التعليم: “من واقعنا ما من أكتر”

 


 

 

 

كنت قد نشرت هذه السطور منذ عقد ونيّف في صحيفة "الأحداث". وكان ما دعاني لكتابتها هو ما قرأته في مذكرات للدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002م) عن التعليم في زمانه وعن سخطه لما حاق به في زمان الناس هذا... وسأقتطف في نهاية المقال بعض ما سطره قلم ذلك الفيلسوف الغضوب. بيد أنني أود أن أشير هنا لعدم إلتفات من أنشأوا المناهج وطرق التدريس – على الأقل في أيامنا الخوالي - إلى الواقع والبيئة المحلية. فعلى سبيل المثال، ذكر لي زميل أنه درس في صَّقْع بعيد من منطقة الناس فيها "لهجتهم في لين القطن"، وأتي مدرس اللسان العربي المبين فكتب على سبورة الفصل بخط جميل كبير "أكل الولد الكمثرى"، وصاح بتلميذ شَّقِي أمامه أن أعرب الجملة. أسقط في يد الصبي، فالكمثرى مجهولة الهوية عنده (وعند قومه كذلك). وهنا تدخل تلميذ جريء مشاغب بالسؤال: " كيف يا فندي الولد يأكل الكمثرى؟"... وإتضح بعد السؤال والتحري أن التلميذ حسب أن الكمثرى من الحيوانات المفترسة، وحري بها أن تأكل الصبي لا العكس! وكلنا، فيما أحسب، نذكر أمثلة أخرى لمفارقة ما كان (وربما ما يزال) يدرسه التلاميذ لواقعهم المعاش.

وذكر عبد الله الطيب في مذكراته المعنونة "طريق التجهيزي" أنهم في كسلا الأولية كانوا يدرسون من كتاب مصري جاء فيه:" ألف أرنب با بط" والبط كما ذكر الأديب الأريب "طير ما كان في بلادنا ولا يعرف ولا يؤلف" وذكر أيضا ما جاء في ذلك الكتاب المدرسي من سؤال: "أين الفيل يا خليل؟" ويقول إن السؤال لعله كان في جنينة الحيوانات بالقاهرة أوائل عهد الناس بإنشائها. ويمضي أديبنا في تعداد الكلمات الإنجليزية التي ألزموا بحفظها مثل كلمتي cabbage (كرنب) وlettuce (خس) وكانوا "أولاد بلد" كما قال، لا يعرفون ما الكرنب وما الخس، بينما هي خضروات معروفة بمصر.
وفي مناهج الجامعات في كليات الطب والعلوم الصحية الأخري كثيرا ما يقرأ الطلاب ما يورده مؤلفو الكتب في وصف أنسجة الدم أو غيرها أن لون "شئ ما" هو لون الكرز (cherry) الأحمر الفاتح. وأذكر أن زميلا بيطارا إختلط عليه الاسم وتشابه عليه البقر فحسب المقصود مشروب (أبو كديس) الكحولي الذي كان يتجرعه ليل كل خميس! وأضطر الأستاذ الواعي أن يقرب الفهم للطلاب بالقول إن اللون المقصود أقرب للون الكركدي. وطالتنا الحيرة ونحن نقرأ أن من التغيرات النسيجية المرضية التي تصيب كبد الحيوان (والإنسان) ما يسمى بـ (nutmeg liver) ولم يسعفنا القاموس الذي أفادنا بأن ال nutmeg المقصودة هي "جوز الطيب". تسألنا عما هو "جوز الطيب"؟ ولعل منشأ ذلك كان هو ضعف ثقافتنا العامة وقلة معرفتنا – على وجه العموم- بما حولنا من نبات وحيوان. ولا شك أن قلة فقط من الجامعيين – قديما أو حديثا - تستطيع أن تعدد لك اسماء دستة من الأشجار والطيور البرية والزهور ونباتات الزينة، بينما يتعلم ويتعرف أصغر تلميذ في بلاد الله الواسعة الأخرى على عدد كبير مما حوله من المخلوقات الحيوانية والنباتية دون كبير جهد أو تسميع أو "درس عصر"!
أورد عبد الرحمن بدوي في مذكراته ما ذكرني بوضعنا التعليمي الحالي. كتب الرجل:
"إن الكارثة التي جلبها هؤلاء "البيداجوجيون" علي التعليم في مصر] أقرأ السودان[ أفظع من كل كارثة أخري أصابت البلاد، لأنها دمرت خير ما فيها، أعني عقول أبنائها. وإلي جانب تدميرهم لتعليم اللغة العربية، قضوا قضاء تاما على تعلم اللغات الأجنبية. إن اللغة مفتاح لعالم بأسره. ومن لا يعرف لغة أجنبية حديثة ذائعة الإنتشار حافلة بالمؤلفات العلمية الجيدة لا يعرف شيئا، وليس جديرا بأن يعيش. لقد تفتق ذهن هؤلاء البيداجوجيين الضيق الفاسد عن دعوى كاذبة، وهي أنه مما يضر باللغة القومية أن يتعلم التلميذ لغة أجنبية في المرحلة الابتدائية! كانت النتيجة ضياع اللغة القومية وإغلاق الباب أمام التعليم الجيد للغة أجنبية. إن اللغات كالبنيان يشد بعضها بعضا، لأن الأنماط اللغوية والنحوية متناظرة بين اللغات المختلفة. وها نحن نرى الطلاب في الجامعات اليوم لا يستطيعون الرجوع إلى مصادر مكتوبة بلغة أجنبية، مما أفقر التعليم الجامعي كل الإفقار".

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء