بشير عباس: رحل راهب الحقل الفني
صلاح شعيب
30 January, 2022
30 January, 2022
في التعاطي مع الغناء تختلف الأذواق. ولكن لا يختلف اثنان في أن الموسيقار بشير عباس يقف في مقدمة رموز الموسيقى السودانية. ولو كان القدرُ قد جعل منه ملحناً، ومغنياً، في آن واحد - مثلَ محمد وردي، ومحمد الأمين، وأبوعركي البخيت - لصار منافساً لهم في القمة، أو العكس. غير أن قدَرهَ أن يتقدّمَ الاوركسترا التي تدرّب عليها منذ الثالثِ من يوليو 1959، وذلك حينما أصبح سكرتيراً لأوركسترا الإذاعة، حيث آنذاك كان حلقةَ الوصل بين الفنانين وشعبة التسجيل.
والده، رحمه الله، والذي تسنم يوماً وظيفة صراف مركز الروصيرص في بداية الخمسينيات كان حميماً بطفله بشير الذي كان يثابرُ لإكمال مرحلة الكتاب. ولما كانتِ المدارسُ الوسطى قليلةً حينذاك قرر والدُه أنه سيقومُ باهدائه - إذا تفوقَ - شيئا ذا قيمة. وفعلاً تجاوز التلميذ النجيب المرحلةَ ثم يلتحقَ بمدرسة مدني الأهلية في الوقت الذي يمنحه الوالدُ «صفارةً» من الأبنوس شكّلت الأداةَ لمواصلةِ هذه العذوبة من الألحان، والتي أداها عبدُ العزيز محمد داؤود، وحسن عطية، والكابلي، وزيدان إبراهيم، والبلابل، وآخرون كثر . وبغير ذلك عُرف بتشذيبه لكثير من الألحان عبر ما كان يسمى «السمكرة الفنية» حيث يُعدل، ويقترحُ المقدماتِ الموسيقيةَ، ويضيف الى اللحنِ ، كما هو شأنُ لمساته الساحرةِ في مقدمةِ الطير المهاجر» وفي بعضِ الأناشيدِ الاكتوبريةِ التي غناها وردي.
ما قبلِ ذلك التعاونِ مع كل هذا الرهطِ من الفنانين جلس لأبنةِ عمِه وهي الراحلة أسماء حمز ة التي كانت أولَ ملحنةٍ سودانية، وتدرب على أياديها أسرارَ العودِ الذي كانت تُجيدُ العزف عليه، ولا يزالُ ذلك العودُ موجودا حتى الآن بمنزلِ الأسرةِ بالحلفايا. ولعل هذه الاسرةِ الفنية تمددت لتشملَ بعضَ المبدعين حيث من ضمنِ أعضائها صديقُنا الملحن والمغني ضياء الدين ميرغني الطاهر، وهو الناشط السياسي الذي ما بَرِح مؤمنا بفكر القومية العربية. وهناك زميلنُا رسامُ الكاريكاتير سامي المك كما أن أختاً لبشير تحفظُ المئاتِ من الأغاني التي تؤديها في احتفالات الأسرة.
وبرغمِ أن هناك ارتباطا يُصعبُ فكُه بين الأستاذ بشير عباس والبلابل اللائي اُكتشِفن بواسطته سوى أن للموسيقار العتيق حق َ الريادة في الموسيقى البحتة وكثيرون لا يعرفون أن بداية موهبته الحقيقية تفتقت من خلال النغمات الشجية التي ألفها قبل دخوله الإذاعة حيث قدّم مقطوعتي «أمي» و«نهر الجور» اللتين ثبتتا أقدامه. والواقع أن هذا الضرب من الإبداع برع فيه بشير عباس وساعدته امكاناتُه الخرافيةُ في التعامل مع العود وربما يضع الدارسون للموسيقى بشير عباس وبرعي محمد دفع الله ومحمد الأمين مِن أفضل مَن عزفوا العود في السودان وكذا أبوعركي البخيت الذي غطت اهتماماتُه بتقديم أعماله عبر الاوركسترا على إبراز قدراته في خفة ريشته التي تجري بين الأوتار وتستنطقُها فتوجدُ شلالاً من الانغام. وفي السنوات الأخيرة جاء المبدع عوض أحمودي ليخلق منزلته كعازفٍ ماهرٍ لا يقل شأناً عن كل الذين سبقوه في مضمارٍ فنيٍ يُصعبُ خوضُه..
تقف أعمال بشير الموسيقية كشواهدَ حيّةٍ على إبداعيتها العالية، وعلى الرغم من أن تواضع الاستاذ بشير الزائد في عدم تقديم نفسه كعازف عود على واحد من أولئك العمالقة الذين ذكرناهم إلا أن هناك تشابهاتٍ كبيرةً في تاريخه الفني مع برعي، فما دام الموسيقار صانع مقطوعة "فرحة شعب" قد خبأ معظم ألحانه في الصوت المتميّز لابي داؤود فإن اغلبَ الألحان التي قدمها بشير كانت من نصيب البلابل، وكلاهما اي برعي وبشير قادا الاوركسترا، وتفرغا ردحاً لفرقة الإذاعة والتي كان من الصعب الحصول على عضويتها.
كما أن الموسيقارين يمتلكان العشراتِ من المقطوعات الموسيقية التي كان البرامجيون يتناوبون في تقديمها في الإذاعة والتلفزيون. ولو أن هناك بعضَ الموسيقيينَ ممن يُقارنون بين الموهبتين الفطريتين للعازفين ويحاولون الانحيازَ لواحدةٍ دون أخرى فإننا نرى أن لكلِ منهما ميزاتٍ سواءٌ في مستوى الألحان التي أداها المطربون أو الأسلوب الذي به يحاول ايٌ من المبدِعين امتاعَ الجُمهور، والحقيقة أن المقارنة بين بشير وبرعي تبدو مثل المقارنةِ بين دورِ ابراهيم الكاشف وعثمان حسين في تطوير الغناء، أو بين دوري حسن عطية واحمد المصطفى الذي احبه بشير عباس هكذا:
على أنه برغم كل هذه الأعمال الموسيقية الشيقة فإننا وجدنا أن أمر الاهتمام بتطور الموسيقى البحتة في السودان لا يزال أمراً عصياً فمن جهة ان جُمهورَنا يفتقرُ الى الثقافة العالية التي بها يُقاربُ أهميةَ المؤلي فِ الموسيقي بالمغني وكثيراً ما انطلى الأمر على الدولة حيث تجدها تركزُ الاهتمام بالمغنيين وتُهملُ مبدعين صنعوا الفنان نفسه، ولولاهم لتوقفت عجلةُ التطورِ الفني. إلى ذلك فإن شركات الانتاج الفني لا تغامرُ بتقديم «إلبوم» يحوي أعمال الراحل برعي في محاولات تأكيداتها الاعلامية بأنها تسعى لتطوير الغناء وأخيراً فان صحافتنا الفنية ظلت تَرسخ تُرسخ الاهتمامَ بالمغني وفي ذلك تُهملُ بقية المبدعين المشكلين للأغنية، فلا يجد الشاعر تقديراً كما يجده فنان ناشئ لفت الانظار في شهور معدودات، والحال هكذا لا تهتم الصحافة بتتبع أخبار العازفين حتى ان رائدا مثل بدر التهامي وهو أولُ من عزفَ آلةَ الكمان قد ألم به المرض، ولم يلتفتُ إليه مسؤول ورحل بغصة في حلقه.
وقد ينبس قائل إنه سيأتي اليوم الذي ترتقي فيه عملية التلقي الموسيقي ومن ثم يجدُ موسيقارٌ باهر مثلَ بشير عباس مكاناً علياً يستحقه ووضعاً مادياً معتبراً قد يَفرِغُه للتأليف وإقامة مركز لتعليم العود وبذلِ معارفه للمهتمين بأن يقدّم وصاياه العشر حول كيفية استنباط اللحن الخالد، خصوصاً وأن الأغنية السودانية تعاني اليوم نضوباً خطيراً في الألحان واجتراراً للماضي الغنائي يهدد استمرارها كمعطى ثقاف
وظني الآخر أن غياب دور الملحن المحترف والذي كان يشغله ملحنون أمثال عبد الرحمن الريح وخليل أحمد وعبد الفتاح الله جابو وعلاء الدين حمزة والطاهر إبراهيم وحسن بابكر وعبد اللطيف الخضر وأسماء حمزة وبابا فزاري ويوسف السماني وسليمان أبوداؤود وفتحي المك وبدر الدين عجاج وعمر الشاعر والفاتح كسلاوي، هو السبب في هذا الضمور اللحني. فضلاً عن هذا فإن توفر موهبة الفنان/ الملحن في هذا الجيل أصبح من النوادر على الرغم من جمال الأصوات
صحيح أن الغربة قد أبعدت الموسيقار بشير عباس عقودا من مواصلة ما بدأه من إنتاج كثيف حتى منتصف الثمانينيات. ولكني أعتقد أن استقراره في البلد يعتبر عاملاً أساسياً لاستئناف تجربته اللحنية والموسيقية. وأن الظروف الآن تسمح له باختيار عازفين مهرة يشكلون فرقة ماسية تقدّم مقطوعاته بتوزيع جديد حتى يضاعف من جهد الذين حملوا مشعل الموسيقى البحتة، خصوصاً الموسيقار حافظ عبد الرحمن الذي حقق نجاحات داخلية وخارجية، من خلال عرض أعماله الموسيقية وتكوين جمهور معتبر بمشاركاته في المناسبات العامة وطرحه لـ«البومات» عدة وجدت رواجاً وفتحت مجالاً مشجعاً للموسيقى البحتة.
نامل ان تقوم الدولة بتكريم الموسيقار بشير دلالة على تكريمها لرواد الموسيقى واللحن ودلالة على تكريمها لها كرائد ثقافي واجتماعي. وفي هذا يمكن اعتبار دوره في الانطلاق بتجربة البلابل اسهاماً اجتماعياً في دفع نضالات المرأة السودانية وتفجير مواهبها في واقع لا تزال تعاني فيه من التهميش. ونتمنى ان تشارك في التكريم اتحاداتٌ وجمعياتٌ متعددة تعنى بأمر المرأة خصوصا ان للموسيقار بشير عباس استلهم أسرار حرفة الموسيقى من إمرأة وهي الأستاذة أسماء حمزة وكان وفياً وحفياً حين رد الجميل لنساء بلاده بأن قاد البلابل مفجراً لمكنون طاقاتِ هن الابداعية وجعل من هادية وامال وحياة طلسم اسماء لامعة عند تعداد مآثر المرأة السودانية في بيئة الفن أو الكفاح الاجتماعي.
وإذ يغدو من الأهم التوثيق اللائق لفنان رائد مثل بشير عباس في زمن التقنيات الصوتية وتطوّر تجربة التورزيع الاوركسترالي في السودان من خلال ذوق جديد لموسيقيين يمتازون برهافة الحس في إعطاء الآلات الموسيقية مكانها في بنية اللحن، فإننا نتوق لليوم الذي نجد فيه ألبومات خاصةً بالموسيقار. ونتوقع أن أعظم هدية يقدّمها للجمهور في يوم تكريمه بان يجعل انتاجه الموسيقي متوافراً وليس ذلك بالشيء البعيد المنال فالدولةُ يمكنها أن تسهم في تمويل هذا العمل ما دامت أرضية للنجاح في التوزيع قد تمهدت لمبدعين يقدمون الموسيقى البحتة.
رحم الله الأستاذ بشير عباس واسكنه فسيح الجنات.
والده، رحمه الله، والذي تسنم يوماً وظيفة صراف مركز الروصيرص في بداية الخمسينيات كان حميماً بطفله بشير الذي كان يثابرُ لإكمال مرحلة الكتاب. ولما كانتِ المدارسُ الوسطى قليلةً حينذاك قرر والدُه أنه سيقومُ باهدائه - إذا تفوقَ - شيئا ذا قيمة. وفعلاً تجاوز التلميذ النجيب المرحلةَ ثم يلتحقَ بمدرسة مدني الأهلية في الوقت الذي يمنحه الوالدُ «صفارةً» من الأبنوس شكّلت الأداةَ لمواصلةِ هذه العذوبة من الألحان، والتي أداها عبدُ العزيز محمد داؤود، وحسن عطية، والكابلي، وزيدان إبراهيم، والبلابل، وآخرون كثر . وبغير ذلك عُرف بتشذيبه لكثير من الألحان عبر ما كان يسمى «السمكرة الفنية» حيث يُعدل، ويقترحُ المقدماتِ الموسيقيةَ، ويضيف الى اللحنِ ، كما هو شأنُ لمساته الساحرةِ في مقدمةِ الطير المهاجر» وفي بعضِ الأناشيدِ الاكتوبريةِ التي غناها وردي.
ما قبلِ ذلك التعاونِ مع كل هذا الرهطِ من الفنانين جلس لأبنةِ عمِه وهي الراحلة أسماء حمز ة التي كانت أولَ ملحنةٍ سودانية، وتدرب على أياديها أسرارَ العودِ الذي كانت تُجيدُ العزف عليه، ولا يزالُ ذلك العودُ موجودا حتى الآن بمنزلِ الأسرةِ بالحلفايا. ولعل هذه الاسرةِ الفنية تمددت لتشملَ بعضَ المبدعين حيث من ضمنِ أعضائها صديقُنا الملحن والمغني ضياء الدين ميرغني الطاهر، وهو الناشط السياسي الذي ما بَرِح مؤمنا بفكر القومية العربية. وهناك زميلنُا رسامُ الكاريكاتير سامي المك كما أن أختاً لبشير تحفظُ المئاتِ من الأغاني التي تؤديها في احتفالات الأسرة.
وبرغمِ أن هناك ارتباطا يُصعبُ فكُه بين الأستاذ بشير عباس والبلابل اللائي اُكتشِفن بواسطته سوى أن للموسيقار العتيق حق َ الريادة في الموسيقى البحتة وكثيرون لا يعرفون أن بداية موهبته الحقيقية تفتقت من خلال النغمات الشجية التي ألفها قبل دخوله الإذاعة حيث قدّم مقطوعتي «أمي» و«نهر الجور» اللتين ثبتتا أقدامه. والواقع أن هذا الضرب من الإبداع برع فيه بشير عباس وساعدته امكاناتُه الخرافيةُ في التعامل مع العود وربما يضع الدارسون للموسيقى بشير عباس وبرعي محمد دفع الله ومحمد الأمين مِن أفضل مَن عزفوا العود في السودان وكذا أبوعركي البخيت الذي غطت اهتماماتُه بتقديم أعماله عبر الاوركسترا على إبراز قدراته في خفة ريشته التي تجري بين الأوتار وتستنطقُها فتوجدُ شلالاً من الانغام. وفي السنوات الأخيرة جاء المبدع عوض أحمودي ليخلق منزلته كعازفٍ ماهرٍ لا يقل شأناً عن كل الذين سبقوه في مضمارٍ فنيٍ يُصعبُ خوضُه..
تقف أعمال بشير الموسيقية كشواهدَ حيّةٍ على إبداعيتها العالية، وعلى الرغم من أن تواضع الاستاذ بشير الزائد في عدم تقديم نفسه كعازف عود على واحد من أولئك العمالقة الذين ذكرناهم إلا أن هناك تشابهاتٍ كبيرةً في تاريخه الفني مع برعي، فما دام الموسيقار صانع مقطوعة "فرحة شعب" قد خبأ معظم ألحانه في الصوت المتميّز لابي داؤود فإن اغلبَ الألحان التي قدمها بشير كانت من نصيب البلابل، وكلاهما اي برعي وبشير قادا الاوركسترا، وتفرغا ردحاً لفرقة الإذاعة والتي كان من الصعب الحصول على عضويتها.
كما أن الموسيقارين يمتلكان العشراتِ من المقطوعات الموسيقية التي كان البرامجيون يتناوبون في تقديمها في الإذاعة والتلفزيون. ولو أن هناك بعضَ الموسيقيينَ ممن يُقارنون بين الموهبتين الفطريتين للعازفين ويحاولون الانحيازَ لواحدةٍ دون أخرى فإننا نرى أن لكلِ منهما ميزاتٍ سواءٌ في مستوى الألحان التي أداها المطربون أو الأسلوب الذي به يحاول ايٌ من المبدِعين امتاعَ الجُمهور، والحقيقة أن المقارنة بين بشير وبرعي تبدو مثل المقارنةِ بين دورِ ابراهيم الكاشف وعثمان حسين في تطوير الغناء، أو بين دوري حسن عطية واحمد المصطفى الذي احبه بشير عباس هكذا:
على أنه برغم كل هذه الأعمال الموسيقية الشيقة فإننا وجدنا أن أمر الاهتمام بتطور الموسيقى البحتة في السودان لا يزال أمراً عصياً فمن جهة ان جُمهورَنا يفتقرُ الى الثقافة العالية التي بها يُقاربُ أهميةَ المؤلي فِ الموسيقي بالمغني وكثيراً ما انطلى الأمر على الدولة حيث تجدها تركزُ الاهتمام بالمغنيين وتُهملُ مبدعين صنعوا الفنان نفسه، ولولاهم لتوقفت عجلةُ التطورِ الفني. إلى ذلك فإن شركات الانتاج الفني لا تغامرُ بتقديم «إلبوم» يحوي أعمال الراحل برعي في محاولات تأكيداتها الاعلامية بأنها تسعى لتطوير الغناء وأخيراً فان صحافتنا الفنية ظلت تَرسخ تُرسخ الاهتمامَ بالمغني وفي ذلك تُهملُ بقية المبدعين المشكلين للأغنية، فلا يجد الشاعر تقديراً كما يجده فنان ناشئ لفت الانظار في شهور معدودات، والحال هكذا لا تهتم الصحافة بتتبع أخبار العازفين حتى ان رائدا مثل بدر التهامي وهو أولُ من عزفَ آلةَ الكمان قد ألم به المرض، ولم يلتفتُ إليه مسؤول ورحل بغصة في حلقه.
وقد ينبس قائل إنه سيأتي اليوم الذي ترتقي فيه عملية التلقي الموسيقي ومن ثم يجدُ موسيقارٌ باهر مثلَ بشير عباس مكاناً علياً يستحقه ووضعاً مادياً معتبراً قد يَفرِغُه للتأليف وإقامة مركز لتعليم العود وبذلِ معارفه للمهتمين بأن يقدّم وصاياه العشر حول كيفية استنباط اللحن الخالد، خصوصاً وأن الأغنية السودانية تعاني اليوم نضوباً خطيراً في الألحان واجتراراً للماضي الغنائي يهدد استمرارها كمعطى ثقاف
وظني الآخر أن غياب دور الملحن المحترف والذي كان يشغله ملحنون أمثال عبد الرحمن الريح وخليل أحمد وعبد الفتاح الله جابو وعلاء الدين حمزة والطاهر إبراهيم وحسن بابكر وعبد اللطيف الخضر وأسماء حمزة وبابا فزاري ويوسف السماني وسليمان أبوداؤود وفتحي المك وبدر الدين عجاج وعمر الشاعر والفاتح كسلاوي، هو السبب في هذا الضمور اللحني. فضلاً عن هذا فإن توفر موهبة الفنان/ الملحن في هذا الجيل أصبح من النوادر على الرغم من جمال الأصوات
صحيح أن الغربة قد أبعدت الموسيقار بشير عباس عقودا من مواصلة ما بدأه من إنتاج كثيف حتى منتصف الثمانينيات. ولكني أعتقد أن استقراره في البلد يعتبر عاملاً أساسياً لاستئناف تجربته اللحنية والموسيقية. وأن الظروف الآن تسمح له باختيار عازفين مهرة يشكلون فرقة ماسية تقدّم مقطوعاته بتوزيع جديد حتى يضاعف من جهد الذين حملوا مشعل الموسيقى البحتة، خصوصاً الموسيقار حافظ عبد الرحمن الذي حقق نجاحات داخلية وخارجية، من خلال عرض أعماله الموسيقية وتكوين جمهور معتبر بمشاركاته في المناسبات العامة وطرحه لـ«البومات» عدة وجدت رواجاً وفتحت مجالاً مشجعاً للموسيقى البحتة.
نامل ان تقوم الدولة بتكريم الموسيقار بشير دلالة على تكريمها لرواد الموسيقى واللحن ودلالة على تكريمها لها كرائد ثقافي واجتماعي. وفي هذا يمكن اعتبار دوره في الانطلاق بتجربة البلابل اسهاماً اجتماعياً في دفع نضالات المرأة السودانية وتفجير مواهبها في واقع لا تزال تعاني فيه من التهميش. ونتمنى ان تشارك في التكريم اتحاداتٌ وجمعياتٌ متعددة تعنى بأمر المرأة خصوصا ان للموسيقار بشير عباس استلهم أسرار حرفة الموسيقى من إمرأة وهي الأستاذة أسماء حمزة وكان وفياً وحفياً حين رد الجميل لنساء بلاده بأن قاد البلابل مفجراً لمكنون طاقاتِ هن الابداعية وجعل من هادية وامال وحياة طلسم اسماء لامعة عند تعداد مآثر المرأة السودانية في بيئة الفن أو الكفاح الاجتماعي.
وإذ يغدو من الأهم التوثيق اللائق لفنان رائد مثل بشير عباس في زمن التقنيات الصوتية وتطوّر تجربة التورزيع الاوركسترالي في السودان من خلال ذوق جديد لموسيقيين يمتازون برهافة الحس في إعطاء الآلات الموسيقية مكانها في بنية اللحن، فإننا نتوق لليوم الذي نجد فيه ألبومات خاصةً بالموسيقار. ونتوقع أن أعظم هدية يقدّمها للجمهور في يوم تكريمه بان يجعل انتاجه الموسيقي متوافراً وليس ذلك بالشيء البعيد المنال فالدولةُ يمكنها أن تسهم في تمويل هذا العمل ما دامت أرضية للنجاح في التوزيع قد تمهدت لمبدعين يقدمون الموسيقى البحتة.
رحم الله الأستاذ بشير عباس واسكنه فسيح الجنات.