سلام السودان بين عقليتين متناقضتين
كان من المتوقع؛ بعد ثورة ديسمبر أن يصبح السلام قضية أستراتيجية لا تخضع للمزايدات السياسية، و أن لا تعلوا فيها الرغبات الحزبية علي الرغبات الوطنية، و الكل يجب أن يسعى لتحقيق الهدف، و عليه أن يقدم تنازلات لمصلحة الوصول لاتفاق، و الكل يعلم أن الحجار الصلبة لا تطوع لكنها تتكسر، و هي المرحلة التي لا يرغب فيها أحدا، لكن تظل إشكالية السلام في السودان قضية خلافية بين النخب السياسية بسبب أختلاف المصالح، الأمر الذي يؤثر سلبيا علي مجرياته. أن التوقيع علي اتفاقية السلام في جوبا اليوم السبت الثالث من أكتوبر 2020م يجب الكل أن يعتبرها خطوة ضرورية و مهمة لفتح باب السلام، حتى إذا كانت هناك قوى سياسية لها مواقف مخالفة، و تعتقد أن الاتفاقية فيها قصورا أن تبني علي الإيجابي و ليس على السلبي. و أن تعتبرها خطوة أولي لأكمال اتفاقية السلام. أن الاتفاقية التي سوف توقع اليوم؛ يجب أن تبعث المشاعر الطيبة عند كل أهل السودان، و أننا لا نحصد إلا ما نزرع، فأجعلونا أن نزرع بذور الأمل في أنفسنا، حتى نحصد سلاما و أمالا طال أنتظارها. و أجعلونا نغتفي أثرا للرسول بقوله " تفاءلوا خيرا تجدوه" و حلمنا أن يعم السلام البلاد. و لكن..!؟
قال عرمان في تصريح لـ(سونا) في جوبا،" أن السودان ظل يعاني من الحروب منذ الاستقلال وان توافق السلام لم يحدث مع الثورات الشعبية في ثورة أكتوبر ولا في ثورة أبريل، وفي أكتوبر لم تأتي الأنانيا إلى السودان كما هو الحال في أبريل حين لم يأتي الراحل جون قرنق إلى السودان حتى حلت دكتاتورية العهد البائد" لذلك كان المطلوب من النخبة السياسية أن تستفيد من أخطاء الماضي، و تحاول أن تستفيد من الفرص المتاحة و لا تجعلها تهدر مثل الأخريات، و في مرحلة بناء الوطن و إصلاح القواعد التي يقوم عليها، تسقط المصالح الشخصية و الحزبية الضيقة، لكي يكون الوطن هو المقصد و المعنى. و يقول عرمان "أن فرصة السلام الحالية مختلفة ومغايرة تماما لكل مسار تاريخ السودان وتتجه به إلى معالجة قضايا البناء الوطني والقضايا التي لها امتدادات دولية وإقليمية وستعمل على إصلاح الاقتصاد حتما وإعادة بناء واصلاح الريف السوداني كقطاع منتج وإصلاح العلاقات الخارجية" إذا عرمان يبني علي الإيجابي و هذا هو المطلوب في مسيرة التعمير و البناء الوطني، أن تصبح اتفاقية السلام هي عتبة مهمة للإنطلاق نحو رحاب التنمية و النهضة في البلاد، و مثل هذه الكلمات تصنع الأمل في قلوب الناس. و كذلك يقول جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل و المساوة لتلفزيون السودان " أن الاتفاقية تبعث الأمل ليس في الوسط السياسي و لكن وسط الجماهير و هي اتفاقية الهدف منها نشر السلام الذي يعتبر القاعدة الأساسية للبناء و النهضة. و قال جبريل ( لسونا) عن السلام " إن تحقيق السلام بالبلاد سيعيد النازحين واللاجئين إلى مناطق الإنتاج ليسهموا في الاقتصاد القومي. وقال رئيس حركة العدل والمساواة أن الاتفاق فرصة ذهبية اذا تم تنفيذه، وسيخرج السودان مما كرسته الحكومات السابقة و على رأسها الإنقاذ" و يشاركه القول الهادي أدريس رئيس الجبهة الثورية الذي يؤكد أنها تعتبر مدخلا أساسيا للحراك السياسي وسط الجماهير و خاصة في الأقاليم، و هو قول يحفه التفاؤل و يبعث السرور في نفوس الناس. و في اللقاء الذي أجرته قناة " الغد" مع مني اركو مناوي رئيس حركة تحرير السودان وجه الدعوة إلي قادة الحركات الذين تخلفوا عن الاتفاق، خاصة عبد الواحد محمد نور و عبد العزيز الحلو " بأن هناك فرصة جديدة تختلف عما سبق و يجب استغلالها للوصول إلي أقصى درجات الاستقرار في دولة تعاني أزمات كبيرة أهمها الانهيار الاقتصادي" أن الاتفاقية معلوم للجميع ليست عصى موسى تستمد قوتها من الله، و لكنها فعل إيجابي نسل الله أن يجعل فيه البركة.
لكن جاء بيان الزملاء الشيوعين مخالفا للكل تماما، حيث يبنى علي السلبي، و أن كان السلبي متوقعا لكن يكون في جانب الحيطة و الحذر، و النهضة و البناء تبنيان علي الإيجابي لأنه المقصد لتحقيق أهداف الثورة " حرية – سلام – عدالة" يقول الشيوعي في بيانه "أن اتفاقية جوبا تشكل نسخة أخرى من سيطرة النخب الجديدة على مقاليد الحكم من خلال ممارسة الوصاية على سكان مناطق الحروب وغيرها من المناطق الأخرى. وأكد أنها اتفاقية تفتقر إلى التفويض الكافي ولا تعبر عن سكان المناطق المختلفة وتطلعاتهم في الاستقرار والأمن وتحقيق العدالة بتسليم منتهكي حقوقهم في الحياة إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي" و نسأل الزملاء هل اتفاقية السلام تمنع محاكمة الذين ارتكبوا جرائم حرب. و هل السلطة الحالية التي شارك في تكوينها الحزب الشيوعي قد استطاعت أن تقدم مرتكبي جرائم الحرب و الفاسدين للعدالة. مشكلة الحزب الشيوعي منذ انتصار الثورة يتحدث بلسانين: الأول بأنه هو من صناع الثورة و مشاركة في أنجاز أهدافها. و الثاني معارض للسلطة، و من خلال السانين محاولا فرض رؤيته علي الأخرين، و قد ظهرت ذلك بصورة جلية عندما ملأ القاعة التي عقد فيها المؤمر الاقتصادي بعناصر حزبية تحمل شعارات بأنهم لجان المقاومة، و يتحالف معه حزب البعث الاشتراكي، و المعروف أن المؤتمر ساحة من ساحات المعرفة و الخبرة لتي يتقدم فيها آهل العلم، و ليس ساحة للهتاف و إملاء الشروط،، الأمر الذي أظهر حالة الإفلاس التي يعيشها اليسار، حيث لم يقدم أي دراسات علمية تدعم وجهة نظره في رفض التعامل مع المنظات المالية و الاقتصادية العالمية، و استعاضوا بذلك بشعارات و هتافات للهرج داخل المؤتمر.
و يقول الحزب الشيوعي في بيانه الرافض " لسلام جوبا" فإن اتفاقية جوبا بصورتها الراهنة لن تحقق السلام المنشود؛ بل على العكس من ذلك فإنها سوف تخلق توترات ونزاعات جديدة بين سكان مناطق الحروب وكذلك سكان المناطق الأخرى في السودان التي أدرجت قضاياها ضمن قائمة مسارات منبر جوبا. لوجود حركات لم تنضم أصلاً لمنبر جوبا كما توجد حركات تم استبعادها من التفاوض بحسب الشكاوى التي صدرت عنها يضاف إلى كل ذلك غياب قطاعات واسعة من المتضررين وضحايا الانتهاكات الواسعة على يد النظام البائد" لا نقمط حق الزملاء أن يظهروا تخوفاتهم، و أيضا حق النقد في الاتفاق. لكن الأفضل أن يكون النقد في تجاه قاعدة الفعل الإيجابي، أن تؤيد الإتفاقية باعتبارها خطوة و لكنها ليس النهائية و تقدم رؤاك النقدية لها و كما يقول المثل الانجليزي " إذا أردته إقناع شخص بفكرة يجب عليك أن تكون داخل السياج الذي هو فيه و ليس خارجه" و الاتفاقية ليست كمالا مقدسا؛ بل هي فعلا إنسانيا لا يخلو من النقص، و يحتاج لمزيد من الإصلاح، و يتكشف ذلك من خلال التطبيق و تلامس أرض الواقع. و لا نقول أن الذين وقعوا الاتفاقية ملائكة، بل بشر يتعرضون للوقوع في الخطأ و هذا ليس عيبا لأنها محاولة فعل مقبول. و كل عمل يتعرض للخطأ. و ننتظر لحظة تاريخية؛ أن ينزل الزملاء و لو لمرة واحدة من أبراجهم العاجية و يتفاعلوا مع الآخرين، و دون محاولة لفرض الأراء، و لعب دور الأستاذ في العمل السياسي.
و ظل الحزب الشيوعي يطرق علي جدار المساومة السياسية التي تم توقيعها بين قوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري، و شارك فيها الشيوعيون بممثلهم في قحت " صديق يوسف حتى التوقيع علي الوثيقتين " السياسية و الدستورية" و لكنه في نفس الوقت يتحدث بلسان ثاني عندما يتهم الشيوعي أطراف الاتفاقية بدعم ومساندة المجلس العسكري الانتقالي الذي يعتبر امتداداً لنظام البشير، لاعترافه بأن أعضاءه شركاء في الثورة وزاد لذلك ليس من المستغرب اتفاق هذه الأطراف في خرق بنود الوثيقة الدستورية التي نتج عنها اختطاف المكون العسكري لملف المفاوضات، متجاوزاً بذلك صلاحيات المفوضية المعنية بعملية السلام بهدف ابعاد القوى السياسية وأصحاب الشأن في عملية السلام من بينهم ضحايا الحروب ومنظمات المجتمع المدني" و الزملاء يعلمون أن السلطة الانتقالية هي مساومة سياسية بين مدنيين و عسكريين، و لكي تنجز الفترة الانتقالية أهدافها لابد أن يكون هناك انسجاما و تناغما بين الطرفين، و أي محاولة تهدف أن ضرب المساومة تعني فشل الفترة الانتقالية، لكن الزملاء مصرين علي تعكير الأجواء، من خلال إثارة المشكل بين فترة و أخرى، رغم أن الزملاء كان المتوقع أن يلعبوا دورا مهما في عملية السلام حتى يخرج بالصورة التي يجعلوها مقبولة في تصورهم لكنهم أختاروا السلوك المتناقض.
و في جانب العمل الجماهيري طالب الشيوعي في بيانه الجماهير "باستعادة دورها من خلال تطوير مبادراتها في الاعتصامات السلمية وتقديم المذكرات وتنظيم الاحتجاجات والاصرار على تنفيذ المطالب الصادرة في مواثيق الثورة لمنع اختطافها وإجهاضها من قبل من وصفهم بالرأسمالية الطفيلية ومن أعوان النظام الدكتاتوري المباد ولمنع فلول النظام السابق من العودة مرة أخرى إلى السلطة عبر بوابة اتفاقية جوبا للسلام التي أكد أنها تفتقر إلى السند الجماهيري المطلوب" هذا عمل ديمقراطي لا يرفضه أي ديمقراطي يسعى لترسيخ القيم و المبادئ الديمقراطية في ثقافة المجتمع، و دور الجماهير مهم في أن تصحح الأخطاء، و رد المظالم، و كل ذلك يسير بصورة موفقة و مقبولة عندما يحترم كل الأخر في وجهة نظره، لكن محاولة استنفار الجماهير بهدف تحقيق اهداف حزبية، يجب أن نؤجلها لأيام الانتخابات، حيث تحتاج الأحزاب للجماهير في دعم برامجها، لكن أن يزج بالجماهير لكي توقف مصالح وطنية من أجل رغبات حزبية غير مقبولة ديمقراطيا. و الكل ينتظر إفاقة الزملاء من غفوتهم و أن يلحقوا بمركب مسيرة التعمير. أن دورهم مهم و مطلوب بحكم الإرث النضالي الطويل للحزب.
أن كلمات رئيس الوزراء عبد الله حمدوك عن توقيع الاتفاق اليوم السبت هي كلمات متفائلة و تبعث القبطة و السرور، لأن الأحلام الطيبة و العمل من أجل تحقيقها في الواقع هي التي تدفع الجماهير لساحة العمل و الإبداع حيث يقول حمدوك " أن السلام يعتبر حوارا بين الأشقاء، و هو لا يخلو من المطبات و العثرات، لكن بالصبر و المثابرة و الحكمة و الدور الكبير الذي لعبته الوساطة في تقريب وجهات النظر تحقق السلام. و السلام سيفتح أفاقا رحبة للتنمية و التقدم و الإزدهار، و الشعب السوداني موعود بتوقيع اتفاق السلام تفتح صفحة جديدة تنهي الحروب و تضع حدا لمعاناة أهلنا في معسكرات النزوح و اللجوء" . و نسأل الله أن يجعل الوطن دائما في حدقات العيون أمنا مطمئنا ينعم بالسلام و العافية و الاستقرار الاجتماعي.
zainsalih@hotmail.com