روايات خاصة: فى تلك اللحظة

 


 

 

 

(1)

تعلو ضحكات (الزاكي) حتى يكاد يشرق وهو يسجل بتفاصيل دقيقة تلك اللحظة حين (فغر فلان فاه) ، هي الجملة ذاتها ، لا يبدلها ابدا ، وكأنها ماركة مسجلة ، ويروى الأحداث والمشهد بتلذذ عجيب ، يتابع الزملاء فى الفصل ، وفى المناسبات ، ويبحث عن لحظة الدهشة تلك ، يتفحص الوجوه وحالة الاستغراق فى المشهد ، ويسجل كل شيء ، الاجواء والمحيط والشخوص ثم يختم بعباراته الاسيرة تلك (فغر فاه) ، لا ادرى من أين تواردت له هذه الخاطرة وتلك الخاصية العجيبة؟ ، وكيف نمت تلك الملكة وتشبعت حتى أضحت جزءا من حكاياته؟ ، انها اللحظة تلك حين تسرح بك الخاطرة فى عالم بعيد تنسي فيه كل محيطك .
وكان شاعر البطانة ود الشريقاوي يبدو متحسراً وقد خابت لحظته تلك وانهارت كل خططه وارتد بالحسرة يضرب كفا بكف :
رمينا ليهن شروكنا وفز ناجع صيدن..
عقب شن لينا غير ترك الأمور لي سيدن..
تدق اللحظات تلك ابواب حياتنا ، يذوب الاحساس بالوقائع والمشاهد ، وفى وعد النوار صاغ اسحق الحلنقى تلك اللحظات من اللهفة ، ولكن الموسيقار محمد الامين جعل لتلك اللحظة صورة خاصة ، والقلب يقفز بلهفة :
ﻣﺮﺕ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻭﻛﻤﺎﻥ ﺳﺎﻋﺎﺕ
ﻃﺎﻟﺖ ﻭﺣﻴﺎﺗﻚ ﻣﻨﺘﻈﺮﻳﻦ..
ﻟﻮ ﻭﺷﻮﺵ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺮﻳﺢ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺎﺏ..
ﻳﺴﺒﻘﻨﺎ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﻗﺒﻞ ﺍﻟﻌﻴﻨﻴﻦ..
ﻭﻧﻌﺎﻳﻦ ﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﻧﻠﻘﺎﻩ
ﻋﺎئم ﺑﺪﻣﻮﻉ ﺍﻟﻤﻐﻠﻮﺑﻴﻦ..
ويتدفق صوت النور الجيلانى بالحنين والشجن وتلك اللحظة قد اثارت كل كوامن الوجد وقد حرك العصفور المشاعر الخفية:
اطرا يا عصفور حبايبك
و انت فوق حلتنا راحل..
جايبك الصيف من ديارك
شايلك الشوق للسواحل..
فرح ايامنا الحزينة
و بالسلامة تانى واصل..
كان نسيت موسمنا ديا
فى المواسم الجاية حاول..
ويتناغم المزاج العام مع محيط تلك اللحظة وتتداخل المناظر ، وفى الفيافى يسرع بعير الشيخ أحمد عوض الكريم في مسدار رفاعة ، قاصدا لقيا الحبيب ، وكأن الكلمات تجسد حرارة الاحساس فى ايقاع عجيب ، وربما استشعر البعير احساس صاحبه فى لهفته وعاصف الاشواق والتوق :
ضهير قلعة مبارك جيتو تلعب شد..
منعت (اللسعة) والكرباج وقولة هد..
على التالاك احسان ذوقه ما بنعد..
يومك كله تمصع ما انلحق لك حد..
واللحظة عند بابكر الطاهر تعبر عن تنازع الفرح والحزن ، والاذعان للواقع والإنكار للحقيقة فى تلك الليلة :
في الليلة ديك لا هان علي
أرضى وأسامحك ولا هان علي أعتب عليك..
شلت الجراح والابتسامة
وكل حرمان اليتامى
جيت أهنيكي وأصافحك جيت أقول مبروك عليك..
ومديت يميني بلا كلام
ما قدرت قدامك أقيف
ورجعت حابس أدمعي في الليلة ديك..
ويرسم الشاعر اسماعيل حسن اللحظة تلك فى لوحات متراصة ، ما بين شتاء وعطش ،وحنين طاغ وبحث مستحيل :
فـى اللحظـه ديـك اشتقـت ليـك شـوق السحـابـة الراحلة فى جوف الشتاء عطشانـه تحلـم بالخريـف...
بقيـت ضعيـف..
فـــى اللـحـظـة ديـــك مــديــت مـعـابــر شــوقــى لــيــك..
وحـــنــــيــــن حــنـــيـــنـــى الـــطــــاغــــى لـــــيـــك..
كـــــايــــــس مـــجــــيــــك ودايــــــــــــر يــــجــــيــك..
فـــى اللـحـظـه ديــك اشـتـقـت لـيـك واحـتـجـت لـيـك..
وصور الشاعر احمد عوض الكريم لحظة مغايرة فى القناعة ، بعد ان تبدلت الايام وتغيرت الاحوال ، و انتطم كل شىء وفق ذاك المنظور منظوم التعبير وواسع الخيال :
أقـول ليـكم كــلام بصــراحتـه..
تمام الكيف بعد مـا قلبي يوجد راحته..
غناي الكان قبيل الناس بيحكوا سماحته..
فقدت جهله ،وعدمت أهله...العليهم ناحته

(2ّ)
ومن اجمل تصورات حاجة الدهشة تلك ما رسمه المبدع المرهف هاشم صديق ، فى قصيدة حاجة فيك ، تلك التى تقطع انفاس القصائد وتهدى السلام وتجنن ، لوحة لا يفلح فى تصويرها الا الشاعر هاشم صديق ،:
حاجة فيك .. تقطع نفس خيل القصائد..
تشده أجراس المعابد
توهتنى .. جننتنى
جننت حرف الكلام..
وبرضو أدتنى السلام..
حاجة فى شُرف المداين
وفى غرف كل السفائن
جوة فى عمق المناجم .. والعيون..
حاجة زى ما تكون
محلـّق فى العواصف
فجأة، تهبط فى السكون..
اما الشاعر الصادق الحلال والمشهور بود امنة ، فأن لحظاته كلها خيال مضطرب وذهن مشوش ، فقد استحوذت عليه تلك الحالة بكلياتها :
اكبر لي رغيبة الفجر وهي توازي لي..
واتدهور واسج الحمدو ماتمشي لي..
وكت المولى فكا علي ام شديده وكيلي..
كيفي ضمانه في ضراع الكزازي زميلي..
وتجاوز استاذنا فضل الله محمد قصص الحب والانتظار و ذلك النمط التقليدى الى شكل اخر ، اكثر واقعية واقترابا من الحقيقة وصور المشهد بتصاعد درامي يبدأ من رؤية واسعة ويقترب بالاحساس والمشاعر ويصعد بمستوى اللهفة الى ان يصل القمة ويختم ببصمة ذات وقع وتأثير ، وابدع الاستاذ محمد الامين في تلحينها واداءها :
أي حاجة تمر بخاطرك..
قصة أو أخبار جديدة..
عندي ليك خبر أهمْ...
جايبه بي أشواق شديدة..
أسمعي وطاوعيني مرّة..
أيوه، ما تخليك عنيدهْ..
عايز أقول لكْ..
ليه أقول لكْ..
ما بقولك..
مش مخير..
ساعة مرت ساعة واكتر..
والوقت روّح تأخر..
زى عنادك عايز اعاند..
لكن يظهر ما حا اقدر..
امرى لله كنت عايز اقول
بحبك يا وحيدة..
بقرى في عيونك حياتي
وعاملة مشغولة بجريدة..

ان بعض لحظاتنا تظل محفورة فى الذاكرة والوجدان ، وتبقي عصية على التعبير ، واجمل ذلك الاحساس حين تعود الطيور الى اوطانها ، وتحتضن الناس والعيون والتراب وذاك الحنين وملتقى النيلين ، وكما قال صلاح احمد ابراهيم :
بالله ياالطير المهاجر للوطن
زمن الخريف..
تطير بي سراع ماتضيع زمن..
أوعك تقيف..
وتواصل..
الليل للصباح..
تحت المطر..
وسط الرياح..
وكان تعب منك جناح..
في السرعة زيد
في بلادنا ترتاح..
ضل الدليب أريح سكن..
فوت بلاد وسيب بلاد..
وإن جيت بلاد..
وتلقى فيها النيل..
بيلمع في الظلام..
زي سيف مجوهر..
بالنجوم من غير نظام..
تنزل هناك وتحيي..
ياطير باحترام..
وتقول سلام..
وتعيد سلام..
ولا ينسى الشاعر الراحل صلاح تلك اللحظة الحانية ، والمشاعر الجياشة ان يربط بين الوطن والام والحبيبة والاخت والبيت ، ويردد :
قبل ما تشرب
تمر على بيت صغير..
من بابه ومن شباكه
بلمع الف نور..
وتلقى الحبيبة بتشتغل
منديل حرير...
لحبيب بعيد
تقيف لديها..
وتبوس إيديها..
وانقل إليها..
وفائي ليها..
وحبي الأكيد..

واتذكر هذه الأيام صديقي (الزاكي)، وكم هناك من يعيش الدهشة وقد(فغر فاه)، .. وسلام على بلادي ونيل بلادي...

ibrahim.sidd.ali@gmail.com
///////////////

 

آراء