علاقات أثيوبيا المتوترة مع السودان بين عامي 1956 و1983م (1 /2)
Ethiopia’s Troubled Relations with Sudan, 1956 – 1983 (1/2) Belete Belachew Yihun بليتي بلاشيو يوهين عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من عرض مختصر لمقال نشره الدكتور بليتي بلاشيو يوهين، أستاذ التاريخ المساعد في جامعة جما (Jimma) الإثيوبية في العدد العاشر من مجلة International J. Ethiopian Studies، الصادر عام 2016م. والكاتب متخصص في التاريخ الدبلوماسي لإثيوبيا المعاصرة، وفي علاقاتها مع دول القرن الإفريقي، وله كتاب نُشر عام 2013م عنوانه: Black Ethiopia: A Glimpse into African Diplomacy, 1956 - 1991. الشكر موصول لدكتورة عزة مصطفى بابكر لمدي بنسخة من هذا المقال. كاتب العرض ******* ********** ******* بدأ الكاتب مقاله بالقول بأنه كان على إثيوبيا – وهي تقع في منطقة تسودها صراعات دائمة بين الدول - أن تظل متيقظة ومُحتَرِزة في تعاملاتها مع جيرانها، وأن السودان ظل دوما محل تركيز جاد لدى إثيوبيا بسبب هواجسها ومَخاوِفها الشديدة منه. ويزيد من مخاوف إثيوبيا أن لها مع السودان حدودا تمتد لألفين من الكيلومترات لم يتم ترسيمها بعد، وأن للدولتين الجارتين تصورات (مثبتة ومتخيلة) عن أن الدولة الأخرى تؤوي عناصر تعمل على زعزعة أمنها واستقرارها. وزعم الكاتب أن نظام نميري ضاعف من هواجس ومخاوف جارته إثيوبيا عند إعلانه لقوانين الشريعة في 1983م، وزاد من عونه للانفصاليين الإريتريين، الأمر الذي حث نظام منقستو (الدَرَك) على الرد على ذلك بزيادة دعمه للحركة الشعبية لتحرير السودان. اعتمد المؤلف – كما ذكر في مُفْتَتَح مقاله - على أرشيف وزارة الشؤون الخارجية الإثيوبية في تناوله لأمر العلاقات بين البلدين، ولم يتطرق في مراجع مقاله التي بلغت 52 مرجعا لأي مصدر غير ما ورد في ذلك الأرشيف. ولعل في هذا مما قد يقدح في حياد وموثوقية تحليله، ويجعله أضيق أفقا، إذ أن من الأصوب أن يتعرض الكاتب لمصادر متنوعة قد تكون مخالفة (أو مؤكدة) لما أعتمد عليه من مصادر أساسية. استعرض المؤلف بصورة مختصرة – ولكنها وافية بالنسبة لغرضه من ذكرها في مقاله – تاريخ السودان منذ قيام مؤتمر الخريجين في عام 1938م، وإصداره لمذكرته الشهيرة المطالبة بمنح السودان حق تقرير المصير في أبريل من عام 1942م. وتطرق لمواقف إثيوبيا تجاه السودان منذ قيام الأحزاب به، وتخوفها في بادئ الأمر من حزب الأمة، ثم من الأزهري (ذلك السياسي الماكر المتذبذب، كما وصفه) وتقلباته تجاه الوحدة مع مصر. وذكر الكاتب أن إثيوبيا كانت مجبرةً على اسْتَرْضَاء حكومات السودان المتعاقبة في السنوات الأولى التي أعقبته استقلاله وذلك لأسباب جيوسياسية (لم يفصح عنها). وأشار إلى أن إثيوبيا غدت مؤيدة لحكومة عبد الله خليل بسبب موقفه من مصر ومن تدخلاتها في الشأن السوداني. وعد الكاتب أن أفضل سنوات العلاقات بين السودان وإثيوبيا في عهد الامبراطور كانت إبان فترة حكم عبد الله خليل (يوليو 1956م – نوفمبر 1958م) والفريق عبود (نوفمبر 1958 - اكتوبر 1964م). وتدل المكاتبات السرية والمحتوية على معلومات حساسة بين السودان والامبراطورية الاثيوبية في ذَيْنِكَ العهدين (المحفوظة الآن في أرشيف وزارة الخارجية الاثيوبية) على مدى ومستوى التفاهم والتعاون المشترك بين البلدين. فعلى سبيل المثال ورد في إحدى تلك الوثائق أن عبد الله خليل كان قد أَسَرَّ قبل يومين من وقوع انقلاب 17 نوفمبر 1958م للسفير الإثيوبي بالخرطوم (ميليس ميكا اندوم) بقرب وقوع انقلاب عسكري ببلاده. وجاء في تقرير رفعه ذلك السفير للإمبراطور بعد قيام انقلاب عبود أنه " أَنَّبَ" أو "انتقد بشدة" وزير الخارجية السودانية علنا لإظهار السودان ميلا عروبيا بائنا. وسرعان ما "عالج" وزير الخارجية تلك "الثُغرَة" في سياسته بإصداره لبيان في 19 نوفمبر 1958م جاء فيه أنه "يؤكد لكل الدول الافريقية المستقلة، خاصة جارتنا الشقيقة إثيوبيا التي تربطنا بها أواصر أسرية وصداقة... لتطوير وتعبئة جهودنا خدمة لمصالح إخواننا الأفارقة... وتعاوننا في المجال الدولي وفقا للمبادئ التي أقرت في مؤتمر أكرا". (لعل المقصود هو مؤتمر الرؤساء الأفارقة الذي عُقد في مارس 1958م). واستبعد غالب الخبراء السودانيين الذين أطلعتهم على ما زعمه الكاتب أن يجرؤ السفير الإثيوبي (أو غيره من السفراء الأجانب) على انتقاد أو تأنيب وزير الخارجية آنذاك علنا. وذكر الكاتب أن إثيوبيا ظلت تسعى بشدة لضمان سيطرة الأنصار على السياسة السودانية وبقاء حزب الأمة على سُدَّة حكم السودان، وأنها عرضت مساعدات مالية على السيد عبد الرحمن المهدي لمساعدة حزب الأمة في الفوز بأغلبية في البرلمان (وكذلك فعلت اسرائيل والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، بحسب زعمه). وكان مرجع المؤلف الوحيد في ذلك الزعم هو خطاب من وزير الخارجية الإثيوبي يلما ديرسا إلى السفير ميليس في الخرطوم في الثاني من أبريل عام 1959م، ورد السفير عليه في العاشر من أبريل 1959م. وهذا أمر مستغرب بالنظر إلى أن حزب الأمة كان قد حُل مع غيره من الأحزاب السياسية بعد انقلاب 17 نوفمبر 1958م! ولم يذكر الكاتب إن كان ذلك "العرض" قد تم قبوله أم لا. وإذا صدقنا بأن إثيوبيا كانت قد عرضت ما عرضته على السيد عبد الرحمن، فلم لم يذكر مصدره عن المساعدات التي عرضتها الدول المذكورة الأخرى؟ وتطرق الكاتب أيضا – مستندا على الرسالتين المتبادلتين بين وزير الخارجة الإثيوبية وسفيره في الخرطوم - إلى أن صراعا على زعامة طائفة الأنصار قد نشب بين السيد الصديق عبد الرحمن المهدي والسيد عبد الله الفاضل المهدي عقب وفاة السيد عبد الرحمن في مارس من عام 1959م. وسَبَّبَ ذلك الصراع – بحسب قول الكاتب – قلقا وخوفا عند الحكومة الإثيوبية دفعهم لمساعدة جناح السيد الصديق بمبلغ 100,000£. ووصف الكاتب كل تلك الصلات بين إثيوبيا وحزب سوداني بأنها "صلات بنّاءة"، إلا أن عقد السودان لاتفاقية مياه النيل في نوفمبر 1959م قضى على آمال إثيوبيا في إقامة علاقات أوثق مع السودان. وأورد الكاتب – بِنَاءً على تقرير إثيوبي سري عن الأحوال بالسودان – أن محادثات سرية قد جرت بين عبد الناصر وعبود لإقامة اتحاد فيدرالي (federation) بين مصر والسودان عقب الأزمة السياسية التي وقعت بالسودان في أواخر شهر سبتمبر من عام 1961م، والتي أثبتت للأثيوبيين قوة العلاقات بين الخرطوم والقاهرة. وذهب الكاتب إلى أنه مع تدهور الأوضاع السياسية بالسودان عقب سبتمبر 1961م، وبعد تدخل مصر، شرع السودان في مساعدة وتبني "النشاطات الهدامة" (بحسب تعبير الكاتب) في إرتريا، والتعاون مع الصومال ضد إثيوبيا. واضطرت إثيوبيا لمواجهة ذلك المخطط باستراتيجية قصيرة الأمد، وأخرى طويلة الأمد، خاصة مع ظهور نُذُر صراع في جنوب السودان. وتلخصت ما أسمته وزارة الخارجية الأثيوبية بـ "خطة العمل ضد السودان والصومال" الصادرة في 1962م في "... دعم استقلال الكيانات السياسية في المنطقة، وإحباط العمليات التخريبية الدائرة حاليا، واحتواء التغلغل المصري والقضاء عليه". ولضمان مصالح إثيوبيا في السودان وضعت السلطات الإثيوبية تصورا لخطة تقوم على دعم وتقوية حزب الأمة وطائفة الأنصار، وخلق تعاون إثيوبي - سوداني – إسرائيلي عبر لجنة ثلاثية يفترض فيها العمل على اجتثاث التغلغل المصري بالسودان وتقوية العناصر المعادية لمصر فيه، أملا في أن يفضي كل ذلك لتحييد السودان ومنعه من أن يصبح قاعدةً للنشاطات الهدامة في إرتريا. وكان من المخطط له أيضا – بحسب زعم الكاتب - عقد اتصالات مباشرة مع العناصر المعادية لمصر في الجيش والشرطة بالسودان، ودعم حزب الأمة ليغدو قوة ضاربة في شوارع الخرطوم وغيرها لردع ومنع "العناصر المعادية"، ومساندة حزب الأمة في انتخابات أبريل 1963م (لعل المقصود هو انتخابات المجلس المركزي !؟)، وأن يظهر حزب الأمة بقوة كافية ليشارك في حكومة ائتلافية عقب تلك الانتخابات. ويلاحظ أن الكاتب لم يأت على ذكر أي مرجع أو مصدر لما زعمه في هذه الفقرة (حتى من مصدره الوحيد في كل المقال: "أرشيف وزارة الخارجية الاثيوبية"). ولا تخلو تلك الفقرة أيضا من بعض الخلط في الأحداث فيما يخص انتخابات المجلس المركزي التي أقامها نظام الفريق عبود وقاطعها حزب الأمة (للمزيد عن تلك الانتخابات يمكن النظر في هذا المقال عن "الانتخابات في السودان في خلال العهد العسكري" https://tinyurl.com/y9nno4y4 وتوالى ظهور أعراض لحالات تدهور عديدة في العلاقات السودانية – الاثيوبية في عهود حكومات سودانية "موالية للعرب" – بحسب وصف الكاتب – وخص بالذكر حكومات معينة هي حكومتي إسماعيل الأزهري: من يناير إلى يونيو 1965م، و1965 إلى مايو 1969م، وحكومة سر الختم الخليفة من 1964 – 1956م، وحكومة جعفر نميري من مايو 1969 إلى أبريل 1985م. وكان السبب الرئيس في ذلك التدهور هو بغض إثيوبيا لإقامة السودان لعلاقات وثيقة مع مصر. وكان الميل العربي / الإسلامي في السودان مصدر قلق كبير لإثيوبيا. ولم تفلح الاتفاقيات العديدة التي أبرمتها إثيوبيا مع السودان في تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين. وذكر الكاتب بعضا من تلك الاتفاقيات التي أُبرم أولها في 30 أبريل من عام 1956م، وكانت تتعلق باستئجار السودان لمنطقة قامبيلا لعشرين عاما. وأُبرمت أيضا في 29 مارس 1964م اتفاقية تتعلق بتبادل المجرمين. وعزا الكاتب المشاكل الرئيسية التي اعترضت طريق العلاقات السودانية – الإثيوبية إلى: وجود متمردي جنوب السودان في إثيوبيا، ووجود متمردي إرتريا بالسودان؛ وعدم ترسيم الحدود؛ والأعداد المتزايدة من اللاجئين في القطرين. وذهب الكاتب إلى أن أشد فترات الحكم بالسودان التي تضخمت فيها تلك المشاكل كانت هي فترة حكومات الأزهري، ثم سر الختم الخليفة، ثم نميري، حين تضاعف دعم السودان للمتمردين الإرتريين، وانتقمت إثيوبيا لنفسها بدعم متمردي جنوب السودان، حتى يمتنع السودان – بحسب عبارة الكاتب – من "التدخل المباشر في مشكلة داخلية تخص دولة مستقلة ذات سيادة". وتحت عنوان جانبي مثير هو "مُجَابَهَة متهوِّرة headlong confrontation" أتى الكاتب على منح حكومة سر الختم الخليفة في أواخر عام 1964م جبهة التحرير الإرترية حق التحرك داخل السودان وخارجه، الأمر الذي احتجت عليه إثيوبيا احتجاجا قويا. وزادَ الطِّينَ بَلَّةً (من وجهة نظر السفارة الإثيوبية بالخرطوم في رسالتها لوزارة الخارجية في أديس أبابا يوم 5/12/1964م) ما صرح به وزير الاستعلامات والعمل في حكومة سر الختم الخليفة (خلف الله بابكر) في يوم 3/12/1964م من أن "ثورة أكتوبر لن تكتمل حتى يتم تحرير كل جيران السودان... وأن الحكومة تتفهم قضية الإرتريين ... وسنحارب من أجل ذلك في أي بقعة". وأطلقت حكومة سر الختم الخليفة سراح كل المسجونين الإرتريين بالبلاد، وأعلنت رسميا عن دعمها لمن سماهم الكاتب "الجماعات المتمردة"، وسهلت مرور الأسلحة والمؤون والذخائر التي تبرعت بها الدول العربية / الإسلامية إلى مناطق عملياتهم. وزعم الكاتب – بناءً على رسائل في أرشيف وزارة الخارجية الإثيوبية – أنه قُدمت للحكومة الإثيوبية مقترحات من سفارتها بالخرطوم لمتمردي جنوب السودان كي يتواصلوا سراً مع حزب الأمة للقيام بأعمال تخريبية في الشمال، وتعيين مسؤول أمني سري في السفارة بالخرطوم ليتولى تنسيق تلك العمليات. ويلاحظ هنا أيضا أن الكاتب ذكر تلك "المقترحات"، ولكنه لم يذكر إن كان قد عُمل بها أم لا. وواضح الآن أن تلك المقترحات (حتى وإن صدق أنها كانت قد قُدمت بالفعل) لم تجد طريقها للتنفيذ. ولم يفلح لقاء وزير الدولة للخارجية (كتما يفري) مع وزير خارجية السودان (محمد أحمد المحجوب) في ديسمبر 1964م نيويورك من تدارك تدهور العلاقات بين البلدين، إلا أنهما أصدرا بيانا (تصالحيا) مشتركا أقرا فيه بـ "ضرورة مراجعة وبحث الأحداث السابقة التي أفضت لتدهور العلاقات الثنائية، والعمل على حلها حلا نهائيا خدمةً لمصالح البلدين". ووقع رئيس وزراء السودان محمد أحمد المحجوب مذكرة اتفاق مع نظيره الإثيوبي إبان زيارة قام بها لأديس ابابا في 28 يوليو من عام 1965م. وحثت تلك المذكرة البلدين على إيقاف بث الحملات الإعلامية المضادة لكل دولة، وعدم نقل الأسلحة والذخائر والمؤون للخارجين على القانون عبر حدود البلدين أو المتمردين أو الانفصاليين، ومنع مواطني كل دولة من دعم نشاطات الجماعات الانفصالية في الدولة الأخرى، أو التدخل المباشر أو غير المباشر في شؤونها. ونصت المذكرة أيضا على إغلاق كل المكاتب التي أقامتها العناصر المتمردة في الدولتين، وألا تسمح أي دولة باستخدام أراضيها كمراكز تدريب للعناصر المتمردة في الدولة الأخرى. وأتفق كذلك على التصديق على اتفاقية تبادل المجرمين التي أبرمت في 29 مارس 1964م وتفعيلها، وعلى احترام كل دولة للحدود المعترف بها دوليا للدولة الأخرى. وشملت مذكرة الاتفاق أيضا إنشاء لجنة وزارية مشتركة لمتابعة تنفيذ بنود تلك الاتفاقية، وتذليل العقبات التي قد تعترض سبل تذليلها، وعلى تشكيل لجنة استشارية مشتركة تجتمع بصورة دورية لتتدارس كل المشاكل والصعوبات التي قد تنشأ بين الحكومتين، وأن تعمل على حلها. وتم كذلك عقد لقاء بين الجانبين في أديس أبابا في 26 أبريل من عام 1966م تركز على مسألة التمرد في جنوب السودان وصلته بإثيوبيا، واجتماع مشترك آخر في الخرطوم في 24 – 26 يونيو 1966م تم التركيز فيه على مسألتي الحدود المشتركة والنشاطات الهدامة. وبحسب وثيقة من السفارة الإثيوبية بالخرطوم صدرت في 12 أغسطس من عام 1965م فقد قامت السفارة من جانبها باتخاذ تدابير وقائية لمواجهة النشاطات المعادية لإثيوبيا بالسودان كان أبرزها القيام بنشاط سري في الخرطوم، وتخصيص موارد مالية من أجل القيام بدعايات مضادة لتلك النشاطات المعادية، وتعيين موظف مسؤول عن تنسيق تلك التدابير، وإنشاء نادي أو جمعية للتضامن الإثيوبي – السوداني بالخرطوم، وتقوية الصلات مع حزب الأمة وطائفة الأنصار، والأهم من كل ذلك فرض قيود على إصدار وثائق سفر للمواطنين الإثيوبيين الذين يعيشون في الخارج (خاصة الشباب الذي كان يخشى النظام من مَغَبّة تجنيدهم من قبل المعارضين). وتم تخصص مبلغ 70,000 بر Birr للقيام بتلك التدابير الوقائية.