ثَوْرَةٌ فِي الثَّوْرَة!
كمال الجزولي
14 December, 2020
14 December, 2020
روزنامة الأسبوع
الإثنين
تقترب، الآن، خطوات الذكرى الثَّانية لثورة 19 ديسمبر المجيدة. لكن هذه المناسبة تمثِّل، في ذات الوقت، ذكرى أكثر من حجر عثرة اعترض، منذ البداية، جهود تكوين «السُّلطة الانتقاليَّة»، تارة بإغراق «حاضنتها السِّياسيَّة» في جدل متطاول حول ما إن كان من الأوفق اختيار عناصرها من السِّياسيِّين أو من التكنوقراط؛ وتارة أخرى بالتَّشكيك في أن هذا أو ذاك مِمَّن جرى اختيارهم ليس «مستقلاً»، بل «شيوعي مدسوس!»؛ وما إلى ذلك من المعوِّقات. هكذا، وبعد كلِّ الجَّهد الذي بذل، لم يتكوَّن سوى مجلس الوزراء ومجلس السَّيادة! أمَّا رئيس القضاء، والنائب العام، فقد بلغت الرُّوح الحلقوم قبل أن يتمَّ تعيينهما! مع ذلك، ما أن ظنَّت «الحاضنة السِّياسيَّة»، وبعض الظَّنِّ إثم، أنها فرغت من ذلك «الإنجاز»، وتهيَّأت للالتفات إلى المهام الأخرى، حتَّى فوجئت بحقيقة عدم وجود توافق بين المدنيِّين والعسكريِّين، لا في الفكر ولا في الأداء، وبأنها لم تحسن، ابتداءً، تعيين الكثير من العناصر، نتيجة للهوجة التي صاحبت الاختيار، بل وفوجئت بالمزايدة حتَّى على القِلَّة التي أحسنت اختيارها!
بسبب تلك العوامل، وغيرها، ما لبث الانتقال أن راح يتخبَّط بين فقدان البوصلة، من جهة، وعدم الانسجام من جهة أخرى، وأخذت بوادر الفشل تنوء بكلكلها، وتوالت الإخفاقات، ممسكة برقاب بعضها البعض. فبدلاً من تحسين معيشة الجَّماهير، لفظت الحكومة توصيات لجنة «الحريَّة والتغيير» الاقتصاديَّة، وتبنَّت، للغرابة، نهج النِّظام البائد بشأن رفع الدَّعم عن التَّعليم، والصَّحَّة، والمحروقات، وتخفيض سعر العملة الوطنيَّة، انصياعاً لتوصيات البنك والصندوق الدَّوليَّين، مِمَّا استتبع وضعيَّة الانخفاض غير المسـبوق في الأجور والمرتَّبات، مقابل الارتفاع الجُّنوني في الأسعار. وبدلاً من توفير الحريَّات والعدالة، كمطلبين أساسيَّين للثَّورة، تواصل القمع الوحشي لتعبيرات الجَّماهير السِّلميَّة، مِمَّا أفضى إلى توالي سقوط الشُّهداء والجَّرحى، كما تواصل التَّباطؤ في إنفاذ العدالة بالنِّسبة للتَّحقيق في ملفَّاتٍ لا تحتمل المماطلة، كملف «فضِّ الاعتصام»، والنُّكوص عن تسليم البشير وأعوانه للجَّنائيَّة الدَّوليَّة. وتكرَّر خرق «الوثيقة الدُّستوريَّة»، كما في واقعة تعديلها، بالمخالفة لبنودها، من أجل تضمينها اتِّفاق سَّلام جوبا، وجعلها تابعة له، لا العكس. وبدلاً من الحلِّ الدِّيموقراطي العادل الشَّامل لقضيَّة الحرب، على يد السُّلطة التَّنفيذيَّة المدنيَّة، وآليَّة «مفوَّضيَّة السَّلام»، كما في «الوثيقة الدُّستوريَّة»، بما يخاطب جذور الأزمة، ويوطِّد السَّلام، والتَّنمية المتوازنة، ويمهِّد لعرض مخرجات هذه العمليَّة على مؤتمر جامع، ليس بمشاركة ممثلي الحركات فقط، بل وبمشاركة اصحاب المصلحة النَّازحين واللاجئين في معسكراتهم، بالإضافة إلى القوي السِّياسيَّة والمدنيَّة في مناطق الحروب، بدلاً من ذلك تولَّى العسكريُّون هذا الملفَّ الذي كانوا تسبَّبوا، ابتداءً، في تعقيده، فاخترعوا آليَّة جديدة لا محلَّ لها من إعراب «الوثيقة الدُّستوريَّة»، أسموها «المجلس الأعلى للسَّلام»، وأخضعوا الملف المذكور، كما في نهج النِّظام البائد، لسياسات الحلِّ الجُّزئي القائمة على المحاصصات، وتعريض وحدة البلاد للخطر، وأبرموا اتِّفاق سلام مع «الجَّبهة الثَّوريَّة»، بدون حركتي عبد الواحد والحلو، فعطلوا تكوين «المجلس التَّشريعي»، والمفوَّضيَّات، وتَعيين «الولاة المدنيين»، وأشرعوا الأبواب أمام التَّدخُّل الدَّولي، وبالنَّتيجة أعلن خمسة عشر تكتلا سياسيَّاً، وأهليَّاً، ومطلبيَّاً رفضهم لهذا الاتِّفاق. وبدلاً من رسم سياسة خارجيَّة متوازنة تحفظ علاقات البلاد الدَّوليَّة، وتصون سيادتها الوطنيَّة، ارتبطت سلطة الانتقال بأحلاف عسكريَّة تنهب ثروات البلاد الزِّراعيَّة، وتهيمن على ثرواتها المعدنيَّة، وتسيطر علي موانئها، وتحتلُّ أراضيها الحدوديَّة، كمثلث حلايب وشلاتين، وتزجُّ بها في حروب خارجيَّة لا ناقة لها فيها ولا جمل، كما في اليمن، وليبيا، وتخضعها للابتزاز الأمريكي بالرَّفع من قائمة الدُّول الرَّاعية للارهاب مقابل التَّطبيع مع إسرائيل، ودفع تعويضات مبهظة عن جرائم إرهابيَّة مزعومة.
إلى ذلك ظلَّ استكمال مؤسَّسات «السُّلطة الانتقاليَّة» المتَّفق عليها في «الوثيقة الدُّستوريَّة»، وأهمُّها «المجلس التَّشريعي + المفوَّضيَّات + الولاة»، هدفاً شاخصاً في أفق أولويَّات الثَّورة، ولكن دون اتِّخاذ أيَّة خطوة جادَّة نحو تحقيقه. على أن «الحاضنة السِّياسيَّة» ما كادت تقترب من الإجابة على السُّؤال عن متى يتحقَّق ذلك الهدف، حتَّى ضربتها جائحة الخلاف والشِّقاق لتفتَّ في عضدها! لكن الأدهي أنها ما كادت ترفع رأسها من هول تلك الجَّائحة، حتَّى فوجئت بما لم تكن لتتصوَّره، عند بداية الفترة الانتقاليَّة، أو حتَّى يخطر لها على بال، وهو اضطرارها للعودة، بعد انقضاء قرابة نصف عدد السَّنوات المحدَّد، ابتداءً، لهذه الفترة، كي تكتشف أنها، بدلاً من استكمال المؤسَّسات المطلوبة، محتاجة لأن تعكف، أوَّلاً، على إعادة «اختراع» العجلة، بإعادة وصف نفسها، وتعريف ذاتها، كحاضنة سياسيَّة، وذلك عن طريق «اختراع» مؤسَّسة إضافيَّة ليست في الحسبان، ولا مكان لها من إعراب «الوثيقة الدُّستوريَّة» المتَّفق عليها، أصلاً، تخضع لنفوذ العناصر العسكريَّة، وتهدِّد بـ «الانقلاب» على «السُّلطة الانتقاليَّة»، بل تشكِّل قنبلة زمنيَّة توشك على تفجير عمليَّة الانتقال ذاتها، وعنوانها: «شركاء الفترة الانتقاليَّة»!
في هذه المناخات الملغومة لا تسل عمَّا إن كان «تحالف الحريَّة والتَّغيير»، الذي يمثِّل «الحاضنة السِّياسيَّة» لـ «سلطة الانتقال»، يملك رفاه التَّوافق الهادئ على قبول هذا، أو رفض ذاك، أو ما إلى ذلك من خيارات، دَعْ أن يملك القدرة على تنسيق خطواته باتِّجاه استكمال «مؤسَّسات الانتقال»! فهذا التَّحالف هو، الآن، في حقيقة الأمر، بين فكَّي كمَّاشة: إذ، من ناحية، وبصرف النَّظر عن عدم التَّوافق، تدرك كتلة لا يُستهان بها داخله مدى الضَّرورة الملحَّة لهذا الاستكمال، حيث يستحيل، عقلاً، أن يتمَّ، بآليَّة سلطة منقوصة، تحقيق الانتصار المؤزر للثَّورة، أو إلحاق الهزيمة التَّامة بالنِّظام البائد! لكن، من ناحية أخرى، ولئن كانت «الجَّبهة الثَّوريَّة» قد هدَّدت، في السَّابق، بالانسحاب من مفاوضات السَّلام، حال اتِّخاذ أيِّ إجراء نحو هذا الاستكمال، قبل التَّوصُّل إلى توافق على إدماج عناصرها في مؤسَّسات الانتقال، فإنها الآن، وبعد أن تراضت مع السُّلطة على صيغة سلام مبدئيَّة في جوبا، وبعد أن بدأت أرتال من مكوِّناتها تفد، بسلام، إلى الدَّاخل السُّودان، أخذ قطاع منها يضيِّع الوقت، مجرجراً أقدامه، من احتفال لآخر، دون أن يُقدِم، بهمَّة، نحو المساعدة على إنجاز مهمَّة الاستكمال العادل المستقيم لهياكل الانتقال، بل ولم يجد بعضها في نفسه حرجاً من تكريس نفسه كمخلب قطٍّ لقوى «الثَّورة المضادَّة»، تستخدمه في عرقلة مسار الثَّورة، بالمطالبة بضمِّ أطراف من «الفلول» إلى «السُّلطة الانتقاليَّة»، وإلى حاضنتها السِّياسيَّة!
تلك هي، تحديداً، الصَّخرة التي تسدُّ، الآن، عمليَّاً، مجرى انسياب النَّهر الثَّوري، الأمر الذي يستحيل علاجه، أو مجرَّد التَّفكير، حتَّى، في تجاوزه، بغير إعادة الاصطفاف، مِمَّا يعني، بعبارة أخرى، ضرورة العودة إلى منصَّة التَّأسيس، من أجل صياغة تحالف جديد، أو ما سبق أن أسماه ريجيس دوبريه، في أواخر ستِّينات القرن المنصرم، «ثورة في الثَّورة»! وعلى مَن لم يدرك، بعد، هذه الحقيقة أن يراجع معارفه عن بؤرة الصِّراع، وعن جدليَّة العلاقات بين أطرافه الأساسيَّة!
الثُّلاثاء
بتاريخ 6 ديسمبر 2020م، نشر المدير العام للشَّركة السُّودانيَّة لتوزيع الكهرباء المحدودة، ولم أتشرَّف، بعد، بمعرفته شخصيَّاً، إعلاناً بالصَّفحة الأولى من هذه الصَّحيفة عن تمديد طرح عطاءٍ عام، وأورد في أوَّل بنود الإعلان وجوب إرفاق تأمين مبدئي يعادل مبلغ كذا، بشيك بنكي معتمد، أو خطاب ضمان، شريطة أن يكون صادراً من «إحدى شركات التَّأمين الإسلاميَّة»، و .. هل، تراني، أحتاج لأن أقسم على أن ذلك كان هو نصُّ الإعلان .. بالحرف الواحد!
الأربعاء
تلقَّيت اليوم اتِّصالاً من بعض مفصولي الصَّالح العام العسكريِّين للمشاركة في الضَّغط القانوني لمعالجة قضيَّتهم العادلة. لكن من «عجائب» السِّياسة السُّودانيَّة أنني كنت نشرت، في «الرُّوزنامة» أن نفس هؤلاء المفصولين كانوا هدّدوا، مع الفصولين المدنيِّين، بتسليم جنسيَّاتهم للأمم المتَّحدة، حالَ اعتراض اعتصامهم السِّلمي أمام القصر الجُّمهوري، للمطالبة بإلغاء فصلهم، وردِّ اعتبارهم، وهاجموا القيادات التي باركت ذلك الفصل! وقلت إن ذلك ناقوس يدقُّ للغافلين عن استحقاقات «العدالة الانتقاليَّة»، إذ بدون أداء هذه الاستحقاقات ستنتهي «الفترة الانتقاليَّة» دون أن نكون «انتقلنا» إلا إلى .. الأسوأ!
«العجيبة» التي أعنيها هنا أن تلك «الرُّوزنامة» كانت بتاريخ 25 فبراير 2007م (!) أمَّا «الفترة الانتقاليَّة» فهي التي أعقبت اتِّفاقيَّة نيفاشا (2005م ـ 2011م)!
الخميس
في خطاب مرئي، ومذاع، ومقروء، للفريق أوَّل عبد الفتَّاح البرهان، القائد العام للقوَّات المسلحة، ورئيس مجلس السَّيادة، أمام الضُّباط والجُّنود، بالجُّمعة 9 ديسمبر 2020م، بمناسبة إجراء بعض التَّدريبات العسكريَّة، أعلن عن فشل الحكومة الانتقاليَّة في تحقيق مهامِّهما، رغم مضي عام كامل من عمر الفترة الانتقاليَّة، مِمَّا دفع مكوِّنات بالحاضنة السِّياسيَّة للسُّلطة الانتقاليَّة إلى مغادرتها أو تجميد عضويَّتها فيها! بإزاء ذلك «سارع البعض للتَّأكيد على أن في مقدور البرهان معالجة هذا الفشل بوضع سياسات جادَّة وعاجلة، لأنه يجلس على رأس السُّلطة»! أغلق القوس، وضع علامة تعجُّب في نهاية السَّطر، وللمرَّة الألف .. أصحى يا بريش!
الجُّمعة
في روزنامة قديمة يعود تاريخها إلى الأسبوع الأخير من أبريل 2008م، تعليقاً على مقالة لصديقي المرحوم الطيِّب زين العابدين عن بعض طبائع النِّميري السِّياسيَّة المرذولة، ومن أخطرها «التَّربُّص»، كما في واقعة استشهاد الأستاذ محمود محمَّد طه التي سنحتفل بذكراها الخامسة والثَّلاثين في الثَّامن عشر من الشَّهر القادم، يناير 2021م، كتبت مشدِّداً على أنه ليس أوجع، في باب التَّعبير عن «تربُّص» النِّميري لقتل الشَّهيد محمود، من رمي محاكمته المهزلة بـ «السَّلبطة السِّياسيَّة!»، كما في وصف د. الطيِّب زين العابدين لها (أجراس الحريَّة، 18 أبريل 2008م). وفي الحقيقة فقد كانت «السَّلبطة» ديدن ذلك النِّظام دائماً، ومنهجه الذي لم يعرف سواه، ولطالما تخيَّر لها قضاة ووكلاء نيابات «متسلبطين» كلما أراد تصفية حسـاب ما مع هذا أو مع ذاك من الخصـوم!
أذكر أننا كنا، قبيل محاكمة الأستاذ الشَّهيد، قد انتظمنا في هيئة محامين أمام ما سُمي، حينها، بـ «محكمة الطوارئ رقم/1» بأم درمان، برئاسة جلَّاد النِّظام الشهير، آنذاك، المكاشفي طه الكَّباشي، دفاعاً عن مجموعة شباب بعثيِّين اتُهموا بإدارة وكر لطباعة المنشورات. وأذكر من أعضاء تلك الهيئة الموقَّرة التي أبلت أحسن البلاء، وأبدت مهارة فائقة: الأساتذة مصطفى عبد القادر، وإسحق شدَّاد، وسيِّد عيسى، وعلي السَّيِّد، أطال الله أعمارهم، ودكتوري القانون المرحومين أمين مكي مدني وأبو حريرة، بالإضافة إلى المرحوم أ/ الصَّادق الشَّامي، والمرحوم أ/ عبد الله صالح، وآخرين. ولمَّا بدا جليَّاً أن بيِّنات الاتِّهام على درجة مزرية من الهزال أمر القاضي باستدعاء د. السَّاعوري، الكادر الاسلاموي، ورئيس شعبة العلوم السِّياسيَّة بجامعة أم درمان الاسلاميَّة، كشاهد خبرة، فغلب لدينا نزوع المحكمة لتجريم فكر «البعث» ذاته بحسبانه فكـراً «إلحاديَّاً»! وكانت المادة/3 من «قانون أصول الاحكام القضائيَّة لسنة 1983م» مفعَّلة، وقتها، كأحد أخطر مهدِّدات العدالة، إذ تبيح لأيِّ قاضٍ أن يضيف، قطعاً من رأسه، أيَّة «تهمة!»، بأيَّة «جريمة!» مِمَّا قد «يتصوَّر» أنها ارتُكبت، حتَّى لو لم يكن منصوصاً عليها في القانون الجَّنائي!
كانت الجلسات تُعقد يوميَّاً، ويحضرها جمهور غفير، وكنا نتوزَّع في ما بيننا، مسبقاً، مهمَّة ابتدار مناقشة شهود الاتِّهام. وحدث، ذات يوم، أن وقعت من نصيبي مناقشة د. السَّاعوري، فبقيت ساهراً، طوال الليلة السَّابقة، مهموماً بما عساه يكون مدخلي لدحض إفادته في ما لو ذهب، فعلاً، باتِّجاه دمغ «البعث» بـ «الإلحاد»! وانحصرت خياراتي في مدخلين: أحدهما فكري والآخر عملي. لكن، بالنَّظر إلى نوعيَّة القاضي، والتَّطبيقات المتعسِّفة لقوانين سبتمبر، وجملة الظروف السِّياسيَّة المحيطة، بدا لي الحِجاج الفكري، أمام تلك المحكمة، عبثاً لا طائل من ورائه! فمَن لي، إذن، بالمدخل العملي؟!
تذكرت أننا كنا لمحنا، من بين معروضات الاتِّهام، كتاب ميشيل عفلق «في سبيل البعث»، فقدَّرت أن المحكمة ستنتقي بعض فقراته، ولا بُدَّ، كي يُبدي شاهد الخبرة رأيه فيها. ولما كانت ثمَّة نسخة منه، لحسن الحظ، في مكتبتي المنزليَّة، فقد عكفت عليها أراجعها. لكنني ما وجدت سوى فقرة واحدة يصنف فيها عفلق «الإسلام» ضمن «مكوِّنات الحضارة العربيَّة»، جنباً إلى جنب مع «الشعر الجَّاهلي»، و«الفنون الشَّعبيَّة»، وغيرها. ولعلمي بمنهج الاسلامويِّين التَّبسيطي الشَّكلاني في مطاردة العبارات المجتزأة من سياقاتها، فقد قلت لنفسي: هي تلك، إذن، بلا أدنى شك! ثمَّ هداني البحث لأن ألتقط، أيضاً، من مكتبتي كتيِّباً سياسيَّاً سودانيَّاً آخر كان وضعه المايويُّون، بتأثير فكر القوميِّين العرب، قبل زهاء عقد ونصف من ذلك التَّاريخ. ولم يطل بي البحث حتى وجدت ضالتي فيه .. الفكرة ذاتها مصاغة بما يشبه، حدَّ التَّطابق، صيغة عفلق، ولا غرو، فالقوميَّة العربيَّة قبيلة تتقارب مصادرها الفكريَّة على اختلاف بطونها وأفخاذها!
وهكذا أودعت الكتيِّب حقيبتي، وتوجَّهت، في الصَّباح، إلى المحكمة، متوكلاً على الحيِّ الذي لا يموت!
بالفعل، كما توقَّعت، عرضت المحكمة على «شاهد الخبرة» الذي اجتلبته كتاب عفلق مفتوحاً على الصفحة التي تتضمَّن تلك الصِّيغة، وطلبت منه أن يقرأها بصوتٍ عالٍ، ففعل، ثمَّ سألته عن رأيه فيها، فأجاب بأنها «إلحاديَّة» تساوي بين كلام الله وكلام البشر! فاكتفى المكاشفي بذلك، والتفت إليَّ يمنحني الفرصة لمناقشة الشَّاهد، وثغره يفترُّ عن ابتسامة رضا عريضة! فأخرجت الكتيِّب الآخر من حقيبتي، وقدَّمته إلى السّاعوري مفتوحاً على الصفحة التي تتضمَّن الصِّيغة المشابهة، طالباً منه، بالمثل، أن يقرأها بصوتٍ عالٍ، ففعل. ثمَّ سألته إن كان يجد أيَّ فرق بينها وبين صيغة عفلق، فنفى ذلك. فسألته إن كان يعني أن حكم «الإلحاد» ينسحب عليها، هي الأخرى، بالضَّرورة، فأجاب بنعم. لحظتها طلبت منه أن يقرأ عنوان الكتيِّب، بصوتٍ عالٍ، ففعل، فإذا به «ميثاق العمل الوطني»، أحد أهمِّ وثائق «الاتِّحاد الاشتراكي» .. حزب النِّميري الحاكم أيَّامها!
ما حدث، بعد ذلك، لم يقتصر على انفجار القاعة بضحك مجلجل، مِمَّا حاولت المحكمة تحميلي، شخصيَّاً، مسؤوليَّته بلا طائل، كما لم يقتصر على توتُّر المكاشفي، وفقدانه أعصابه، حين فوجئ بالأمر فأسقط في يده تماماً، أو على انخراط «خبيره الاسلاموي» في قسم مغلظ، وهو يرتجف ويتشنَّج، على أنه ما جاء إلى المحكمة قاصداً «تجريم» أحد، أو تكفير فكرة! لقد تعدَّى الأمر ذلك كله إلى ما هو أعمق أثراً، وأكبر خطراً، حيث أقدم المرحوم الرَّشيد الطاهر بكر، وزير العدل النَّائب العام، أوان ذاك، على إرسال مذكِّرة للنِّميري، بعد ظهر نفس اليوم، في ما أوردت صحف اليوم التَّالي، حيث وصف المكاشفي بأنه «يهرف بما لا يعرف»، وأنه أساء لسمعة النظام، وجعله، بجهالته، هزءاً، أو نحو ذلك! فكان أن اجتمع النِّميري بقضاة سبتمبر، كما كانوا يُسمَّوْن، ومَن كان ذكرهم يثير الرُّعب في نفوس المواطنين، وأصدر إليهم أمره بعدم التَّطرُّف، واتِّباع الوسطيَّة، مِمَّا دقَّ إسفيناً داخل كُتلة «الجَّزارين»، وأتاح لموكلينا أن يفلتوا من حبل المشنقة!
ثمَّة مفارقة أخرى تتَّصل بتلك الواقعة، هي أننا، بعد أن نجحنا في إسقاط تهمة «الإلحاد» التي أراد لها المكاشفي أن تلحق بموكلينا من باب «السَّلبطة السِّياسيَّة»، بمصطلح زين العابدين، وصلت إلى كلٍّ منَّا رسالة من بغداد، ممهورة بتوقيع المرحوم بدر الدين مدثر، عضو القيادة القوميَّة لحزب «البعث»، وقتها، يشيد بجهدنا، مؤكداً على «أنكم لا بُدَّ قد وجدتم في فكر البعث حافزاً قوياً .. للدِّفاع عن المتَّهمين»!
السَّبت
خبر سابق: وصلت ميناء بورتسودان 15 حاوية محمَّلة بكمِّيَّات ضخمة من العملة الورقيَّة السُّودانيَّة!
خبر لاحق: أوضح بنك السُّودان أن الحاويات لا تحمل عملة ورقيَّة مطبوعة، بل ورقاً لطباعة العملة!
سؤال منطقي: لئن كان الخبر السَّابق زائفاً، فمن المستفيد من إطلاقه؟! وما الفائدة التي جناها؟!
الأحد
بمنأى عن مستوى الاتِّفاقٍ أو الاختلافٍ في وجهات النَّظر بيني وبين أصدقائي الحميمين، فإن ذخائر من التَّرميزات التِّلغرافيَّة تعيننا، دائماً، على الاقتصاد في تداول كلام كثير! قد تأخذ تلك الذَّخائر مِن سِيَر أعلام أو أمكنة، وقد تراوح بين لُمع من الشِّعر أو النَّثر، وربَّما تنهل، خطفاً، من حِكَم سودانيَّة أو أجنبيَّة .. وهكذا! واحدة من أبلغ هذه التَّرميزات ساقها لي صديق، ذات مؤانسة حميمة، ظهر الأحد الماضي، فاختصر بها كلاماً ربَّما كان سيطول، حول المقارنة بين الرُّموز القياديَّة، أمس واليوم، وكانت من الإنشاد الشِّعري لطيِّب الذِّكر محمود درويش، عليه رحمة الله ورضوانه: «أَيُّهَا الأَحْيَاءُ تَحْتَ الأَرْضِ عُودُوا/ فإِنَّ النَّاسَ فَوْقَ الأَرْضِ قَدْ مَاتُوا» .. وحقَّاً إن من البيان لسحرا!