من الذي أوصل السودان لقرار التطبيع…!؟
السؤال هل التطبيع يعد قرارا سودانيا؟ و هل يعد تحررا من العقل العربي أم هو نفسه قرارا عربيا يدفع السودان له دفعا؟ و متى تتحررت النخبة السودانية من قاعدة " Like and dislike" و تكون مرجعيتها هي كيفية تحليل المعلومات التي لديها، و تفكر مرة واحدة بعيدا عن خلافاتها الأيديولوجية، و تفكر من خلال مصلحة الوطن. و هل حوار التطبيع أوجدته فكرة سودانية في الساحة أم كانت مدفوعة من النفوذ الخارجي؟
هذه المقالة لا تناقش قضية التطبيع مع أسرائيل من خلال الرفض و القبول، و لكنها تناقش قضية لماذا يفكر الأخرون خارج حدود السودان نيابة عن آهل السودان. و يحاولون دفعه دفعا لكي يتخذ مواقفا تخدم مصالحهم و ليس مصلحة السودان. أن أي قضية يتم علاجها من خلال العاطفة إذا كانت سلبية أو يجابية يصبح علاجها مؤقتا لا يدوم، لأنه لم ينظر للقضية من خلال منظار مصلحة الوطن. كما أن أي دولة خارجية تريد أن تتدخل في شؤون دولة أخرى لا تستطيع أن تفرض ذلك بأدواتها، لكنها تتدخل من خلال عناصر ضعيفة استطاعت أن تقدم لهم العطايا، حتى يصبحوا أدواتها في الدولة و تمهد لهم الطريق للصعود لصناعة القرار.
قبل سقوط النظام حيث كانت علاقة السودان طيبة مع إيران، كانت هذه العلاقة تجد معارضة من قبل عدد من دول الخليج، و خاصة السعودية و دولة الأمارات العربية المتحدة، و معروف كيف منعت السعودية طائرة الرئيس المخلوع مواصة رحلتها إلي إيران، و أرجعتها للخرطوم، و رفضت قيادة البلدان أن تستقبل رئيس النظام، و عندما واجه النظام أزمة مالية عميقة كان لابد أن يرضخ لمطالب الدولتين " السعودية – الأمارات" و كانت بعض شروط المطالب، أن يطيح النظام بالقيادات الأخوانية التي علي قمة هرم السلطة، و يستبدلها بقوى سياسية أخرى منزوعة الأنياب، و يمكن تدجينها، فكان إبعاد " علي عثمان محمد طه – و نافع علي نافع و آخرين" و من ثم أعلن الرئيس المخلوع خطابه المعروف ب " خطاب الوثبة" الهدف من الخطاب فتح حوار يسهل عملية دخول البديل، هذا التحول صحبه تقديم بعض الدعم المادي و دفع فواتير محدودة للقمح و المحروقات. لكنها كانت محدودة، حتى تمرر المطالب الأخرى دون أي اعتراضات أو تحفظات من قبل النظام، فكان الطلب الأخرى أن يرسل السودان قوات لليمن بأسم الشرعية العربية نظير أن تدفع الدولتان مبلغا للدولة و أخر للمقاتلين، و عندما طالب عدد من عناصر المؤتمر الوطني أن لا يترشح البشير في انتخابات 2020م، قبل البشير مشروع التنحي، و لكن أصرت الدولتان علي بقاء البشير خوفا أن تأتي الانتخابات بعناصر غير مرغوب فيها من قبل الدولتين، لذلك اقنعتا البشير بالاستمرار، و يتراجع عن قبول عدم الترشيح، لذلك عاد البشير و أصر علي أن يترشح في الانتخابات، قبول البشير بالتنحي كان قد نقله صلاح قوش لعدد من قيادات الأحزاب، و أيضا لرؤساء تحرير الصحف ، و أكد لهم أن البشير سوف يعلن في خطابه أنه لن يترشح مرة أخرى، و يفتح الباب لترشيح رئيس جديد، لكن البشير غير رآيه و القي خطابا مغايرا، و حتى التعديلات التي كان يجب أن تجري بعد حوار الوثبة تم تغييرها حتى تكون القبضة في يد البشير. هكذا كان النفوذ الخارجي يشارك في إدارة الدولة، و يحدد توجهات المستقبلية.
عندما أندلعت الثورة التي فاجأت النظام و حتى القوى السياسية، تحسبت السعودية و الأمارات للمسألة، و كان الخوف أن تأتي الثورة بعناصر تذهب عكس المخطط، فكانت رغبة الدولتين في الأول، أن تستخدم السلطة أقصى درجات القمع ضد الثورة، و لا تبالي بالمجتمع الدولي، و أن الدولتان سوف تدافعان عن النظام بقوة، و كان الاعتقاد أن الشارع سوف يقابل العنف بعنف أخر في الحرق و التخريب، لكن الثوار كانوا أكثر وعيا في احتفاظهم بسلمية الثورة، و لم يعطوا السلطة سببا واحدا لممارسة العنف المفرط ضدهم، و لذلك تعالت درجات الاحتجاج العالمي ليس من قبل الحكومات في أمريكا و أوروبا، بل من الشعوب في تلك الدول التي جعلها تتخذ موقفا مؤيدا للثورة، لذلك كان لابد للدولتان التحول السريع و الوقوف إلي جانب الثورة ضد النظام الذي بدأ يترنح و سخرت القنوات " العربية – الحدث – سكاي نيوز" لدعم الثورة، و التحول في موقف الدولتين يحتاج لتغيير الإستراتيجية في كيفية إحتواء الثورة، من خلال عناصر أقرب للدولتين. كان الاتصال بعدد من رجال الأعمال السودانيين في دعم الثورة، و في نفس الوقت التفكير في كيفية أن لا تتحقق كل شعارات الثورة. و كان لابد من الاتصال بقيادات عسكرية أن تحسم الموقف و تقبض علي كل خيوط اللعبة في يدها، و بالفعل قد تم الاتصال بالمجموعة المطلوبة من العسكريين و المدنيين، و كان التغيير بانحياز الجيش و الدعم السريع للثورة، و أعلنت الدولتان عن دعم الثورة بمبلغ ثلاثة مليارات من الدولارات الأمريكية، لكن في ذات الوقت تعالت هتافات الشارع بسحب القوات من اليمن، و أيضا كانت ساحة الاعتصام تشكل رؤية جديدة في المجتمع. تخوفت منها مخابرات دول المنطقة العربية، باعتبارها تمثل وعيا جديدا للجيل الجديد الذي يشكل الأغلبية في المجتمع، و أن الوعي الشبابي سوف يخلق واقعا ديمقراطيا جديدا، لذلك كان مقترحها أن تفض ساحة الاعتصام بأي شكل من الأشكال، و بأي ثمن حتى تقتل تلك الأحلام في مهدها، و تحول الصراع لموضوعات جديدة، تبعد الناس عن فكرة التغيير الجذري في المجتمع، و كان قرار فض ساحة الاعتصام قرارا خارجيا، و تم تنفيذه بأيادي سودانية. و أوقفت الدولتان دفع منحتها التي كانت قد أعلنتها، لكي تروض النظام الجديد، و تجعله قبضة في يدها. و بدلا من دفع الأموال إلي الشعب السوداني، دفعت حفنة قليلة من الدولاارات لقيادات بعض الأحزاب، حتى لا تعارض المخطط،، و العديد من العناصر المشاركة الآن في السلطتين التنفيذية و السيادية قد تم ترشيحهم من قبل رجال الأعمال الموالين للمشروع في المنطقة، بعد ترشيح رجال الأعمال نطقت باسمائهم داخل قوى الحرية و التغيير قيادات حزبية ضمن المشروع الجاري، و هو مشروع يريد نظاما مهجنا يسمح فقط بهامش من الديمقراطية لا يشكل أي تهديدا لأنظمة الحكم في المنطقة، و في نفس الوقت يحمي مصالح رجال الأعمال الذين كانوا جزءا من النظام السابق.
عندما عجزت الحكومة الحصول علي دعم مادي أمريكي و أوروبي لتغطية نفقات " القمح و المحروقات" كانت الدولتان تقدمان القليل من المال من خلال أعضاء نافذين في مجلس السيادة. و لم تتردد الدولتان في طلب قوات إضافية لدعم حفتر في ليبيا، و بالفعل نقلت بعض القوات لليمن للساحة الليبية، رغم أن القيادة العسكرية السودانية قد نفت ذلك، لكن كان المقاتلين السودانيين يصلون تباعا للساحة الليبية، الأمر الذي جعل تركيا تسرع أن ترسل قوات إلي ليبيا و تغيير المعادلة العسكرية هناك، أن تغيير المعادلة العسكرية في ليبيا تكون الدولتان " السعودية – الأمارات" قد خسرتا العديد من المعارك حيث فشلتا في حسم حرب المقاتلين الحوثيين في اليمن. و بذلك تكون دول الخليخ محاصرة من كل الاتجاهات بالمذهبية الشيعية، و الدول التي تحكم بالمذهب الشيعي " العراق – اليمن – سوريا – لبنان و عمان" إلي جانب أن الشيعة يشكلون نسب متفاوته في داخل دول الخيلج" الأمر الذي تتخوف منه بعض أنظمة الخليج. و الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب تشكل لهم بعض الضمان و مادامت دولهم تدفع أموالا طائلة لترامب بهدف الحماية من تهديدات مقتنعي المذهب الشيعي، كما أن تبني الديمقراطية في تلك الدول تعني سيطرة التيار الإسلامي الذي يعتبر القوى الفاعلة في المجتمع. أن خوف نظم بعض دول الخليج من ذهاب إدارة ترامب، تشكل لهم هاجسا و مخاوف من المستقبل، لذلك جاءت فكرة التطبيع مع أسرائيل، باعتبارها نظاما دائما، و ضد المصالح الإيرانية و تمدد نفوذها في المنطقة، هذا من جانب. و من الجانب الأخر أن إيران و حلفائها الشيعة في المنطقة في حالة عداء مستحكم مع أسرائيل، نابعا من فكرة دينية أيديولوجية، و هي ذهاب أسرائيل تعني التمهيد لظهور المسيح الدجال، ثم ظهور المهدي المنتظر الذي يشكل قناعة في العقيدة الشيعية.
إذا فكرة التطبيع مع أسرائيل ليس فكرة للعقل السوداني الجديد، و التخلص من قاعدة التفكير العربية كما يدعي بعض الأشخاص، لكنها فركة فرضتها ظروف التحالفات في المنطقة، بهدف الحماية داخل أنظمة الخليج و يجر إليها السودان جرا. حيث يصبح العقل السوداني خاضعا بقوة إلي الإملاءات العربية. إذا كانت الفكرة قد جاءت نتيجة لتفكير العقل السوداني، و أملتها مصلحة السودان، خلقت حوارا سياسيا في المجتمع، يكون بالفعل قد استطاع العقل السودان التخلص من إداة التفكير العربية. لكن الفكرة هي فكرة بعض الدول العربية، يحاولون جر السودان إليها حتى يؤكدون أنها فكرة لمصالحة عربية، و في المستقبل تتحول إلي توقيع معاهدة دفاع مشترك مع أسرائيل، و يكون الجنود السودانيون وقودا لحروب المستقبل. هذه الظروف هي التي أوجدت فكرة التطبيع و السودان يصبح مجرد تابع فقط. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
////////////////////