صحيفة التيار 25 سبتمبر 2020
لا أخفي أبدًا اعتقادي في أن ما يسمى "اليسار السوداني" كيانٌ معتلٌّ بنيويًا. ويتركز ذلك الإعتلال حصرا في الأحزاب اليساروية الأيديولوجية التي لم تدرك، حتى الآن، أن مفهوم اليسار قد تغيَّر بصورة جذرية عقب نهاية الحرب الباردة. قرأت في اليومين الماضيين بيانًا للحزب الشيوعي تحدث فيه عن الإمبريالية والصهيونية العالمية، وكأننا في ستينات القرن الماضي. هذا في حين دخلت كلٌّ من روسيا والصين في ركب الإمبريالية، بطرقٍ جديدة. ما الفرق يا ترى بين هذا الخطاب الذي تضمنه بيان الحزب الشيوعي وبين رؤية الدكتور الراحل، حسن الترابي التي أرادت أن تجعل من السودان مركزًا لنضالٍ كوكبي ضد الحضارة الغربية؟ كيف يا ترى سيقود الحزب الشيوعي السوداني القطر ويرفع من جديد راية الماركسية اللينينية التي سقطت، من لقا من السودان الذي لا يجد أهله ما يقيم أوَدَهم من الخبز الحافي، فيكون السودان المركز الجديد للنضال الأممي ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية العالمية؟
أيضًا استمعت إلى تسجيل للقيادي البعثي الأستاذ، محمد ضياء الدين، يعارض فيه مساعي السلام مع إسرائيل بخطابٍ وكأنه صادرٌ من عراق صدام حسين التي طالما تبجحت بالنضال والصمود، غمسحت بها الإمبريالية والصهيونية الأرض في ثلاثة أيام. تجاهل الأستاذ محمد ضياء الدين أن هناك شيئًا اسمه "اتفاقية أوسلو" وأن الفلسطينيين أنفسهم وقعوا اعترافًا بإسرائيل وتعهدوا بالسلام معها، وأصبحوا، يناضلون من آجل حقهم في دولة مستقلة، من جهة، وضد التغوُّلات الإسرائيلية، من الجهة الأخرى، منطلقين من داخل هذا الاعتراف، وليس من خارجه. بل إن فلسطينيي المناطق الواقعة تحت إدارة حركة "فتح"، يعملون، باختيارهم، في جني محصول البرتقال في المزارع الإسرائيلية. كما يقومون يوميًا بغير ذلك من الأعمال داخل الأراضي الإسرائيلية.
هذا المكون اليساروي السوداني المتكلِّس العاجز عن التفكير النقدي وعن اقتلاع قدميه من وحل الأيديولوجيا، لا يزال يفضل العيش في غيابة التاريخ السابق لكامب ديفيد ولأوسلو. يحاول هذا المكون جر ثورتنا لخدمة شعاراته البالية وتوجهاته الصدامية العابرة للأقطار، بعيدًا عن خدمة البلد وقضاياها الآنية الملحة. وآرجو ألا نكون قد خرجنا من الابتزاز العاطفي باسم الإسلام الذي تخلصنا منه لنقع في دوامة جديدة من الابتزاز العاطفي باسم العروبة والنضال ضد الصهيونية والإمبريالية. تمارس هذه العقلية اليساروية نفس النهج النرجسي القديم المتمركز حول الذات الحزبية، الذي أفشل ثورتي أكتوبر وأبريل، ويوشك الآن أن يفشل ثورة ديسمبر، باختلاق المعارك الهامشية التي لا تتعدى مجرد إثبات الوجود وهو وجود هامشي على أي حال. لا يعي هذا المكون اليساروي الذي يهذي في أتون حمى الشعارات البالية أنه يركب مع كارهي الثورة على نفس المركب، ويخدم نفس أجندتهم. وأرجو أن تلاحظوا التطابق في: "لا أحد مفوض لمناقشة التطبيع". أفلستم تستنون كقوى حرية وتغيير الآن على تفويضٍ شعبي ثوري في كل ما تقومون به؟ إنكم تتذرعون بالتفويض الشعبي لتحموا قناعاتكم الأيديولوجية البالية.
السودان في اللحظة الراهنة قطرٌ على حافة الهاوية، من الناحية الاقتصادية. فحكومته لا تستطيع توفير العملات الحرة اللازمة لجلب دقيق الخبز، والمحروقات التي يتوقف عليها نجاح الموسم الزراعي، وغاز الطبخ، والأدوية المنقذة للحياة، التي يعتمد عليها الملايين من السكان. هذا في حين تتهاوى أسعار عملته تهاويًا مخيفًا أمام العملات الأجنبية، ويرتفع معدل التضخم تبعًا لذلك. يبدو لي أحيانا أن علينا آن نسند أمور الاقتصاد للمنظرين الاقتصاديين لليسار، ليرونا حلولهم السحرية الناجعة التي تقوم بمعزل عن الإمبريالية والصهيونية العالمية وعن مؤسساتها المالية، وبمعزل عن الإعانات الخليجية. فيتوفر الدقيق والمحروقات والدواء وغيرها، في التو والحين. هؤلاء يعملون على إفشال الفترة الانتقالية على نفس النسق الذي تعمل به القوى الكارهة للثورة. فهم لا يدركون أن "الجوع كافر"، في حين يدرك ذلك كارهو الثورة، ولذلك يعملون بجدٍّ لكي يسود الجوع الذي سوف يخلط جميع الأوراق ويقود حتما للانهيار.