تَسْيِيس الهوية الدينية في السودان: إفادات شفوية للسودانيين المهاجرين بأمريكا
The Politicization of Religious Identity in Sudan, with special Reference to Oral Histories of the Sudanese Diaspora in America ماثيو كستنبودر Mathew Kustenbauder تلخيص وتعريب: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة: هذا تلخيص للفصل العشرين في كتاب صدر عن دار نشر لايدن بهولندا عام 2012م بعنوان: “Religion on the Move! New Dynamics of Religious Expansion in a Globazling World”، ولعله يمكن أن يُترجم ذلك العنوان بعبارة: "الدين قادم (أو يتقدم، أو غير ذلك من معانٍ مختلفة)! ديناميات جديدة للتوسع الديني في عالم تسوده العولمة". وهو من محفوظات جامعة هارفارد الأمريكية. وهذا الفصل من تأليف ماثيو كستنبودر الذي عمل (بحسب سيرته الذاتية في الشبكة العنكبوتية) زميلا باحثا بجامعات ييل وكيب تاون وهارفارد بين عامي 2006 و2016م، وفي القسم القنصلي بوزارة الخارجية (2016 – الآن). وللكاتب العديد من الكتب والمقالات عن الديانة المسيحية في غرب وشرق أفريقيا وجنوبها، وعن مواضيع متفرقة أخرى. واعتمد الباحث في كتابة هذا الفصل على عدد من المقابلات التي أجراها في أواخر عام 2007م مع 9 من السودانيين - مسلمين ومسيحيين، عربا وأفارقة، ومن الشمال والجنوب - هاجروا للولايات المتحدة. وذكر الكاتب أسماء هؤلاء وقبائلهم وتاريخ وصولهم للولايات المتحدة، كانوا من الجنوبيين (6، كلهم من قبيلة الدينكا) والشماليين (2 من دارفور، وواحد من وسط السودان)، ولكنه لم يتطرق في مقاله لطريقة اختيار تلك العينة الصغيرة، وإن كانت عشوائية أم لا. *********** *********** ****** استهل الكاتب مقدمة فصله باستعراض سريع لتاريخ الحربين الأهليتين في السودان عقب نيله لاستقلاله، وذكر أن بدايات الحرب الأهلية الأولى كانت في عام 1955م، وتم في 1972م عقد اتفاقية أنهت تلك الحرب. ثم بدأت حرب ثانية (يُعتقد بأنها كانت امتدادا للحرب الأولى) في 1983م، ولم تضع أوزارها إلا بعد عقد اتفاقية للسلام في يناير 2005م. ويُقدر أن تلك الحرب الثانية قد أودت بحياة أكثر من مليونين من البشر، وشردت أكثر من أربعة ملايين من مدنهم وقراهم. وذكر الكاتب أيضا أن الروايات الشائعة في الكتب والأفلام عن سبب الحرب تنسبه إلى الصراع بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي. وازدادت تلك الروايات (النمطية stereotyped) بعد قدوم نحو 3,800 ممن يُطلق عليهم "الأطفال الضائعون Lost Boys"، والذين أنتج عنهم أكثر من فيلم توثيقي بين عامي 2003 و2006م. وتختصر تلك الروايات صراعا محليا معقدا في تعابير شاملة وأساسية ولا تخلو من تعميم تزعم أن العدائيات في السودان تعكس صراعا ومواجهة ثقافية عالمية (لتأليب الإسلام ضد الغرب)، وأن الدين أو الهوية الدينية – بحسب صامويل هنتنجتون - هي مصادر أساسية في الصراعات التي دارت عبر تاريخ العالم. غير أن من بحثوا في مسألة تلك الصراعات في السودان خلصوا أن أسبابها التاريخية هي خليط من العوامل السياسية والاقتصادية والبيئية. وتعرض الكاتب في مقدمته لـ "سياسة جنوب السودان" التي وضعتها الإدارة الاستعمارية في بدايات ثلاثينات القرن العشرين لعزل مناطق السودان الطرفية (خاصة جنوب السودان) من تأثيرات السودانيين الشماليين (1). وقد عطلت تلك السياسة التنمية في جنوب السودان وجعلته غير مستعد أو مُهيِّئ للاستقلال السياسي. وجاءت خلاصة البحث كما يلي: "ارتبط تَسْيِيس الدين في السودان مع عملية العولمة، على الأقل بطريقتين مهمتين: 1. استفاد اللاعبان المحليان (حكومة الخرطوم في الشمال وثوار / متمردي الجنوب) من الأبعاد الدينية (الإسلامية والمسيحية) في الصراع بينهما للحصول على أكبر قدر من التأييد، في داخل المنطقة، وكذلك من الدول القوية ومجموعات المصالح (interest groups) في الخارج. واستخدمت حكومة الخرطوم في الشمال والحركة الشعبية لتحرير السودان (SPLA) أساسيات التعاليم الإسلامية (عبر لغة الجهاد والاستشهاد والاخوة والتضامن الإسلامي) لنيل عون وتأييد أجنبي. ومالت الحركة الشعبية نحو الغرب المسيحي، بينما مالت حكومة الخرطوم نحو العالم الإسلامي. وساهم مَيْل الطرفين المذكورين في ترسيخ وتدعيم واشتداد الصراع بينهما في الجنوب والشمال، وفي ذات الوقت خلق كُتَلا وتكتلات انتماء أكبر لم يكن بمقدورها تجاوز الفروقات العرقية والطبقية. ربما تكون فكرة خلق جنوب السودان (كدولة مستقلة) قد أتت من الحكم الاستعماري، بَيْدَ أن تنفيذ تلك الفكرة على أرض الواقع كان بلا شك بسبب ذَيْنِكَ الحربين. 2. أدى سودانيو الشتات في مهاجرهم دورا مهما بحسبانهم مبعوثين emissaries للسودان الجديد. وتشكل ذلك المفهوم والمنظور لديهم بسبب هجرتهم التي نمت في دواخلهم بذرة رؤية بديلة للأمة، وهي رؤية تكوين دولة مستقلة عن السلطة في الخرطوم. ويتضح من المقابلات التي أجريتها مع سودانيي الشتات في مهاجرهم، ومن تحليل ما نُشر وما أُنتج من أفلام سينمائية عن موضوع بحثي أن العنف قد ترك أثرا لا يمحى على تاريخ السودان. وأرى كذلك أن للدين وللخطاب الديني (الذي يُعد عاملا مركزيا في التعبئة وجهود المقاومة) آثارا جلية في توسيع دائرة انتشار ذلك العنف. وعلى الرغم من أن الهوية الدينية هي مجرد شكل واحد من أشكال فهم البشر لذواتهم، إلا أن هذه الهوية الدينية اُتخذت كقوة تعبئة فعالة تتخلل وتفوق في فعاليتها كل الأشكال الأخرى مثل الجنس/ الجنسانية gender)) والطبقة والعرق. إن للدين القدرة والإمكَانِيّة على تقسيم وكذلك توحيد الأمة، وهذا يمثل تحديا لأي فهم أحادي لدوره في الحروب وفي تكوين الدولة. وحاول هذا الفصل فهم انتاج ونشر وتعميم خطاب / قول (discourse) يضع المعارضة الدينية في مركز الصراع في السودان، وسرد باختصار الطرق التي تمت بها تعبئة (المشاعر) الدينية محليا من أجل تشكيل كتل أو تكتلات موحدة (unifying blocs) قادرة على تجاوز الانقسامات الداخلية، وعلى نيل تأييد ونيل الحلفاء الدوليين الأقوياء. ولم تكن الروايات المنقولة شفهيا عن سوداني الشتات في المهاجر قصصا عن الحرب بحسبانها نتيجة لا محال من وقوعها لصراع وخصومة ديانتين تقومان بالدعوة / التبشير، ولكنها كانت تاريخا عارضا / طارئا تميز باستخدام الدين مِنْ قِبَل صفوة حاكمة من أجل تحقيق مآرب سياسية. وعلى الرغم من ذلك فقد أجمع كل الذين أجريت معهم مقابلات من السودانيين - مسلمين ومسيحيين، عربا وأفارقة، ومن الشمال والجنوب – أن حكومة الشمال في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب قد استخدما الدين كأداة خطابية استقطابية، تؤكد دوما على الواجب الديني (على كل فرد) من أجل تعبئة الدعم الشعبي للحرب، ولتقديم رؤاهم السياسية المتنافسة للمستقبل. وبقي الآن علينا، بعد تحقيق حل الصراع بقيام دولتين منفصلتين، أن ننتظر ونرى أن كانت أي من الحكومتين ستتخطيان أنموذج الوطنية / القومية العرقية الدينية، بنزعاته الإقصائية وفرضه للتجانس. ولا شك أن استمرار النزاع في دارفور يوضح – بصورة مأساوية – أن مثل ذلك الأنموذج ما زال مستمرا في حالة الشمال (2). ومع استلام الحركة الشعبية لتحرير السودان لمقاليد السلطة في الجنوب، وانشغالها بتصريف أعمال الحكم اليومية كدولة مستقلة، سوف يعتمد الحكم على نجاحها وشرعيتها على قدرتها لكبح جماح الفساد ومقاومته، وتقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، وتحسين البنية التحتية للبلاد، وموازنة المجموعات القبلية المتنافسة ومصالحها. وينبغي على الصفوة الحاكمة بالجنوب تحاشي إغراء استخدام القوة العسكرية ضد منافسيها السياسيين. ولا يمكن للحركة الشعبية أن تزعم أن لها الحق الحصري في استخدام تعبير "تحرير السودان"، إذ أن رؤية السودان الجديد قد ولدت من رحم نضال سودانيين في مناطق مختلفة يدينون بديانات ومعتقدات متعددة، ولهم آراء تكونت وترعرعت في مهاجرهم حول العالم، من معسكرات اللاجئين في كينيا إلى مدن أمريكا. وإن كان لجنوب السودان أن يفلح، فعليه أن يتبنى رؤية تضمن لكل مواطنيها المشاركة – بصورة حرة – في الحياة المدنية. وتعكس تلك الرؤية الفترة الطويلة longue durée في تاريخ السودان التي تميزت في كثير من الحالات بتعايش كوزموبوليتانى (لا يشعر فيه المرء فيه بالغربة)، فيه تتقارب اللغات والأديان والثقافات". ***** ***** *****
إحالات مرجعية 1. عمدت إدارة الحكم الثنائي إلى إصدار ما عرف بـ "قانون المناطق المقفولة" والذي حددت بمقتضاه مناطق في السودان يُحرم على الأجانب والسودانيين دخولها أو الإقامة فيها دون تصريح رسمي. وشمل القانون 7 مناطق متفرقة من السودان هي دارفور وبحر الغزال ومنقلا والسوباط ومركز بيبور، وهي مناطق تقع في جنوب السودان، بالإضافة إلى مناطق في كردفان وجبال النوبة وشمال السودان. ومن مظاهر ذلك القانون حرمان السوداني الشمالي من إنشاء المدارس في الجنوب إذا سُمح له بالإقامة فيها، وإذا تزوج بامرأة جنوبية فلا يستطيع أخذ أطفاله معه عند عودته إلى شمال السودان (من كتاب "يقظة السودان: لإبراهيم أحمد العدوي"، 1979م، ص 64). انظر أيضا المقال المترجم في الرابط https://tinyurl.com/4prfay4m . 2. ربما كان هذا المقال قد كتب قبل اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان في أواخر عام 2013م، التي أوقعت آلاف الضحايا بين قتيل وجريح. أنظر "جنوب السودان: صراع بالسلاح على السلطة" في موقع الجزيرة للدراسات https://studies.aljazeera.net/ar/article/532 والمقال المنشور عن جنوب السودان في صحيفة القارديان على هذا الرابط: https://www.theguardian.com/world/2013/dec/23/south-sudan-state-that-fell-apart-in-a-week