نهب الذهب الدموي في السودان (2)

 


 

 

أولا:
الذهب في السودان : لمحة تاريخية
1- الذهب في السودان القديم:
معلوم أنه منذ أول حضارة سودانية ( حضارة المجموعة "أ"، 2400- 720 ق,م) اهتم قدماء المصريين بأراضي النوبة السفلي بهدف تأمين حدودهم الجنوبية ، وتأمين التجارة وجلب المعادن الثمينة والعبيد وقطع الجرانيبت، ولعب السودان دورا أساسيا في حياة مصر الاقتصادية في الدولة المصرية الحديثة التي بدأت بعد احتلال تحتمس الثالث للسودان ، فتلاحظ أن الذهب كان أهم محصول البلاد ( للمزيد من التفاصيل ، راجع تاج السر عثمان الحاج ، التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي ، مركز محمد عمر بشير 2006م، ص 3- 4)، وكان السودانيون يقاومون الاحتلال المصري ونهب ثروات البلاد..
بالتالي عُرف السودان القديم بـ«بلاد النوبة»، ونوبة مفردة "هيروغليفية" تعني الذهب، أي «أرض الذهب»، وهذا الصيت شجع الغزاة على مر التاريخ لمحاولة غزو المنطقة للحصول على ذهبها الوفير، الذي تحدثت عنه الأساطير الفرعونية. السودان عرف استخراج الذهب منذ العهد الفرعوني، ومن أشهر المناطق التاريخية في التنقيب عن الذهب كانت وادي العلاقي التي تقع علي بعد 5 كلم من مثلث حلايب السوداني الواقع حاليا تحت الاحتلال المصري..
معلوم أن الذهب شكل من أشكال الثروة والاستثمار حيث يعتبر عملة معدنية لا تتأثرر بعملة أي دولة ، وأن التعدين في التاريخ القديم والوسيط كان عشوائياً، وأبانت تقارير اقتصادية بأن الدراسات والأبحاث الجيولوجية أثبتت وجود الذهب في مناطق عديدة تشمل جبال البحر الأحمر( مثل منطقة الارياب.الخ) وجنوب النيل الأرزق وشمال السودان وشمال وجنوب كردفان وجنوب دارفور وفي مناطق متفرقة من البلاد.
2- فترة ممالك النوبة المسيحية (500م – 1500م)
" واصل النوبة في هذه الفترة تعدين الحديد في مروي قرب كبوشية ، يقول المؤرخ ابن حوقل : وبين علوة وبين الأمة المعروفة بالجبالين مفازة ذات رمال الي بلد أمقل ، وهي ناحية ذات قري لا تحصي وأمم مختلفة ولغات كثيرة متباينة لا يحاط بها يُعرفون بأحدين ، وفيهم معادن الذهب والتبر الخالص متصلين بالمغرب"..
كما عرف النوبة الذهب وكانوا يستخلصونه من المواقع التالية:
- من مكان اسمه "شنكة" قرب "شتقير" أي قرب ابي حمد ، يقول الاسواني في وصف بعض المواقع في وادي النيل اعلا دنقلا ، وفي الناحية الواقعة ما بين الدبة وابي حمد ، ويذكر وجود الذهب في موضع (شنكة) قرب شنقير أي قرب ابي حمد ، ومن هناك تتشعب بعض الطرق الي سواكن وباضع (أي مصوع) وجزائر دهلك في البحر الحامر ( تاج السر عثمان الحاج : تاريخ النوبة الاقتصادي الاجتماعي ، دار عزة 2003 ، ص 52- 53).
3- في فترة مملكة الفونج :
استمر تعدين الذهب ، ويبدو أن الإنتاج كان وفيرا ، ويتم تصدير الذهب الذي كان يحتكره السلطان.
في مملكة الفونج كان الطابع الأساسي للاستيراد في السلع الكمالية وكان السلطان يتحكم في الجزء الأساسي من المعروض من سلعتي(الذهب والرقيق) ، أ ي أهم سلعتين من صادرات دولة الفونج ، أي أنه كان للسلطان الدور المركزي في التجارة الخارجية للملكة .
وتشير دراسات أوفاهي وأسبولدنق إلى أن الكميات الكبيرة من الذهب المستخرج كانت تؤول تلقائياً إلى ملكية السلطان بينما تذهب الكميات الصغيرة إلى ملكية الدولة ، وبالنسبة للرقيق فالسلطان له الحق في إدارة ورعاية حملات الرقيق السنوية في مناطق جبال النوبة والنيل الأبيض وجنوب الفونج وبعد نهاية الحملة يستحوذ السلطان على نصف مجموعات الرقيق التي تم الحصول عليها أما النصف الثاني فيقسم على المشاركين في الحملة وبذلك يتضح أن السلطان كان يتحكم في سلع التصدير الرئيسية وعلى رأسها الذهب والرقيق ( للمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج ، لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي ، مركز محمد عمر بشير، 2004) .
وكانت العملة تستند الي أوقية الذهب كعملة لتسهيل التبادل والتي كان يتحكم فيها السلطان ، ومع تطور الرأسمالية التجارية ونموها دخلت في صراع مع السلطان الذي كان يحتكر اصدار العملة ( أى يحتكر تجارة الذهب ) ، كما كان يحتكر تجارة الرقيق ، وظهرت عملات أجنبية أخري أضعفت من هيمنة السلطان علي التجارة.
وكانت البدايات الأولي لاصدار العملة المحلية في فترة الفونج عندما كان النظام التجاري يستند الى أوقية الذهب كعملة لتسهيل التبادل ، وقيمة أوقية الذهب يمكن التحكم فيها بواسطة السلطان وذلك لأنه كان يسيطر على إنتاج الذهب في البلاد ولذلك فان التحكم في تدفق كميات الذهب من الخزينة السلطانية حسب طلب السوق يمكن السلطان من التحكم بكفاءة في قيمة أوقية الذهب فقيمة الأوقية تظل مرتفعة بالمقارنة مع معظم السلع التجارية في سنار والتداول الفعلي للذهب ينحصر في المبادلات الكبيرة نسبيا ( أوفاهي وسبولدنق : 1974 ) .
وبالنسبة للوضع الاقتصادي العام ، فان الوظيفة الأكبر أهمية للذهب تتمثل تقريبا في اعتباره عملة وهمية أو كمقياس عام للسلع المختلفة أثناء عملية التبادل اضافة للذهب كان التعامل أحيانا يتم بقطع الدمور والريال وفي أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن الثامن عشر ظهرت عملات أخري داخل سلطنة الفونج مثل الدولار الاسباني مما قوض نفوذ السلطان الذي لم يعد قادرا علي التحكم في الأسعار عن طريق التحكم في كميات الذهب التي تصل الأسواق ( تاج السر عثمان الحاج ، لمحات ، مرجع سابق).
4- فترة الحكم التركي – المصري:
معلوم أن من ضمن احتلال محمد علي باشا للسودان : المال (الذهب) والعبيد وتأمين التجارة . الخ ، أي أن احتلال السودان عام 1821 م ، كان في إطار استراتيجية محمد علي باشا باعتباره أحد مصادر التراكم المالي لتحقيق النهضة الصناعية والزراعية وبناء الجيش العصري وبناء دولة عصرية في مصر( تاج السر عثمان، التاريخ الاجتماعي لفترة الحكم التركي 2006 ، ص 5-6).
وكان من أهداف محمد علي باشا الأساسية لاحتلال السودان كما أشرنا سابقا المال ( البحث عن الذهب والمعادن الثمينة)، وبُذلت جهود لاستخراج الذهب من فازوغلي وجبل شيبون ، رغم المصاعب التي واجهتها بعثات التنقيب عن الذهب مثل هجوم الأهالي ومواطني مناطق الذهب ضد هؤلاء الأجانب وعدم التعاون معهم ، اضافة للتكلفة العالية وقلة العائد (تاج السر عثمان ، المرجع السابق، 41).
رغم المصاعب التي واجهت الحملة في نهب الذهب ،لكن من الجانب الآخر فقد تم نهب ثروات البلاد من محاصيل نقدية وماشية ومعادن أخري ، وقدات بشرية ، وتمّ اعتصار المزارعين والمواطنين السودانيين وصغار الملاك في جمع عائد ضخم من الضرائب ، وحقق الاحتلال التركي ارباحا ضخمة من تلك الضرائب عوضته عن الذهب واكتنز بها الذهب والفضة ( تاج السر عثمان ، المرجع السابق ، ص 75).
5- فترة المهدية:
استمر إنتاج الذهب في هذه الفترة ، كما يتضح من العملة الذهبية ، فقد صدرت أول عملة في المهدية ذهبية ، لكن العملة في المهدية تأثرت باضطراب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتجارية ، ويبدو من اصدار أول عملة ذهبية في فترة المهدي أن النشاط التجاري كان منتعشا اضافة لوجود العملات الأجنبية ، ومنذ بداية عهد الخليفة الذي أصدر أول عملة فضية بدأت العملة تنخفض ، وبالتالي ترتفع الأسعار حتي أرغم الناس على قبول العملة النحاسية ، وكذلك انتشرت عمليات التزوير التي تلازم اصدار العملات في كل العالم ، وبالتالي تقلل من قيمتها أو تطرح فائضا منها يؤدي الي ارتفاع الأسعار . وكان هذا التدهور من مظاهر اضمحلال دولة المهدية حتي زوالها على يد قوات كتشنر، وجاءت فترة الحكم الانجليزي – المصري التي كان التركيز الاساسي فيها علي زراعة القطن كمحصول نقدي أو "الذهب الأبيض"،وقيام مشاريع القطن كما أشرنا سابقا، واستمر التعدين التقليدي للذهب وغيره ، ولكن التنقيب عن الذهب والمعادن لم ينشط بشكل كبير الا بعد الاستقلال.
6- التنقيب عن الذهب بعد الاستقلال:
في الفترة بعد الاستقلال مباشرة (1956- 1969) ، كانت صناعة التعدين تنمو بشكل ضعيف ، وكانت عرضة للكساد المستمر لحجم الإنتاج ، وبلغ حجم إنتاجها بالنسة لاجمالي الناتج القومي 2,% ، ولم يكن لها مؤسسات عامة ، ولم يمكن الوصول الي ما كان محددا لنمو إنتاج المعادن من خطة العشر سنوات ( 1961/62 -70/ 1971 )،
شهدت فترة الحكم العسكري الثاني (مايو 69 19 –أبريل 1985م) نشاطا مكثفا في مجال التنقيب عن المعادن وجرت دراسات ميدانية في العديد من مناطق السودان بحثا عن : الكروم والاسبتس في منطقتي جبال الاتقسنا وقلع النحل والذهب واليورانيوم في جبال النوبا وحفرة النحاس في غرب السسودان، بواسطة شركات عالمية متخصصة ، وقد اسفرت النتائج الأولية علي سبيل المثال :عن وجود كميات من خام الكروم تُقدر بحوالي 700 الف طن قامت بها حكومة جمهورية الصين الشعبية ( العرض الاقتصادي 78/ 1979م).
7- فترة انقلاب الانقاذ ( يونيو 1989- أبريل 2019):
لكن عملية الانتشار الواسع للتنقيب عن الذهب لم تتم الا في هذه الفترة ، وتحديدا بعد انفصال جنوب السودان .
فمنذ العام 2008 تقريباً، انتشر مئات الآلاف من المعدنين في صحاري ووديان وجبال وسهول السودان، وتزايد الرقم تدريجياً ليبلغ أكثر من مليوني معدن أهلي، يبحث عن "الذهب".. .
وسريعاً دوّن السودان اسمه بين المنتجين الكبار للذهب حول العالم، ليبلغ متوسط إنتاجه خلال سنوات قليلة أكثر بين "100- 250 طن " ( صحيفة الشرق الأوسط : 11 يناير 2020) ، وليحتل المركز الثاني بين الدول المنتجة للذهب في أفريقيا بعد دولة جنوب أفريقيا.
وأكد ملايين المعدنين أن وجود الذهب بكميات كبيرة،مما يجعل السودان بلدا ثريا، ودخلت الشركات الأجنبية والمحلية الكبيرة في إنتاج الذهب، وسريعاً أصبح السودان أحد المنتجين الرئيسيين للذهب في أفريقيا، و"خلال سنوات قليلة أصبح يحتل المركز الثاني بعد جنوب أفريقيا في إنتاج المعدن النفيس في القارة السمراء" ( الشرق الأوسط : 11 يناير 2020)..

alsirbabo@yahoo.co.uk
//////////////////////////

 

آراء