصفيق للحصان نفسه إن أتى برفسة بارعة أو صدر منه صهيل ينبئ عن بطولة أوشهامة. لم يُرض هذا الحال أحد شعراء حلمنتيش وهو المتجهجه الأممي فقال ابياتاً ساخرة يهجو فيها الشعب السوداني في قصيدته (أبو الفرار حايم): أمة مفتونة بديجانقو والبنادق وبصراخ الروم في قلب المدينة والحرائق. وابو الفرار لمن لا يعرفه هو مرض السحائي أو التهاب السحايا، وكانت له صولات وجولات في طول البلاد وعرضها، لحسن الحظ يومها أن حد حرائق الروم وصراخهم كان جدران سينما كلوزيوم او الحلفاية أو غيرهما من دور السينما، ولم يخطر بذهن المتجهجه الأممي حينها أن الصراخ والحرائق ستزحف لقلب مدننا في الشرق والغرب، وأنها لن تكون خيالاً على الشاشة تنتهي مراسم العزاء فيه بانتهاء الفيلم واضاءة الأنوار في صالة السينما وفتح الابواب للجمهور للخروج، بل صراخاً وحرائق حقيقية تحرق فيما تحرق النسيج الاجتماعي، وتملأ النفوس بالشحناء والبغضاء. كانت النخبة تنظر بشيء من الإحتقار لافلام رعاة البقر وافلام الهنود وترى فيها اسفافاً و(عدم موضوع)، وترى أن الفن كل الفن في الأفلام الانجليزية (الرصينة) ورصيفتها الأمريكية والقليل جدا من الأفلام المصرية، فتهرع جموع هذه النخبة لسينما النيل الأزرق المعقل الحصين لطلاب واساتذة جامعة الخرطوم، فهناك لن يطرق سمع النخبة حصان البطل يصهل مستهتراً بالرصاص المتطاير حواليه، فهو حصان لا يزَّوَر من وقع القنا بلبانه ولا يشكو لصاحبه بعبرة وتحمحم كما يفعل حصان عنترة. في تلك الشاشة الراقية لن تجد هندياً يطير عندما تنعدم كل الحلول الواقعية لديه فيجتازبخفة ورشاقة اخدوداً يفصل بين جبلين شاهقين يصيبك بالدوار حتى وهو على الشاشة. وان كان بمعية بطلنا الهندي سيارة فهي ايضاً تقبل التحدي وتطير به بينهما محطمة المستحيل. لكن هذه النخب على اختلاف اشكالها وهوياتها والتي كانت تزدري بهذا الخيال السينمائي الخصب؛ وتعتبره علفاَ رخيصاً للعامة، كانت تحرص من جانبها على صنع الحالة الخيالية الخاصة بكل طيف من اطيافها في ذهن الشعب، وبخيال لا يقل خصوبة عن خيال صانعي الأفلام، فتقدم لنا نخب االيسار واليمين اشكال النعيم التي سيحظى بها شعبنا الأبي متى ما اتبعنا سياستها وبرامجها وآمنا بما سوف تقدمه إيماناً أعمى، ولجلب مزيد من التأييد تحرص كل نخبة على شيطنة الآخر وإيهام الناس بان البلاد تبحر في محيط يعج بقوى هذا الآخر الاسطورية الشريرة التي استمرأت الشر فهو دينها وديدنها. سارت بنا إحدى هذه النخب في طريق الخداع تقدم لنا ابطالها وتحرص على ملء سيرهم الذاتية بما قضوه في السجون من اعوام، وتقدمهم لنا بأنهم من اصحاب الألوان الإبداعية، نحتاً ورسماً وتشكيلاً، وعزفاً على الطمبور والعود، وانهم شعراء يكتبون حلو القصيد في الليالي المقمرة، ولا يضيرهم لو كانت قصائدهم من ذلك النوع الذي يعجز طير الباقير عن فهم مفرداته، مليئة ببكاء النوارس ودموع الدلافين وموشحة بالكرز الذي يغطي أهداب الزمن المتمترس خلف المآقي الحزينة، ولا عجب فخيال الشعر يرتاد الثريا. ونخبة ثانية ابحرت بنا في عوالم سماوية تقدم لنا يوميات احداث ما وقعت للصحابة انفسهم؛ وهم من قام بأمر الدين، فتأتي بالمعجزات تترى لتروى اشواق نفوس تجد في هذا العالم الروحاني السلوى والعزاء. وثالثة تمجد فردا أحدا، وقد كادوا ان يلحقوا بابي الطيب المتنبي حين يقول في مدح سيف الدولة: تجاوَزتَ مِقدارَ الشّجاعَةِ والنُّهَى ....إلى قولِ قَومٍ أنتَ بالغَيبِ عالِمُ
جاء بعد ذلك زمن لم يعد فيه الشعر والاعتقال والحبس والفرد الملهم مجدياً؛ فاصبحت السيرة الذاتية للنخب اكثر (علمية). فهي تركزعلى شهادات الشخص وأين درس وما هي (المنظمات) التي عمل بها، وما مدى كِبَر حلقة معارفه من الأجانب، ومن هم اصدقائه الدوليين. وما هي العواصم التي مرت بها ناقته، وكلما كثرت كلمة (الدولية) في المتون والهوامش كانت السيرة اثقل في الميزان وأوفى للكيل. يبدو من واقع الحال وما تعيشه البلاد الآن ان هذه النسخة الثانية التي لا حلت ولا ربطت، ليست بأحسن حال من سابقتها، وأنها نازلة في طوف الفشل ومبحرة في بحر الضياع، وهذا يقود للتساؤل يا ترى ما هي النسخة الثالثة من السيرة الذاتية التي ستتحفنا بها بعض هذه النخب في قادم الزمن؟ اخشى ما نخشاه أن يرجعوا سبحة الزمن كرة للوراء، وأن يعيدوا النظر فيما اعتبروه في السابق اسفافاً وخطاباً للجهلة وانصاف المتعلمين من الأمة المفتونة بديجانقو، فنجد في السيرة الذاتية الجديدة لابطالهم ان فلاناً منهم يمتطي صهوة حصان ما امتطى فرانكو نيرو مثيله، مصفح ضد الرصاص، (ينتصر) في أي معركة يخوضها، ويسخر من اغنيات (الخيل عركسن) وغيرها، وأن فلاناً الآخر قد درس الطيران في الهند، طيران البشر ولا طيران غيره، وأن فلاناً الثالث لديه سيارة (تعبر) الأخاديد بلا اجنحة. هذا باعتبار ان لا مشكلة لديها في الوقود، وأن تنكها شبعان ريان يتجشأ من حين لاخر، حامداً نعمة ربه، وحينها سنوجه اللوم للشعب إن لم يصفق لكل لكمة يوجهها من يمتلك هذه المواهب نحو وجوه خصومه.