الفصل الثامن من كتاب: “ما وراء السودان” (1/2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

 

الفصل الثامن من كتاب: "ما وراء السودان" (1/2)
Crime and Criminals الجريمة والمجرمون
Henry Cecil Jackson هنري سيسيل جاكسون
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة للفصل الثامن من كتاب "ما وراء السودان Beyond the Sudan"، للإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون. نشرت دار نشر ماكميلان الكتاب في لندن عام 1955م.
عمل جاكسون (1) في مجال الإدارة بالسودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب التي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرخ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد سبق لنا نشر ترجمة لفصل في هذا الكتاب، ومقتطفات من بعض كتب ومقالات مختلفة لهذا الإداري الكاتب.
لا تخلو بعض مقولات الكاتب في هذا الجزء من عنصرية وتعميم كاسح واِستِعلاَء مَعْهُود على "الأهالي"، وينبغي قراءة تلك المقولات في سياقها التاريخي والسياسي.
المترجم
********** *********
عند بداية التحاقي بالخدمة في القسم السياسي لحكومة السودان لم تكن هنالك إلا القليل من الجرائم الخطيرة بالسودان. وقد تكون المعرفة بالعقوبات القاسية التي كان يفرضها الحكم التركي السابق قد ردعت المجرمين المحتملين الذين سمعوا عنها. وكانت عقوبات عهد التركية تشمل خمسمائة جلدة بالسوط أو بالعصا، وقطع اليد أو الرجل عقابا على السرقة، أو الإجلاس على خَازُوق حتى الموت. غير أن السبب الأكثر احتمالا لندرة الجرائم بالسودان هو أن غالب السكان يعملون بالزراعة أو رعي الأبقار ويعيشون في مجتمعات صغيرة بقراهم، ولا تتوفر لديهم الفرص التي تتاح في المدن (لارتكاب الجرائم).
وكانت هنالك بالطبع الكثير من الصراعات القبلية التي كان السكان أنفسهم لا يرونها عملا خاطئا. وكانت الحكومة في بادئ أمرها عاجزةً عن منع تلك الصراعات التي اِنْدَلَعَتْ، ولم تكن تتدخل إلا عند وقوع هجوم دموي عنيف على قبيلة مسالمة كان فيه خطف للنساء والرقيق والماشية. وكانت هنالك بالسودان قلة قليلة جدا من المجرمين المحترفين، رغم أن قطاع الطرق كانوا يسببون الكثير من الضيق (للمواطنين). وكانت هنالك فرصا عديدة لحدوث مشاجرات تفضي لطعنات بالسكاكين أو لكسور في الجماجم، وتتطلب سجن من قاموا بها.
وكانت قلة الجرائم الخطيرة في المناطق التي عملت بها من حسن حظي، فقد كانت غالب مباني سجوننا مشيدة بالطين أو سيقان الذرة والحشائش، وهذه بالطبع ليست مناسبة لسجن عتاة المجرمين الخطرين. وعلى أية حال، لم نكن نملك الإمكانيات اللازمة لإيواء أعداد كبيرة من المساجين من أي صنف – على الرغم من فائدة تشغيلهم في تلك الأيام التي شح فيها المال. أما وقد بنيت الآن إصلاحية بالقرب من الخرطوم، فيجب الانتباه إلى أنها تستقبل الأحداث الجانحين من المدن الكبرى، وليس من القرى.
وهنالك الكثير من الجنح والجرائم التي تكون قد اُرْتُكِبَتْ دون أن يكون لنا بها علم. وكنا نحث الشيوخ على حفظ الأمن والنظام في أوساط أتباعهم، وأن يفصلوا بأنفسهم في الجنح الصغيرة، كما كان ذلك دأبهم منذ أجيال مضت.
