في ذِكْر أبي

 


 

 

 


مقدمة: هذه قطعة غير قصصية (nonfiction) بقلم الروائية السودانية ليلي أبو العلا في ذكرى والدها، نُشرت في موقع https://jaladaafrica.org/

ولدت ليلي أبو العلا لأب سوداني وأم مصرية، ونشأت في مدينة الخرطوم ودرست في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم وحصلت على شهادة في الإحصاء، ثم نالت درجة الماجستير في الإحصاء من كلية لندن للاقتصاد. وغادرت السودان عام 1987م لتنتقل إلى بريطانيا ... أنظر أيضا لموقع الكاتبة الرسمي: http://www.leila-aboulela.com/about/
الشكر موصول للكاتبة على مراجعة النص وتقديم بعض المقترحات والتعديلات.
المترجم
*********** *********** *********
عندما تُوُفِّيَ أبي، لم أصدق إننا ستركه في مقبرة، وأن ندعه مدفونا وسط الرمال ثم نمضي ببساطة بعيدا عنه، وهو الذي كان يستحم ويغير ملابسه، ويرطب ويعطر ذقنه بالغالي من الكولونيا. كان لا يضع على جسده إلا الملابس المَكْوِيّة لتوها، ويرتدي القُمْصان الناصعة البياض التي لا ترى فيها ذرة غبار واحدة، ويسافر دوما وهو يرتدي حُلَّةً عصرية وينتعل حذاءً لامعا. بدا لي أمرا شائنا أن نتركه وحيدا وشأنه في ذلك القَفْر بضواحي أم درمان، من دون مذياعه، والنسخة الدولية من صحيفة القارديان، ومفكرته الصغيرة التي يسجل فيها بخطه البديع وباهتمام كبير أرقام هواتف كل من يُعزهم.
• قُبِرَ أبي في مَدفَنة العائلة مجاورا لشقيقه وقريبا من أبناء عمومته وإخوته الآخرين. تلك كانت هي رغبته. مكان مألوف يمتلكه هو، ويرقد فيه قريبا من مكان مولده وحيث نشأ. كان كثيرا ما يتردد على تلك المقابر التي كانت تعطي روحه أحاسيس جيدة، ففيها كانت ترقد أجيال من عائلته... دليلا على تواصل سلالة ربطت بين أفرادها روابط الدم القوية. كنت أحب جو تلك المقابر الفسيح المُستتِبّ الأمن، وتاريخها الحافل. غير أنه لما حان وقت ترك والدي فيها – حيث ستكون مقره الأبدي منذ الآن - شعرت بأن في تركه فيها شبهة انتهاك فظيع. وبدت لي الرمال السوداء الرطبة التي أهيلت على قبره أشبه ما تكون بجرح ملوث ومؤلم.
• كنت قبل عامين من وفاة أبي قد رافقته لزيارة مَقابر العائلة للترحم على أعمامي وعماتي الذين وافهم الأجل وأنا خارج البلاد. جلس أبي على حافة قبر أخيه، في ذات الموضع الذي قُبِرَ فيه لاحقا. وبدا لي أنه كان راضيا بقضاء الله وقدره، ولم يفرط في إظهار أي مشاعر عاطفية. وعلى الرغم من أن زيارتي تلك كانت حزينة، إلا أنني أعلم مقدار الفرح والسعادة التي جلبتها لأبي عودتي من الخارج – أنا وزوجي وعيالي. وعلى شرفنا قام أبي بتركيب ستائر جديدة في الدار، وتأكد من أن كل مصابيح الكهرباء تعمل، وابتاع أغطية جديدة لكل أسرة البيت. أذكر منذ أيام طفولتي أنه كان يفعل ذلك دوما عندما يستضيف زوارا مهمين. كانت سعادتي غامرة بكوني قد صرت عنده في زُمرة أولئك "الزوار المهمين".
توفي والدي عام 2008م. وإن قدر له أن يعود للحياة الآن فسيكون علينا أن نشرح له الكثير مما فاته. فقد فاته خبر تنصيب أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وظهور "الواتساب" و"نفليكس"، وتغلغل الصين في أفريقيا، والاسلاموفوبيا (الكلمة نفسها وليست الفكرة)، وبريكست (الكلمة نفسها وليست الفكرة) وحركة # Me Too (ليست الفكرة بالطبع). فاته أيضا ظهور دبي كوجهة للعطلات، وانفصال جنوب السودان، وتنصيب مسلم عمدةً للندن، وتدهور قيمة الجنيه الإسترليني، واشتداد حرارة فصل الصيف، واحتفاظ المصريين بحيوانات أليفة في المنازل، والتسوق عبر الانترنيت، والربيع العربي، والنمور الآسيوية، وسونامي إندونيسيا، والإطاحة بعمر البشير. فاته أيضا ظهور فيروس الكورونا. وسأسله إن كان يذكر سيارة أمي ... الفيروس ينتشر وهنالك حظر شامل، وصدق أو لا تصدق فشل حتى الغرب في العثور على علاج شافٍ له. والأوربيون يموتون بالآلاف من ذلك الوباء، ولكنهم يقابلونه بصبر وثبات ورزانة رغم الغضب الذي يعمهم. سيرد علي أبي بالقول: "لا أصدقك يا ليلى. هذا كلام فارغ".
غير أني سأطمئنه، إذ أنني لا أود إخافته ولا أرغب في تعكير مزاجه وهو يعود للحياة، وأقول له بأن الملكة لا تزال على قيد الحياة، وأن التنس بومبيلدون، وقطوعات الكهرباء، والخطوط الإثيوبية، وصحيفة القارديان، كل أولئك يمضون في تقدم مضطرد. لا أزال أذكر العدد الأسبوعي من تلك الصحيفة وهي تأتيه مطوية في مظروف صغير. كان يحبها ويثق بشدة فيما يكتب فيها، ويجد سعادة بائنة في سماع حفيف أوراقها الرقيقة وهو يقلبها. سأقول له: "انظر يا أبي كم أشبهك الآن!". أبدأ صباحي بقراءة الأخبار في هاتفي المحمول. وكان أبي يضع مذياع الترانسيستور على بطنه كل صباح ويستمع للأخبار. وكان أول صوت أسمعه وأنا استيقظ من النوم هو صوت طنان مطمئن يذيع الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية العالمية.
إن قدر لأبي العودة للحياة فسيكون عنده الكثير مما يود سؤالي عنه. سيسألني عن أطفالي وأحوالهم، وما الذي يفعلونه الآن وما يودون فعله في المستقبل وقد شبَّوا عن الطَّوْق. سأتفاخر أمامه بأني صرت مثله. من كان سيتوقع أن يحدث ذلك؟ صرت مثله أَسْتَحْيِي وأنا في رفقة أزواج أبنائي، وأسافر متحررة من أي قلق (على الأقل قبل حظر التنقل). وما زلت مثله أحذر ركوب السلالم المتحركة، وأحب سماع إشاعة مثيرة. وأنا أيضا يصيبني العنف بالحيرة، ولا أهتم بالتفاصيل الدقيقة، ولا بالخروج من الدار لتناول أطباق خاصة. ومثله أغدو مِزَاجِيّة عندما أكون بمفردي إلا عندما أكون مستغرقة في قراءة شيء ما. ولم يشِبِ شعر رأسي بعد ولكن عنقي وكتفي تؤلمانني. ومثل أبي أصاب بالحيرة عند استخدام سحابات الملابس وعند تغيير البطاريات. البطاريات بالنسبة له في المصابيح اليدوية والريموت كونترول، وبالنسبة لي هي في قارئة البطاقات وساعات الموضة. غير أني أتصور أن أبي – إن قدر له أن يعود للحياة مجددا – سيكون مُكَدّرا مُتَقَلقا. سيداوم السؤال عن إخوته وخيرة أصدقائه وشِلّته، وعن المؤثرين الفاعلين الذين يعرفهم، وعن الذين كانوا يعلمون ما يجري وينقلون إليه الأخبار. سيتساءل: "أين أهلي؟". كان قد نشأ في وسط عائلة شديدة الترابط مكونة من عشرة أخوان وأخوات، وعدد لا حصر له من أبناء وبنات العمومة والخؤولة والأصدقاء. وبقيت "الأسرة النواة" بدعةً غريبة عليه. لم أكن بمفردي لحوحة بما يكفي لأستحوذ على كل اهتمامه. كنت صغيرة في عينيه وكبيرة فقط في فُؤَادُه. وكنت نفيسة عنده، ولكني كنت أيضا بالنسبة له مسؤولية كبيرة. لو وجد نفسه في عشرينيات هذا القرن لتمنى أن يعود لعالمه عندما كان صغيرا، وليس والدا لامرأة في منتصف العمر.


