أما آن للمديوكرز “متوسطي المواهب والقدرات” والانتهازيين أن يتواروا عن المشهد السياسي السوداني؟ 

 


 

 

من "إنجازات" الحكومة الانتقالية: العودة لأحضان المجتمع الدولي – أما آن للمديوكرز "متوسطي المواهب والقدرات" والانتهازيين أن يتواروا عن المشهد السياسي السوداني؟

الجزء الأول من ثلاثة أجزاء

حسام عثمان محجوب – 5 أبريل 2022


العودة لأحضان المجتمع الدولي، خلل الأولويات

منذ وقت مبكر في عمر حكومة الفترة الانتقالية، كانت العودة لأحضان المجتمع الدولي على رأس قائمة الإنجازات التي يعددها مسؤولو الحكومة وعلى رأسهم د. عبدالله حمدوك، ثم وزراء الحكومة المهمين، وفي فترة لاحقة خصوصاً بعد انقلاب 25 أكتوبر، مسؤولو الأحزاب المتبقية في قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت). أحاول هنا تفحص هذا الإنجاز المزعوم، والأداء المرتبك للدبلوماسية السودانية حينها، ودلالات تعامل قحت مع الأمرين سابقاً وحالياً على دورها في الواقع السياسي الراهن، مستعيناً في ذلك بمناقشة بعض تطورات أحداث الغزو الروسي لأوكرانيا.

تركة نظام الإنقاذ الكارثية على السودان شملت كل مجالات الحياة فيه، ولم يكن واقعياً الظن بأن حكومة الفترة الانتقالية قادرة على حل كل مشاكل البلاد في الفترة المحدودة للانتقال، خصوصاً مع الواقع السياسي الذي نتج عن اتفاق تقاسم السلطة المؤسس له. ولكن التركيز الكبير على "العودة لأحضان المجتمع الدولي" كان يبدو خللاً في ترتيب الأولويات، كما أن الأثمان المدفوعة لهذه العودة كانت تبدو غير مبررة في أعقاب ثورة أنهت عملياً الأسباب الموضوعية لبعد السودان عن تلك الأحضان.

ولو ذكرنا لأكثر الناس تشاؤماً في أعقاب سقوط نظام البشير أن حكومة الثورة ستقوم بدفع غرامات بمئات ملايين الدولارات، وتطبع مع إسرائيل، وتصبح دولة تابعة لأمريكا، وتواصل مشاركة السودان في حرب اليمن، وأن هذه الحكومة وحاضنتها السياسية تعتبران سجلهما هذا في العلاقات الخارجية إنجازاً مشهوداً لظن أن القواميس استبدلت معاني كلمتي إنجاز وفشل.

إدارة الحكومة الانتقالية لعلاقات السودان الخارجية

أداء الحكومة الانتقالية في ما بعد وضح نسقاً لخطابها الإعلامي وتواصلها مع الجماهير، يضخم نجاحات أو إنجازات محدودة أو متوهمة، ويطرق عليها بكثافة عبر وسائل رسمية ومجموعات من ورثة الجداد الإلكتروني المدافعين عنها ظالمة أو مظلومة. كان على رأس أدوات هذا الخطاب السيد عبدالله حمدوك نفسه الذي لم يفوت فرصة أي تطور مهما كان صغيراً في ملف عودة العلاقات الخارجية مع الدول الغربية ومنظماتها التمويلية دون أن يخاطب الشعب السوداني، وهو الذي كان مقلاً أو محتجباً عن مخاطبة الشعب السوداني في قضايا حياته ومعاشه أو موته.

بدا منذ الأيام الأولى للحكومة الانتقالية أن الدكتورحمدوك كان ممسكاً بملفي عودة علاقات السودان مع المجتمع الدولي ورفع العقوبات، ولم يظهر في أي وقت خلال فترة حكومتي الانتقال أن للخارجية السودانية استراتيجية واضحة وأولويات مدروسة تراعي تعقد الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية. كانت الحكومة راغبة في تحقيق انتصارات سريعة في هذه الجبهة بأي ثمن، وكان التركيز على رفع عقوبات الولايات المتحدة الأمريكية، واستعادة العلاقات الدبلوماسية معها ومع صندوق النقد والبنك الدوليين (وهو ما ضاق عملياً مفهوم المجتمع الدولي ليعنيه).

في سبيل ذلك تم تسليم ملفات مهمة لمسؤولين حكوميين سودانيين يحملون الجنسية الأمريكية، في مشهد عبثي لأبجديات تضارب المصالح، وتمت الاستجابة لرغبات السناتور الأمريكي مينينديز والالتزام بدفع غرامة تقدر بـ 355 مليون دولار تعويضاً لضحايا هجمات إرهابية في تسعينات القرن الماضي، كان جمعها من السوق الموازي سبباً أساسياً حينها لتدهور كبير في قيمة سعر صرف الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي.

ثم جاء ملف التطبيع مع إسرائيل الذي ابتدره البرهان بعلم وموافقة حمدوك (كما اتضح لاحقاً)، في خرق سافر للاتفاق المؤسس للفترة الانتقالية ووثيقتها الدستورية، وهو الخرق الذي وقفت أمامه معظم مكونات قحت صامتة إلا من اعتراضات خجولة تتوسل بإجراءات مستقبلية أقرب لتطييب الخواطر من الفعل السياسي. وهنا أيضاً تولى وزير سوداني يحمل الجنسية الأمريكية مسؤولية التفاوض مع الإسرائيليين والأمريكان والإماراتيين، في تكرار سخيف لجريمة تضارب المصالح.

كما تولى بنفس الصورة العبثية مسؤولون سودانيون يحملون الجنسية الأمريكية ومبتعثون من البنك الدولي للعمل في الحكومة السودانية بعض مسؤوليات تفاوض الحكومة السودانية مع البنك والصندوق لاستعادة العلاقات معهما، وهو ما كان من نتائجه موافقة كاملة على برامج الصندوق، رغم أن بعض تقارير هذه المؤسسات عبرت عن اعتقادها بقسوة تنفيذ هذه البرامج والمخاطر المتوقعة منها.

النظر بسطحية للعالم

كان واضحاً النظرة التبسيطية للعالم التي تحكم تفكير وخطط وأفعال القادة والساسة الذين تولوا أمور تسيير البلاد من الحكومة وقحت، وتتكون هذه النظرة/الرؤية/الاستراتيجية من:

• العسكر هم شركاء الفترة الانتقالية، ولكن جانبهم يبقى غير مأمون تماماً. يمكن محاولة كسب ثقتهم بالعمل معهم على تعزيز الشراكة والحوار المباشر، والحنك.

• القوى الإقليمية أقرب للعسكر، ولذلك يبقى جانبهم غير مأمون تماماً أيضاً. يمكن محاولة كسب ثقتهم ببناء علاقات اقتصادية وسياسية وشخصية أقوى، وبالحنك، وفي كل الأحوال فإنهم يأتمرون بأمر أمريكا في ما يتعلق بسياساتهم الخارجية.

• أمريكا هي الحليف الأهم والأقوى للحكومة المدنية، وهي التي بمقدورها حماية الانتقال من العسكر والقوى الإقليمية، والوقوف بوجه العسكر إذا اضطرت القوى المدنية لمواجهتهم، وبوجه القوى الإقليمية إذا قررت السفور عن وجهها بدعم العسكر.

• روسيا والصين أقرب للنظام البائد وللعسكر، وأكثر شكاً وعدم رغبة في التعامل بإيجابية مع القوى المدنية والتحول الديمقراطي. يمكن اتقاء شرهما بالدخول تحت الحماية الأمريكية (أو التحالف الأمريكي الغربي الإقليمي).

• تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو الطريق الأقرب لضمان الانضمام رسمياً للحلف الأمريكي الإقليمي والبرهنة للدول الإقليمية أن الحكومة والقوى المدنية هم حلفاؤها الذين يستحقون الدعم.

• قحت والحكومة يمكنها عن طريق أفراد لهم علاقات بأفراد أو مؤسسات أو منظمات أو حكومات أمريكا والدول الغربية والإقليمية التأثير على قراراتها وإقناعهم بوجهات نظر الحكومة والقوى المدنية. هذه العلاقات لها أشكال متعددة، منها أن هؤلاء الأفراد عاشوا في تلك الدول وقد قابلوا من قبل أو يمكنهم الآن أو في المستقبل مقابلة بعض مسؤوليها، أو أن بعض هؤلاء الأفراد السودانيين كانت لهم صلات وطيدة مع هذه الدول والأجهزة والمؤسسات تمكنهم من لعب دور مزدوج لصالح الانتقال. هذه الفئة تضخمت بعد بدء الفترة الانتقالية وأصبح العديد من القادة والمسؤولين بالحكومة والقوى السياسية يظنون أنهم يمكنهم أن يؤثروا على عمليات صنع القرار الدولية بفضل العلاقات التي خلقوها بحكم مواقعهم ومناصبهم، وبقدراتهم الحنكية العالية المجربة.

• الدبلوماسية السودانية قادرة على تحقيق اختراقات وسط القوى الإقليمية بالكلام المباشر مع مسؤوليها، واتخاذ مواقف مؤيدة صريحة لها (مثل الوقوف مع مصر ضد إثيوبيا في ملف سد النهضة)، وبالحنك.

• الطريقة الوحيدة لخروج الاقتصاد السوداني من أزمته الاتفاق مع مؤسسات التمويل الدولية وتنفيذ برامجها ووصفاتها، وإعفاء ديون السودان، والحصول على مساعدات مالية وفنية واستثمارات من المجتمع الدولي ودول الجوار الإقليمي.

• الحصول على الاستثمارات ممكن بالحنك، وبالبروشورات والبوسترات والبرزنتيشنات والفيديوهات المصنوعة باحترافية.

فرص ضائعة

انعكست هذه الرؤية التسطيحية الطفولية للعالم في مواقف وسياسات للحكومة الانتقالية وقحت بصورة لم تسهم في تغيير موازين القوى لصالح الشعب السوداني وقواه المدنية أثناء الفترة الانتقالية، وبعد انقلاب 25 أكتوبر. من هذه المواقف والسياسات والفرص الضائعة:

• لم يتم فتح نقاش حول علاقات السودان الخارجية على أي مستوى سياسي أو جماهيري أو أكاديمي أو على مستوى الخبراء بما يتلاءم مع أوضاع بلد خارج من ثلاثة عقود من السياسات الخارجية المتخبطة المتأرجحة بين دعم الإرهاب والعداء والارتزاق والفساد والعمالة والعنتريات والخداع والكذب وتغيير التحالفات وبيع الحلفاء.

• لم يحدث أي تغيير حقيقي في وزارة الخارجية، سوى إرجاع بعض الدبلوماسيين المفصولين للصالح العام، وإقالة بعض دبلوماسيي النظام بأداة لجنة إزالة التمكين، وتعيين بعض السفراء في بعض السفارات المهمة. وفي كل الأحوال، لم تكن هناك خطة ولا استراتيجية واضحة تم نقاشها بجدية على مستوى الوزارة أو الحكومة أو قحت لهذه التغييرات.

• تحديداً لم يتم نقاش أي استراتيجية، أو على الأقل الاتفاق على خطة عمل واضحة للتعامل مع العلاقات المعقدة والمصالح والمخاوف المتشابكة مع دول مهمة في الشأن السوداني كمصر، وأثيوبيا، والسعودية، والإمارات، وقطر، وتشاد، وتركيا. لا أعلم إن كان من اللائق أن أضيف لهذه القائمة جمهورية جنوب السودان.

• لم يتم البدء في حوار جاد مع الصين وروسيا، رغم تنبيه العديدين لأهميتهما.

• بصورة عملية احتفظ العسكر باليد العليا في علاقات السودان مع كل الدول السابق ذكرها، وسط رضا المسؤولين المدنيين بلعب دور صحبة راكب في الزيارات الرسمية لبعض هذه الدول، والغياب التام عن أنشطة العلاقات الرسمية المعلنة وغير المعلنة مع معظمها.

• لم يبد أن هناك استراتيجية للتعامل حتى مع الدول التي قررت حكومتنا الانتقالية أن تنحاز لها في الغرب، وكان واضحاً أن العلاقات معها تدار بصورة فردية خالية من التناغم والتنظيم، وتتلخص في اتصال ومقابلة أي مسؤول في أي مستوى وبأي صفة وظيفية لسفراء ودبلوماسيي ومبعوثي هذه الدول في السودان، والاعتماد على القدرات الحنكية الفردية الحقيقية أو المتوهمة.

• "اتفولح" المدنيون في انتقاد روسيا لدورها في دعم العسكر، وقد ظهرت هذه الفلاحة بصورة واضحة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد صور بعضهم الغزو وكأنه دليل على رجاحة موقف الحكومة الانتقالية بالانحياز لأمريكا والغرب باعتبارها دولاً ديمقراطية مقابل روسيا الدولة الديكتاتورية المجرمة. وقد اقترب الاحتفاء ببعد النظر الاستراتيجي هذا من تقسيم العالم إلى معسكر خير على رأسه أمريكا التي وقفنا معها، ضد معسكر شر على رأسه روسيا التي لم نتعب أنفسنا في الحوار معها.


husamom@yahoo.com

 

آراء