وكان للعادات والمحرَّمات (التابوهات) القبلية كبير الأثر في منع العديد من أشكال السلوك غير الاجتماعي عند الأفراد. ولم نكن نرغب في إزالة أو منع تلك العادات والمحرَّمات من دون إيجاد بدائل أفضل منها. وإلى حين نبدأ في فهم وجهة النظر السودانية، كنا نرى في كثير من الحالات أنه من الحكمة أن نحيل القضايا إلى المحاكم القبلية ليتم الفصل فيها بموجب القوانين الأهلية. وتم الاعتراف بالفعل بالمحاكم الأهلية لتعمل جنبا إلى جنب مع محاكم العدل الحكومية، حيث تعمل تلك المحاكم الأهلية بحسب الممارسات (القانونية) القبلية، ولكنها تخضع للسلطات العامة الممنوحة لمسؤول بريطاني. وكثيرا ما أنقذت المحاكم الأهلية المفتش البريطاني من مواقف صَعْبة ومَآزِق كان يمكن أن تضع حكمة (سيدنا) سليمان في امتحان عسير. وبالإضافة لذلك يجب تذكر أن حكما يصدر عن محكمة ما قد يراه الرجل الغربي حكما منصفا وفي غاية المعقولية، بيد أن ذلك الحكم قد يكون عند العربي أو الجنوبي السوداني حكما ظالما. وسأضرب فيما يلي مثلا بقضية حكمت فيها محكمة أهلية بحكم رأته عادلا ومعقولا، ولا أعتقد أن أي رجل إنجليزي كان يمكن له أن يصدر مثل ذلك الحكم:
دخل رجل مغامر من النوير منطقة (معادية) للدينكا، وقام – دون عون من أحد – بسرقة أربعين رأسا من أبقارهم. وقدم الدينكا شكواهم للشرطة التي سارعت بالقبض على ذلك الرجل والتحفظ على الأبقار المسروقة. واستدعت المحكمة الأهلية ممثلين للقبيلتين، وعقدت جلستها تحت ظل شجرة اسمها العلمي Kigelia aethiopica (لعل الاسم العربي هو المشطورة أو الكيجالية الأثيوبية. المترجم)، ولها ثمار ثقيلة الوزن تتدلى من أغصانها طول الواحدة منها نحو قدمين. جلس عدد كبير من رجال الدينكا والنوير القرفصاء تحت ظل تلك الشجرة ذات الثمار الضخمة. وكان سقوط أي ثمرة منها على رأس أي من الحاضرين المحتشدين تحت الشجرة سيحدث إصابة بالغة. ونسبة لأن ثمار تلك الشجرة كانت تشبه شكل النقانق (السُّجُق)، فقد عُرفت الشجرة بـ "شجرة النقانق"، رغم أني كنت أرى أن تأرجح تلك الثمار الثقيلة المتدلية من الأغصان مع هبات النسيم يذكرني ببندول (رقاص) ساعة جدي. والعرب أوسع خيالا مني، لذا أطلقوا على تلك الشجرة (أبو شطور)، لأنها تشبه – في نظرهم – ثَدِيَيْن متدليين لامرأة طاعنة في السن.
وفي لحظة تضحية بالنفس أعتقد المفتش البريطاني (ممثل الحكومة) أنه من الحكمة ألا يعيق بوجوده مجريات تلك المحاكمة، فتوَلَّى إِلَى ظِّلِّ ضَئِيل وفرته قطعة قماش رفعت على أسنة الرماح. وكان عزاؤه أن تضحيته تلك التي فرضها على نفسه لن تدوم طويلا، إذ أن القضية واضحة وضوح الشمس، وليس هناك ما يشكك في وقائعها، بل إن المتهم نفسه اعترف بجرمه. وحتى لو وضعنا اعتبارا لحقيقة أن للأفارقة غرام بالجدال في أي قضية بإسهاب عجيب، فلم يكن من المنتظر أن تمتد تلك المحاكمة لأكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات. وطالت الجلسة، وظل المفتش يبعث بالرسل كي يأتوه بخبر سير المحاكمة والتقدم الذي بلغته. وسُر عند سماعه لأن المفاوضات والمناقشات تسير بصورة ممتازة، وهنأ نفسه على أنه لم يحدث أي شجار ولم ترق نقطة دم واحدة حتى الآن. وفي المحكمة رد المتهم الذي وجدت عنده الأبقار المسروقة على اتهامه بالسرقة ودافع عن نفسه بالقول بأن الحكومة (عديمة الخيال) قد منعت الإغارة على الآخرين وسلبهم ممتلكاتهم، وهي رياضة مبجلة تليدة عنده، وبذا لم يبق للرجل الشجاع صاحب الروح العالية سوى أن يأخذ أبقار أعدائه.