كنت بالفعل أشبه أبي. فأنا أيضا أرغب في العودة للماضي... ماضي الخاص، وأتمنى ان أكون معه عندما كان يعرف كل شيء، وأنا لا أعرف إلا القليل عندما لم تكن لي من قبل الخيار والقدرة على عدم إطاعته. وكنت قبل أن أبدأ في إغاظته وأرد على ملاحظاته بنوع من قلة الاحترام (مثلما تفعل البنات في تلك السن) امتاز بالمكر والحدة وسرعة الحكم على الناس. وكنت أضيع الكثير من الوقت من دون أن أناقش أو أحاور (كان ذلك سيكون مفيدا جدا لي، وربما كان سينمي من مهارة النقاش والمناظرة عندي). وعوضا عن ذلك، أهدرت الكثير من الوقت في التركيز المفرط على عيوبه، وعلى إغاظته بإجاباتي الساخرة التي تكاد تلامس حد الوقاحة. وكنت مستفزة له وهو الأب الكريم المتفائل واللطيف معي، والمنشغل بعض الشيء. غير أني كنت، خلافا لأطفال اليوم، أعرف قدري ومكاني الصحيح، ولم أكن بالبنت العاصية أو المثيرة للمشاكل. غير أني لا أعد كل هذا بمثابة دفاع عن فظاظتي إبان سنوات المراهقة.
قال رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم): "اذكروا محاسن موتاكم". يريحني معنى ذلك الحديث، فأنا لا أكف عن تذكر أبي، وأحلم به دوما، وأراه في نفسي وفي الآخرين كذلك. أتوقف عند ذكراه لوقت طويل، وأدرك طبيعة الزمن الذي عاش فيه، ونوع التعليم الذي ناله، والذي لم ينله، والأعراف والقيم الثقافية التي كانت تحكم تصرفاته، وتلك التي كان يتمرد عليها أحيانا. وأعلم عن الأوقات التي جهر فيها بآرائه، وتلك المواقف التي آثر أن يلوذ فيها بالصمت. وأدرك أيضا الأشياء التي كان يفهمها جيدا، وكل المشاريع التي كافح من أجل اقامتها. أفهم المواقف التي كان فيها تقدميا، وتلك التي بقي تقليديا حيالها. أعرف تطلعاته ومن يُكنّ لهم بالولاء والإخلاص.
كان ذلك هو أبي، أصغر إخوانه، الذي ولد ونشأ في أم درمان. توفيت أمه وهو في الثانية من العمر. كان ينام في الهواء الطلق ويأكل مستخدما أصابعه، ويلعب الكرة في أزقة الحارة. وها هو أبي يدرس في كلية ترنيتي بدبلن. فيها رآه طفل فعبر الشارع مسرعا كي يمسح على ذراعه ويتحسس أصابعه في عجب. وها هو أبي يمشي حافي القدمين في دارنا بالخرطوم. قدماي تشبهان قدميه تماما. وعند انتهاء العمل في المكتب كان أبي يوقف سيارته وهو عائد للمنزل ليشتري لنا بطيخة وموزا. أذكره عندما كانت أخته الأكبر تعاتبه، وعندما كان يتابع مباريات فريقه "مانشستر يونايتد" بحماس منقطع النظير، ويجلس على حافة كرسيه وهو يشاهده ينتصر. ذلك هو أبي: مراهق في الأربعينيات، وطالب جامعي في الخمسينيات، وأب في الستينيات. وفي كل صور الأبيض والأسود كان يرى الحياة ملونةً، وكانت كل الأشياء من حوله عصرية في نظره.
يقول الناس عادة: "أبي علمني هذا، ودرسني والدي ذاك ...". الآباء يدرسون طوال الوقت، في كل ثانية وكل دقيقة، إلا أن الطفل لا يستطيع أن يفهم إلا ما له صدى في قرارة نفسه. والأطفال يختلفون عن بعضهم البعض في الجوانب التي يتلقونها من آبائهم، وفي ترجمتها وتفسيرها (أو سوء تفسيرها) وفي مراجعتها وإعادة تفسيرها، وما يستنتجونه منها. أقوم أحيانا بالاتصال هاتفيا بأخي لأساله: "لماذا فعل بابا هذا الشيء، أو لماذا لم يفعل ذاك الشيء؟". وتبدو إجابة أخي لي كذكرى لجانب من والدي كنت قد أنسيته، ومن زاوية فاتني الانتباه إليها. ولا أكف عن تذكره وأجمع التفاصيل، وأربط بينها، وأفهمه أكثر فأكثر. وأمارس لعبة: "أنا الآن في ذات العمر الذي كان هو فيه عندما حدث هذا أو ذاك...". ويتكرر ذلك لأنه لا يمكن أسر حياة كاملة في تفسير واحد.


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء