أما آن للمديوكرز “متوسطي المواهب والقدرات” والانتهازيين أن يتواروا عن المشهد السياسي السوداني؟ (3/3)
حسام عثمان محجوب
8 April, 2022
8 April, 2022
من "إنجازات" الحكومة الانتقالية: العودة لأحضان المجتمع الدولي – أما آن للمديوكرز "متوسطي المواهب والقدرات" والانتهازيين أن يتواروا عن المشهد السياسي السوداني؟
5 أبريل 2022
والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
هل كانت شجاعة قحت في إدانة الغزو الروسي وتأييدها الضمني للموقف الأمريكي نتيجة لتحليل استراتيجي متسم بالبراغماتية توصل إلى أن روسيا ستنهزم وسينتصر معسكر أمريكا والغرب؟ يبدو هذا رأي وسائل الإعلام الرسمية العالمية، وغالبية المحللين، ويبدو أنه رأي قادة ومنظري قحت أيضاً، وهو رأي لا يستطيع رؤية التغيرات الاستراتيجية على مستوى العالم، ويبدو أنه نتيجة منطقية لرهن الفكر والإرادة وتفسير التاريخ لرؤى وسياسات القطب الأمريكي الأوحد.
حسب الرواية المريحة الكسولة الأسهل والأكثر انتشاراً أن بوتين دكتاتور مصاب بجنون العظمة والبارانويا ولا يثق في أحد، وهو يعمل على إعادة بناء الامبراطورية السوفيتية أو الروسية، وأن خطته كانت أن يقوم جيشه باكتساح أوكرانيا كلها وبالذات عاصمتها كييف بما يسمح بتبديل الحكومة الأوكرانية بحكومة تابعة تضع أوكرانيا تحت السيطرة الروسية. وليس لبوتين حلفاء غير روسيا البيضاء، وروسيا ضعيفة المقدرات الاقتصادية تعتمد على صادرات الغاز والبترول لأوروبا والولايات المتحدة. ورغم عدم رغبة حلف الناتو في الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، لكن يمكن بمزيج من تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، وتطبيق عقوبات اقتصادية على روسيا، وعلى دائرة الأثرياء المقربين من بوتين (الأوليقاركس)، إضافة للصمود المبهر والمفاجئ للمواطنين والجيش الأوكرانيين، هزيمة طموحات بوتين.
ولكن هناك محللين يرون أن هذا الاستخفاف والتحليل الشعبوي الرغائبي يغفل كثيراً من الحقائق والاحتمالات على الأرض. بغض النظر عن شخصية بوتين ودكتاتوريته، فمن حقائق التاريخ المثبتة أن الحكومة الأمريكية تعهدت لميخائيل جورباتشوف الزعيم السوفيتي الأخير بعد بدء تفكك الكتلة الشرقية بأن لا يتمدد حلف الناتو شرقاً، وقد ظلت روسيا، خليفة الاتحاد السوفيتي الرسمية في المواثيق والعلاقات الدولية، تنظر بعين الريبة لانضمام دول أوروبا الشرقية لحلف الناتو، وعبرت مراراً عن أنها تعتبر ذلك تهديداً لأمنها وسلامة أراضيها. وحذرت بصرامة أنها تعتبر انضمام أوكرانيا للحلف تهديداً وجودياً لها. كان مسؤولو الولايات المتحدة ودبلوماسيوها على علم بجدية هذا التحذير، ولذلك فالحكومة الأمريكية على أعلى مستوياتها كانت تعلم أن شعور روسيا بالتهديد في أوكرانيا قد يقودها بصورة شبه مؤكدة للدخول في حرب، ومن الواضح أنه كان بإمكان الولايات المتحدة أن تقوم بدور أكثر فعالية بالحوار مباشرة مع روسيا لمنع الحرب، لا سيما وأنها تعلم أنها لن تغامر بالدخول في مواجهة عسكرية مباشرة معها، وأن نتيجة ذلك أن الحكومة الأوكرانية ستكون منفردة أمام أي هجوم روسي، وهو ما حدث ويحدث الآن.
أيضاً لا يمكن الجزم بخطط روسيا التفصيلية في حربها ضد أوكرانيا، وتبقى هناك العديد من السيناريوهات المحتملة غير سيناريو الاكتساح الشامل السريع وتبديل الحكومة. ورغم الصمود الأوكراني المدهش، إلا أن الإشارات المتواترة، وتصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي تقول أن إنهاء الحرب وتحقيق السلام سيلبي في النهاسة غالب مطالب روسيا التي أعلنتها قبل نشوب الحرب.
ويعلم الأمريكان والأوروبيون أن العقوبات الاقتصادية لا تكفي لإرغام روسيا على وقف الحرب، ولا لتغيير النظام، وأن اعتماد أوروبا (ألمانيا في أوضح الأمثلة) على الغاز الطبيعي الروسي سيستمر لفترة طويلة يقابلها مزيد من الضحايا الأبرياء في أوكرانيا. وهناك أنظمة عديدة استمرت رغم العقوبات الاقتصادية الأمريكية، ورغم تأثر شعوبها بهذه العقوبات، من بينها كوريا الشمالية وإيران وكوبا، بل وحتى نظام المؤتمر الوطني في السودان الذي استمر لما يزيد عن العقدين تحت وطأة الحظر الأمريكي. كما أن الاقتصاد الروسي ليس بالضعف الذي تصوره التقارير الإخبارية السطحية، فرغم أنه في المرتبة الحادية عشر عالمياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي GDP (Nominal)، خلف كل من أمريكا والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا والهند وفرنسا وإيطاليا وكندا وكوريا الجنوبية، إلا أنه يقع في المرتبة السادسة من حيث الناتج المحلي الإجمالي بحسب تعادل القوة الشرائية GDP (PPP) بعد الصين وأمريكا والهند واليابان وألمانيا، وهذا الناتج أهم من صنوه الاسمي في بعض المقارنات لا سيما لتحليل قوة الاقتصاد المحلي. إضافة لذلك، فإن روسيا مصدر مهم لعديد من المعادن، والمحاصيل الزراعية، والصناعات، والأسواق العالمية لن تستطيع الاستغناء عن الكثير من هذه المنتجات بدون أعباء كبيرة على الاقتصاد العالمي أو الاقتصادات المحلية لدول عديدة.
بعض المراقبين والمحللين الاستراتيجيين الجادين يرون أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يكون أحد مظاهر تأسيس نظام عالمي جديد، تنتهي فيه أحادية القطب الأمريكي الذي دشن هيمنته بعد انتهاء الحرب الباردة بخوض عدد من الحروب مثل حرب الخليج الأولى وحرب يوغسلافيا، ويبدأ عصر تلعب فيه الصين بعلاقاتها الاقتصادية التي بنتها بصبر عبر القارات دوراً يتناسب مع قواها الاقتصادية والبشرية. وتستند هذه التحليلات على موقف الصين من الصراع، والمدى الذي ستمضي إليه في أي تحالف متوقع مع روسيا، وقدرتها على الحد من أثر العقوبات الاقتصادية على روسيا، وعلى مواقف دول منظمة أوبك وعلى رأسها السعودية والإمارات التي يبدو أنها لم تستجب لكل طلبات الولايات المتحدة فيما يتعلق بزيادة إنتاج النفط لتعويض النفط الروسي، وعلى ما يبدو من تقدم في مفاوضات متطاولة بين السعودية والصين لاعتماد اليوان الصيني بديلاً للدولار في عمليات شراء الصين للنفط السعودي وما يحمله ذلك من تهديد لمكانة الدولار الأمريكي في التجارة العالمية، وللاقتصاد الأمريكي ككل.
مع من نقف؟
ليس المقصود من طرح هذه المواضيع في هذا المقال الدعوة للوقوف بجانب هذه الدولة أو تلك في كل الأمثلة السابقة، وليس مقصوداً أيضاً الإقرار بصحة موقف دولي أو خطأ آخر، رغم التأكيد على بديهيات مثل إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا بكل وضوح باعتبار الموقف المبدئي من الحروب، وباعتباره عملاً إجرامياً لا يمكن تبريره، وباعتبار تكلفته البشرية قبل أي شيء. قصدنا الاستدلال بمقاييس السياسة الدولية البراغماتية بواقعها الكائن لا المرتجى على فشل الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية، وعلى ضعف قدرات مسؤوليهما وكوادرهما. وما يهمنا هو مواقف بلادنا وسياسيينا، لا مواقف الدول الأخرى التي لها أن تدافع عن مصالحها بما تراه مناسباً ومتوافقاً مع قيمها وقدراتها وأدواتها، وحتى إن تدخلت في شؤوننا بما لا يرضينا ظل خطؤنا هو الأساس، ووجب إلقاء اللوم علينا وعلى ضعفنا وعجزنا وهواننا.
ختاماً: لماذا نقد حكومة الفترة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير؟
دفع الشعب السوداني ثمناً غالياً جداً نتيجة لضعف أداء حكومة الفترة الانتقالية وضعف أداء أو قدرات ممثلي وقيادات قوى إعلان الحرية والتغيير "حاضنتها السياسية". دفع شعبنا من أرواح وجراح وآلام أبنائه وبناته، وضيق معيشته، وتراجع أحلامه وآماله في استكمال مسيرة الثورة لتحقيق شعاراتها وتطلعاته في الحرية والسلام والعدالة والحياة الحرة الكريمة والمستقبل اللائق. ورغم أن القوى المتنفدة في قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) أظهرت في الأسابيع الأخيرة التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر وفي الأيام التي أعقبته مباشرة ما يبدو إدراكاً لمسؤوليتها عن الأخطاء الكبرى التي ساهمت في وصول أوضاع البلاد لما وصلت إليه، وأظهرت قبولاً لصوت ومطالب الشارع والجماهير التي عبرت عنها بكل وضوح وبدماء وأرواح عزيزة، إلا أنها عادت بعد فترة قصيرة تواصل نفس أساليب ممارستها السياسية الاستعلائية المنفصمة عن الشارع، والمدافعة عن رصيدها القاصر في فترة الحكومة الانتقالية، والمهاجمة للقوى الجماهيرية الثورية، والمتطلعة للخارج، وهي الآن تعيد ارتكاب نفس الأخطاء الكبرى التي قامت بها، مستخدمة ذات التعليلات والتحليلات، ونفس التكتيكات والشخوص.
من الخطير أن تمرهذه التجربة بهذا الثمن الغالي دون أن نستفيد منها، وما نشهده حالياً يظهر أن أحزاب قحت تسير رويداً في طريق فقدان اتصالها بالواقع والجماهير، وهي مصرة أن لا تسمع إلا صدى صوتها. ما زلت أرى أهمية وجود ودور معظم أحزاب قحت، وأن عليها أن تقوم بشجاعة بنقاش وكشف وانتقاد الأحداث والأدوار والمسؤوليات منذ بدايات اندلاع ثورة ديسمبر، ولا سيما في فترة الحكومة الانتقالية، فما يحدث اليوم ليس منعزلاً عن ما جرى منذ ديسمبر 2018 (وما قبله)، بل إن كثيراً من مواقف وأحداث اليوم نحتاج فيها لمعرفة جذورها وامتداداتها الماضية لنتمكن من التحليل المبني على معرفة أكبر بالتفاصيل والتجارب، وتجنب الوقوع في الأخطاء. وأرى إن تعذر القيام بذلك بالمستوى المطلوب أن تقوم هذه الأحزاب والقوى السياسية بتقديم رموز وقيادات أخرى غير التي أوصلتنا بضعفها أو أخطائها أو عنجهيتها أوانتهازيتها لهذا المنحدر الخطير في تاريخ شعبنا وثورتنا، لا سيما وأن هذه القوى قد عملت جاهدة على الانفراد بالسلطة والقرار طوال سنتي الحكومة الانتقالية.
وددت من هذا المقال تحديداً أن أساهم في عملية مراجعة أداء الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير التي وعدت بها قحت (ما تبقى من قوى إعلان الحرية والتغيير). فأنا أظن أن محاولة قحت استعادة ثقة الشعب السوداني تبدأ بالحديث الصريح معه، والتوقف عن ممارسة الكذب والخداع والفهلوة والاستهبال عليه، ومن ذلك الإصرار على أن الفشل في إدارة ملفي الاقتصاد ومعاش الناس، والعلاقات الخارجية كان إنجازاً.
ملحوظة:
أنا لا أتناول بالنقد العسكر الانقلابيين لأنهم مجرمون وانقلابيون وسافكو دماء يجب معاقبتهم على كل جرائمهم، وأنا لا أخاطبهم لأن ليس لهم أي شرعية ولا أخلاق أو ضمائر يمكنني التواصل معها.
husamom@yahoo.com
5 أبريل 2022
والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
هل كانت شجاعة قحت في إدانة الغزو الروسي وتأييدها الضمني للموقف الأمريكي نتيجة لتحليل استراتيجي متسم بالبراغماتية توصل إلى أن روسيا ستنهزم وسينتصر معسكر أمريكا والغرب؟ يبدو هذا رأي وسائل الإعلام الرسمية العالمية، وغالبية المحللين، ويبدو أنه رأي قادة ومنظري قحت أيضاً، وهو رأي لا يستطيع رؤية التغيرات الاستراتيجية على مستوى العالم، ويبدو أنه نتيجة منطقية لرهن الفكر والإرادة وتفسير التاريخ لرؤى وسياسات القطب الأمريكي الأوحد.
حسب الرواية المريحة الكسولة الأسهل والأكثر انتشاراً أن بوتين دكتاتور مصاب بجنون العظمة والبارانويا ولا يثق في أحد، وهو يعمل على إعادة بناء الامبراطورية السوفيتية أو الروسية، وأن خطته كانت أن يقوم جيشه باكتساح أوكرانيا كلها وبالذات عاصمتها كييف بما يسمح بتبديل الحكومة الأوكرانية بحكومة تابعة تضع أوكرانيا تحت السيطرة الروسية. وليس لبوتين حلفاء غير روسيا البيضاء، وروسيا ضعيفة المقدرات الاقتصادية تعتمد على صادرات الغاز والبترول لأوروبا والولايات المتحدة. ورغم عدم رغبة حلف الناتو في الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، لكن يمكن بمزيج من تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، وتطبيق عقوبات اقتصادية على روسيا، وعلى دائرة الأثرياء المقربين من بوتين (الأوليقاركس)، إضافة للصمود المبهر والمفاجئ للمواطنين والجيش الأوكرانيين، هزيمة طموحات بوتين.
ولكن هناك محللين يرون أن هذا الاستخفاف والتحليل الشعبوي الرغائبي يغفل كثيراً من الحقائق والاحتمالات على الأرض. بغض النظر عن شخصية بوتين ودكتاتوريته، فمن حقائق التاريخ المثبتة أن الحكومة الأمريكية تعهدت لميخائيل جورباتشوف الزعيم السوفيتي الأخير بعد بدء تفكك الكتلة الشرقية بأن لا يتمدد حلف الناتو شرقاً، وقد ظلت روسيا، خليفة الاتحاد السوفيتي الرسمية في المواثيق والعلاقات الدولية، تنظر بعين الريبة لانضمام دول أوروبا الشرقية لحلف الناتو، وعبرت مراراً عن أنها تعتبر ذلك تهديداً لأمنها وسلامة أراضيها. وحذرت بصرامة أنها تعتبر انضمام أوكرانيا للحلف تهديداً وجودياً لها. كان مسؤولو الولايات المتحدة ودبلوماسيوها على علم بجدية هذا التحذير، ولذلك فالحكومة الأمريكية على أعلى مستوياتها كانت تعلم أن شعور روسيا بالتهديد في أوكرانيا قد يقودها بصورة شبه مؤكدة للدخول في حرب، ومن الواضح أنه كان بإمكان الولايات المتحدة أن تقوم بدور أكثر فعالية بالحوار مباشرة مع روسيا لمنع الحرب، لا سيما وأنها تعلم أنها لن تغامر بالدخول في مواجهة عسكرية مباشرة معها، وأن نتيجة ذلك أن الحكومة الأوكرانية ستكون منفردة أمام أي هجوم روسي، وهو ما حدث ويحدث الآن.
أيضاً لا يمكن الجزم بخطط روسيا التفصيلية في حربها ضد أوكرانيا، وتبقى هناك العديد من السيناريوهات المحتملة غير سيناريو الاكتساح الشامل السريع وتبديل الحكومة. ورغم الصمود الأوكراني المدهش، إلا أن الإشارات المتواترة، وتصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي تقول أن إنهاء الحرب وتحقيق السلام سيلبي في النهاسة غالب مطالب روسيا التي أعلنتها قبل نشوب الحرب.
ويعلم الأمريكان والأوروبيون أن العقوبات الاقتصادية لا تكفي لإرغام روسيا على وقف الحرب، ولا لتغيير النظام، وأن اعتماد أوروبا (ألمانيا في أوضح الأمثلة) على الغاز الطبيعي الروسي سيستمر لفترة طويلة يقابلها مزيد من الضحايا الأبرياء في أوكرانيا. وهناك أنظمة عديدة استمرت رغم العقوبات الاقتصادية الأمريكية، ورغم تأثر شعوبها بهذه العقوبات، من بينها كوريا الشمالية وإيران وكوبا، بل وحتى نظام المؤتمر الوطني في السودان الذي استمر لما يزيد عن العقدين تحت وطأة الحظر الأمريكي. كما أن الاقتصاد الروسي ليس بالضعف الذي تصوره التقارير الإخبارية السطحية، فرغم أنه في المرتبة الحادية عشر عالمياً من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي GDP (Nominal)، خلف كل من أمريكا والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا والهند وفرنسا وإيطاليا وكندا وكوريا الجنوبية، إلا أنه يقع في المرتبة السادسة من حيث الناتج المحلي الإجمالي بحسب تعادل القوة الشرائية GDP (PPP) بعد الصين وأمريكا والهند واليابان وألمانيا، وهذا الناتج أهم من صنوه الاسمي في بعض المقارنات لا سيما لتحليل قوة الاقتصاد المحلي. إضافة لذلك، فإن روسيا مصدر مهم لعديد من المعادن، والمحاصيل الزراعية، والصناعات، والأسواق العالمية لن تستطيع الاستغناء عن الكثير من هذه المنتجات بدون أعباء كبيرة على الاقتصاد العالمي أو الاقتصادات المحلية لدول عديدة.
بعض المراقبين والمحللين الاستراتيجيين الجادين يرون أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يكون أحد مظاهر تأسيس نظام عالمي جديد، تنتهي فيه أحادية القطب الأمريكي الذي دشن هيمنته بعد انتهاء الحرب الباردة بخوض عدد من الحروب مثل حرب الخليج الأولى وحرب يوغسلافيا، ويبدأ عصر تلعب فيه الصين بعلاقاتها الاقتصادية التي بنتها بصبر عبر القارات دوراً يتناسب مع قواها الاقتصادية والبشرية. وتستند هذه التحليلات على موقف الصين من الصراع، والمدى الذي ستمضي إليه في أي تحالف متوقع مع روسيا، وقدرتها على الحد من أثر العقوبات الاقتصادية على روسيا، وعلى مواقف دول منظمة أوبك وعلى رأسها السعودية والإمارات التي يبدو أنها لم تستجب لكل طلبات الولايات المتحدة فيما يتعلق بزيادة إنتاج النفط لتعويض النفط الروسي، وعلى ما يبدو من تقدم في مفاوضات متطاولة بين السعودية والصين لاعتماد اليوان الصيني بديلاً للدولار في عمليات شراء الصين للنفط السعودي وما يحمله ذلك من تهديد لمكانة الدولار الأمريكي في التجارة العالمية، وللاقتصاد الأمريكي ككل.
مع من نقف؟
ليس المقصود من طرح هذه المواضيع في هذا المقال الدعوة للوقوف بجانب هذه الدولة أو تلك في كل الأمثلة السابقة، وليس مقصوداً أيضاً الإقرار بصحة موقف دولي أو خطأ آخر، رغم التأكيد على بديهيات مثل إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا بكل وضوح باعتبار الموقف المبدئي من الحروب، وباعتباره عملاً إجرامياً لا يمكن تبريره، وباعتبار تكلفته البشرية قبل أي شيء. قصدنا الاستدلال بمقاييس السياسة الدولية البراغماتية بواقعها الكائن لا المرتجى على فشل الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية، وعلى ضعف قدرات مسؤوليهما وكوادرهما. وما يهمنا هو مواقف بلادنا وسياسيينا، لا مواقف الدول الأخرى التي لها أن تدافع عن مصالحها بما تراه مناسباً ومتوافقاً مع قيمها وقدراتها وأدواتها، وحتى إن تدخلت في شؤوننا بما لا يرضينا ظل خطؤنا هو الأساس، ووجب إلقاء اللوم علينا وعلى ضعفنا وعجزنا وهواننا.
ختاماً: لماذا نقد حكومة الفترة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير؟
دفع الشعب السوداني ثمناً غالياً جداً نتيجة لضعف أداء حكومة الفترة الانتقالية وضعف أداء أو قدرات ممثلي وقيادات قوى إعلان الحرية والتغيير "حاضنتها السياسية". دفع شعبنا من أرواح وجراح وآلام أبنائه وبناته، وضيق معيشته، وتراجع أحلامه وآماله في استكمال مسيرة الثورة لتحقيق شعاراتها وتطلعاته في الحرية والسلام والعدالة والحياة الحرة الكريمة والمستقبل اللائق. ورغم أن القوى المتنفدة في قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت) أظهرت في الأسابيع الأخيرة التي سبقت انقلاب 25 أكتوبر وفي الأيام التي أعقبته مباشرة ما يبدو إدراكاً لمسؤوليتها عن الأخطاء الكبرى التي ساهمت في وصول أوضاع البلاد لما وصلت إليه، وأظهرت قبولاً لصوت ومطالب الشارع والجماهير التي عبرت عنها بكل وضوح وبدماء وأرواح عزيزة، إلا أنها عادت بعد فترة قصيرة تواصل نفس أساليب ممارستها السياسية الاستعلائية المنفصمة عن الشارع، والمدافعة عن رصيدها القاصر في فترة الحكومة الانتقالية، والمهاجمة للقوى الجماهيرية الثورية، والمتطلعة للخارج، وهي الآن تعيد ارتكاب نفس الأخطاء الكبرى التي قامت بها، مستخدمة ذات التعليلات والتحليلات، ونفس التكتيكات والشخوص.
من الخطير أن تمرهذه التجربة بهذا الثمن الغالي دون أن نستفيد منها، وما نشهده حالياً يظهر أن أحزاب قحت تسير رويداً في طريق فقدان اتصالها بالواقع والجماهير، وهي مصرة أن لا تسمع إلا صدى صوتها. ما زلت أرى أهمية وجود ودور معظم أحزاب قحت، وأن عليها أن تقوم بشجاعة بنقاش وكشف وانتقاد الأحداث والأدوار والمسؤوليات منذ بدايات اندلاع ثورة ديسمبر، ولا سيما في فترة الحكومة الانتقالية، فما يحدث اليوم ليس منعزلاً عن ما جرى منذ ديسمبر 2018 (وما قبله)، بل إن كثيراً من مواقف وأحداث اليوم نحتاج فيها لمعرفة جذورها وامتداداتها الماضية لنتمكن من التحليل المبني على معرفة أكبر بالتفاصيل والتجارب، وتجنب الوقوع في الأخطاء. وأرى إن تعذر القيام بذلك بالمستوى المطلوب أن تقوم هذه الأحزاب والقوى السياسية بتقديم رموز وقيادات أخرى غير التي أوصلتنا بضعفها أو أخطائها أو عنجهيتها أوانتهازيتها لهذا المنحدر الخطير في تاريخ شعبنا وثورتنا، لا سيما وأن هذه القوى قد عملت جاهدة على الانفراد بالسلطة والقرار طوال سنتي الحكومة الانتقالية.
وددت من هذا المقال تحديداً أن أساهم في عملية مراجعة أداء الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير التي وعدت بها قحت (ما تبقى من قوى إعلان الحرية والتغيير). فأنا أظن أن محاولة قحت استعادة ثقة الشعب السوداني تبدأ بالحديث الصريح معه، والتوقف عن ممارسة الكذب والخداع والفهلوة والاستهبال عليه، ومن ذلك الإصرار على أن الفشل في إدارة ملفي الاقتصاد ومعاش الناس، والعلاقات الخارجية كان إنجازاً.
ملحوظة:
أنا لا أتناول بالنقد العسكر الانقلابيين لأنهم مجرمون وانقلابيون وسافكو دماء يجب معاقبتهم على كل جرائمهم، وأنا لا أخاطبهم لأن ليس لهم أي شرعية ولا أخلاق أو ضمائر يمكنني التواصل معها.
husamom@yahoo.com