وعند المغيب تم تأجيل المحكمة لليوم التالي، حيث كانت المناقشات قد حمي وطيسها أكثر من ذي قبل. وظل المفتش يتلقى بوتيرة أسرع وقائع ما يجري في المحاكمة. ولم يفرغ رجال النوير والدينكا الذين شهدوا المحاكمة - كشهود وهيئة محلفين وقاضٍ - من الجدال حتى نهاية اليوم الثالث، عندما جاء كل أولئك للمفتش ليطلبوا منه الموافقة على ما توصلوا إليه من حكم في القضية.
المفتش: "هل فرغتم من المداولات؟"
المتحدث باسم المحكمة: "نعم. انتهينا من التداول."
المفتش: "هل وجدتم المتهم (بينق) مذنبا أم غير مذنب؟"
المتحدث: "بينق رجل سيء".
المفتش: "هل اعترف بسرقة الأبقار؟"
المتحدث: "نعم".
المفتش: "وهل اتفقتم على العقوبة؟"
المتحدث: "نعم اتفقنا."
المفتش: "وماذا قررتم؟"
المتحدث: "حسنا. الأمر كما يلي يا صاحب السعادة. نعتقد أن بينق رجل سيء."
المفتش: "نعم، هذا صحيح؟"
المتحدث: "لقد سرق أربعين من البقر."
المفتش: "نعم. لقد اتفقنا على ذلك."
المتحدث: "كانت تلك السرقة ستؤدي لحرب بين القبيلتين".
المفتش: "هذا صحيح جدا."
المتحدث: "لذا يجب أن يعاقب بينق عقوبة صارمة."
المفتش: "بالضبط" (قالها المفتش وهو يفكر في مدة السجن: ستة أشهر أم سبع سنين؟)
المتحدث: "حسنا يا جناب المفتش. لقد بحثنا القضية بدقة وتفصيل شديدين. وخلصنا إلى أن بينق رجل سيء.، فقد سرق أربعين من الماشية. وكان يمكن لفعلته هذا أن تسبب حربا بين القبيلتين. لذا يجب أن يعاقب بصرامة."
المفتش: "نعم. لقد قلت هذا من قبل. ما هو قراركم بخصوص عقوبته؟"
المتحدث: "حسنا يا جناب المفتش. لقد وجدنا أن بينق لابد أنه قد أخذ وقتا طويلا في التخطيط لهذه السرقة، وعانى صعوبات عديدة قبل أن يقبض على البقر. وبالطبع هذه سرقة سيئة. لقد فكرنا في المشقة التي لقيها بينق فيها. ولكن، نسبة لأنه عمل سيء، فقد قررنا أن بينق لا يمكنه الاحتفاظ لنفسه إلا بثور واحد مما سرقه، ويجب عليه إعادة الماشية الباقية لصاحبها."
*****
يفضل السودانيون في غالب الحالات تسوية قضاياهم دون اللجوء إلى المحاكم، والقيام ما يُعرف بـ "الصلح". والتقاضي بالنسبة لهم مثل لعبة الكريكت أو كرة القدم للرجل الإنجليزي. وعندهم أن التقاضي تحت ظل شجرة القرية (أو اللعب في ملعبهم الخاص) أكثر جلبا للرضا من اللعب في "ملعب الخصم" أي في رئاسة المنطقة، حيث يكون "الحكم" شخصا غير محايد بصورة تدعو للقلق، وحيث لا يوجد إلا القليل من أنصارهم لتشجيعهم.
وفي الأيام الباكرة لإدارتنا كنا نعين مترجما للمتهم في القضايا التي قد تصل عقوبتها للإعدام. غير أنه وُجد لاحقا أنه من الأفضل عدم الاستعانة بمترجم رسمي إذا كان ذلك ممكنا. فقد اكتشفنا أن المترجم (وهو يجهل الأسئلة الإيحائية) قلما يترجم بدقة كلمات القاضي أو إجابات السجين. وعلى الرغم من أن المفتشين يتحدثون اللغة العربية، فقد صعب عليهم، للأسف، أن يتكلموا حتى بالقليل من اللغات المستخدمة في الجنوب، إلا إذا قضوا فيه سنوات طويلة. وكان المترجمون في الجنوب أشد جهلا من نظرائهم في الشمال. وترأست في إحدى المرات محكمة كان المتهم فيها من قبيلة الزاندي، وكانت كلماته تترجم إلى لغة البونقو، ومِنْ ثَمَّ إلى لغة عربية لم أفهمها إلا بالكاد، وأقوم بتسجيل كلماته باللغة الإنجليزية. ذكرني ذلك بلعبة (جماعية) تلعب في الصالات المغلقة تسمى "الفضيحة الروسية"، وفيها يقوم الشخص الأول بالهمس بكلمات برقية في أذن جاره، ويقوم الجار بالهمس بكلمات ما سمعه في أذن جاره الآخر وهكذا. ويقوم آخر مشترك في اللعبة بقراءة نص البرقية الأصلي ومقارنته بما سمعه. وتكون كلمات البرقية الأصلية مختلفة جدا عما سمعه. وهذا كله بلغة واحدة. ولك أن تتخيل التغييرات التي تحيق بكلمات تنقل من لغة إلى لغات أخرى ثلاث أو أربع مرات، عن طريق أناس لا يعرفون غير لغة أو لغتين من اللغات المستخدمة في القضية. ولا بد أن الشك المعقول لدى القاضي في وصوله للحقيقة (قد) يؤدي إلى إفلات مجرم من العقاب الذي يستحقه.
وإذا كان من العسير على رجل أوروبي أن يفهم هذه اللغات العديدة، فإن التكلم بها لا بد أنه أشد عسرا، إذ أن الرجل الأوربي يعاني – على وجه العموم - من امتلاكه لأسنان صحيحة في كل فمه (2). ولا شك في أن العادة التقليدية التي تُخْلَعُ فيها بعض الأسنان تترك أثرا في طَرِيقَةُ الكلام / الإلْقاء، وما يقوله العرب عن أن بعض القبائل التي تمتلك الأبقار ويمارس أفرادها عادة اقتلاع القواطع السفلية، وبعض القبائل التي تمارس تقاليد آكلي لحوم البشر بشحذ أسنانهم بمَبارِد هم أقدر على افتراس اللحم البشري. وكان هناك باشمفتش في إحدى المناطق بالجنوب قد حظي بتقدير كبير إذ أنه لم يكن عنده – مثل غالبيتنا – أسنانا طبيعية، وكان يعتمد على بديل ممتاز وفره له طبيب الأسنان. غير أن ذلك الباشمفتش لقي الكثير من العنت مع طبيب مشعوذ (witch doctor) كان يكثر من الجدال معه. ولما وجد الباشمفتش أنه من المستحيل الوصول معه لاتفاق خلع فجأة أسنانه الاصطناعية وقذف بها في وجه ذلك الطبيب المشعوذ وقال له: "خذ هذه! اِذْهَبْ الآن وأَطِعْ أوامري في المستقبل. وإن لم تفعل ستحس بأن هناك شيئا ما يَقْرِض في جسدك بالليل، وستدرك حينها أن أسناني هي التي تعضك". وفي بلد تكثر فيه الحشرات بصورة كبيرة، كلها – بحسب مقولة مسؤول بريطاني ممتعض – تعض أو تلدغ، فإن ذلك الباشمفتش لا بد أنه قد رأى أن تهديده للطبيب المشعوذ لن يخيب. وعلى كل حال، توقف ذلك الطبيب المشعوذ بعد ذلك عن إزعاج الباشمفتش.
ويحكى أن قصة مماثلة حدثت للجنرال ليوتيه Lyautey في شمال أفريقيا وهو يواجه مجموعة زعماء القبائل المعادين. قام ذلك الجنرال بخلع عينه الزجاجية من محْجرها وقذف بها إلى أعلى، ثم التقطها وأعادها إلى مكانها. وكان لتلك العين الاصطناعية نفس فعالية أسنان الباشمفتش الاصطناعية، فقد تفرق أولئك الزعماء من حوله وهم يحسون بالقهر، وتوقفوا من تلك الساعة عن إظهار أي سلوك معادٍ للجنرال.
وعلى الرغم من الدقة والحرص (الذي يبذله القاضي) في سماع الدعوى المقامة ضد أي متهم، إلا أن بعض الكلمات قد تَنِدُّ عنه، ويبدي حينها المتهم عظيم استيائه من الحكم الذي يصدر ضده، ويعده عقابا ظالما. في عام 1926م جاء لمنزلي بائع حُلي عاجية، وأبدى لي ودا كبيرا. لم أعرفه، ولكني ما أردت أن أجرح مشاعره إن أدرك أني نسيته، فأعملت ذهني كي أتذكر اسمه. غير أنه – لحسن الحظ – أنقذني عندما قال: "لا أزال أذكر اليوم الذي أمرت فيه بجلدي بأم درمان عندما لم أستطع أن أحضر لك بعض طيور القطا sandgrouse. أتذكر ذلك؟" بالتأكيد لم أكن أذكر شيئا عن ذلك. لا بد أنه ارتكب مخالفة ما في اليوم الذي قد يكون قد فشل فيه في اكتشاف مكان شرب القطا. وعلى كل حال، ورغما عن أنه ربما يكون قد جلد لسبب غير كافٍ في نظره، فقد بدا أنه لا يحمل أي ضغينة ضدي، أو ربما يكون قد أعتقد أن الفشل في العثور على القطا لرجل إنجليزي "جريمة" أخطر من نهب مدخرات امرأة فقيرة طاعنة في السن. فالعربي لا يغضب لحكم محكمة ضده إن كانت الدعوى ضده قد تمت دراستها وفحصها مطولا، وإن سمح للشاكي أن يعبر عن شكواه. ومنطقه في الرضا بالحكم هو أنه قد فعل ما في وسعه لإثبات براءته، وإن كان الله قد أعمى القاضي (عن الحكم الصحيح)، فمن له الاحتجاج على حكمة (وإرادة) المولى؟ والحق يقال، فإن غالب سكان السودان الشمالي يرضون بما يصدر عليهم من أحكام. وحدث ذات مرة أن حكمت في واد مدني على رجل ضرب زوجته. لم ينكر الرجل التهمة، ولما سألته عن سبب ضربه لها أجاب بأنه لا يحب وجهها. قلت له: "هذا سبب جيد"، فأجابني بابتسامة ملأت وجهه، ولا بد أنه أحس بأنه أمام قاضٍ متفهم ومتعاطف معه. قلت له: "وأنا أيضا في الواقع لا أحب وجهك. 15 جلدة!”. ضحك المتهم من أعماقه لقلبي الطاولة عليه، وعندها خفضت الحكم إلى خمس جلدات. ونظرت من خلال النافذة للرجل والحكم ينفذ عليه، ثم يتجه بعد ذلك في رفقة زوجته للسوق متشابكي الأصبعين الصغيرين، وهما يضحكان في مرح، دلالة على عاطفة متجددة بينهما.
غير أن عقلية بعض القبائل الجنوبية مختلفة، وفي حالتهم فإن الحكم في غير صالحهم يثير عندهم شعورا بالظلم. كان الباشمفتش النقيب إستبص Stubbs قد أصدر ذات مرة حكما بالسجن على واحد من أهالي "بحر الغزال". وبعد انقضاء محكوميته، تحصل الرجل على بندقية وأختبأ عند المساء في مكان قريب من الباشمفتش وهو جالس يقرأ في كتاب، واضعا قدميه على "طاولة معسكر" صغيرة، وبيده مشروبه المسائي. تقدم الرجل حتى صار على بعد ياردات قليلة من الباشمفتش وأطلق رصاصة عليه. لم تصب الرصاصة إلا قدم الباشمفتش، ولكنها لم تسبب له أذية كبيرة، فقد أصابت الرصاصة باطن حذائه (العسكري) الثقيل وحمته من ضرر بالغ كان يمكن أن يصيبه. وواضح في هذه الحالة ما اِنْتَوَى الرجل فعله، وأعلنه (لمن حوله؟ المترجم) بصورة عامة، وهو قتل الرجل الذي حكم عليه. وبهذا يكون قد أرعب الناس والشرطة المحلية لدرجة أن واحدا منهم لم يجد في نفسه الشجاعة ليحذر الباشمفتش منه. بل أغلق رجال الشرطة أبواب بيوتهم عليهم حتى يوفروا لأنفسهم ذريعة أو "دفع بالغيبة alibi" عند حدوث محاولة الاعتداء على حياة إستبص.
وكان النقيب ريتشاردز Richards قبل نحو 25 سنة (أي في حوالي عام 1930م أو نحو ذلك. المترجم) قد حكم على دينكاوي في قضية تتعلق ببقرة. وأتى الحكم في غير صالح الرجل فغضب غضبا شديدا وصمم على الانتقام. وكان ريتشاردز (الذي كان في مأمورية طواف على منطقة بور في موسم الجفاف) ينام في الهواء الطلق خارج خيمته. وكانت البيجاما التي أحضرها من بلاده قد بليت، وعهد إلى تَرزيّ محلي غير ماهر بخياطة بيجامة له – وكان ذلك، للغرابة، هو الذي أنقذ حياته. كان جيب البيجاما المحلية صغيرا جدا، لدرجة أنه لم يكن يستطيع إدخال ساعته ومنديله فيه إلا بحشرهما معا بقوة. وفي الليل تسلل الدينكاوي نحو سرير النقيب وقذفه بحربته فاخترقت الحربة نملية البعوض واصطدمت بالساعة والمنديل المحشورين بالقرب من القلب دون أن تحدث جرحا خطيرا. تم اعتقال المهاجم وتقديمه للمحاكمة. وحكم عليه الرائد كورت Court بالسجن. ويبدو أن فترة السجن تلك أصلحت من الرجل، إذ أنه بعد خروجه من السجن سار مسافة طويلة ليحي النقيب ريتشاردز وليخبره بمدى سعادته لرؤيته وهو في صحة جيدة!
غير أن حالات الانتقام تلك لم تكن شائعة، وأعد غيابها دلالة على إيمان (الأهالي) بعدالة الإدارة البريطانية، رغم أن تلك العدالة قد تبدو في بعض مظاهرها غريبة على شعب بدائي.
وكان فرض عقوبات مناسبة، تكون في ذات الوقت رادعة، أمرا عسيرا. فقد كان بعض الجنوبيين يرحبون بعقوبة السجن، إذ كانوا يجدون فيه اللحم وغيره من الأطعمة اللذيذة التي لم يعتادوا عليها من قبل. بل ويزداد وزنهم عند خروجهم من السجن، ويخرجون منه على مضض (3). وهم في هذا يشبهون اثنين من المتشردين في بلادنا كانا يقوما بانتظام في نهاية شهر نوفمبر من كل عام بالتحرك شمالا من ديفون وكورنوول إلى منطقة قريبة من بيرمنجهام، التي كانا يعلمان – من تجارب سابقة – أن سجنها يقدم في عيد الميلاد طعاما ممتازا. لذا كانا يرتكبان في منتصف ديسمبر مخالفة ما (كما أذكر كانا يقذفان نوافذ مركز الشرطة بالطوب) ويرفضان دفع الغرامة ليتم سجنهما لنحو عشرة أيام. وهي فرصة سانحة لهما ليقضيا عيد ميلاد سعيد ودافئ في سجنهما المعتاد.
وعلى الرغم من أننا كنا نقضي بأحكام بمقدورها ردع الذين يفكرون في ارتكاب نفس الجرم، إلا أننا لم نكن متشددين أو متزمتين في تفسيرنا للقانون. فعند القبائل الرعوية يسبب غياب رب الأسرة عند سجنه ارتباكا شديدا في اقتصاد العائلة، وعقابا لأفرادها الأبرياء. ولهذا السبب، عندما يرتكب العرب المُتَرَحّلون أو رجال الشلك جريمة ما، نقوم بمعاقبتهم بالضرب بالسياط عوضا عن سجنهم.
**** ******** ********
إحالات مرجعية
1. للمزيد عن الكاتب يمكن مراجعة مقال أحمد إبراهيم أبو شوك " السودانيون المقاتلون بين جاكسون وجكسا" في هذا الرابط https://www.sudaress.com/sudanile/122007
2. يشير الكاتب هنا إلى عادة خلع بعض الأسنان عند البلوغ في جنوب السودان. يمكن النظر في مقالين مترجمين هما "اقتلاع الأسنان في جنوب السودان" و"حول ترميم الأسنان عند شباب جنوب السودان" عما قام به أطباء الأسنان في ولاية نبراسكا من عمليات لتركيب أسنان صناعية لمن خلعت أسنانهم من السودانيين المهاجرين في تلك الولاية الأمريكية. https://bit.ly/3dVdhG9
3. يمكن قراءة مقالين مترجمين عن "السجون في السودان" و"الأيديولوجيات الملتبسة والتقييدات في السجون السودانية في عهد الاستعمار" في الرابطين: https://www.sudaress.com/alrakoba/1069370 https://www.sudaress.com/sudanile/104168

 

 

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء